الدكتور بهيج سكاكيني
لا أحد ينكر ان لبنان يعايش أوضاعا صعبة على جميع الأصعدة الاجتماعية، والاقتصادية، والصحية والمالية والسياسية. ويزيد من هذه الأوضاع تفاقما والتي في معظمها مختلق وبنوايا خفية التدخلات الفجة والعلنية من قبل دول إقليمية وعلى راسها السعودية وكذلك دولية وعلى راسها الولايات المتحدة لأغراض لم تعد خافية على أحد فقد كان وما زال في صلب هذه النوايا هو محاربة حزب الله وبيئته وحاصنته الشعبية وإقصاءه عن الحكومة اللبنانية بالغم ان مكون أساسي من النسيج الاجتماعي والسياسي في لبنان. أضف الى هذه التدخلات الإقليمية والدولية وجود طبقة سياسية ضالعة في الفساد المالي ونهب مقدرات لبنان الى جانب الفساد السياسي والتي تحاول ان تجر لبنان الى موقع يتماهى مع السياسة الامريكية في المنطقة.
ولقد تكشف حجم المؤامرة الدولية والاقليمية واخطبوط المالي والفساد في الداخل اللبناني من خلال أزمة الوقود وعدم توفر الدواء والمواد الغذائية والتموينية الأساسية الغذاء السوق اللبناني والارتفاع الجنوني لأسعار هذه المواد على اثر تدهور الليرة اللبنانية لدرجة لا يستطيع العقل استيعابها وذهاب لبنان الى منحى خطير للوصول الى فقدان السيطرة وتحوله الى دولة فاشلة بامتياز.
هذه المؤامرة تكشفت على العلن عندما قام حزب الله وبعد صبر استراتيجي كبير لاستيراد الديزل والسولار والبنزين من إيران ووصول شحنات إيرانية الى لبنان لتخفيف الازمة الخانقة للوقود والتي أدت الى توقف عجلة الاقتصاد اللبناني بالكامل وتعطل كثير من المرافق الصحية والافران…الخ نتيجة عدم توفر الطاقة اللازمة لتشغيلها. لقد ظهر للجميع الدور القذر الذي لعبته السفيرة الامريكية في بيروت كما وظهر ان أمريكا هي من كانت وراء محاولة ليس فقط الخنق الاقتصادي بل وأيضا وراء ازمة الوقود والأدوية والمواد التموينية ومنع اية دولة من تقديم اية مساعدة للحكومة اللبنانية والايعاز لأدواتها بتخزين كميات هائلة من البنزين وغيرها لإحداث نقمة شعبية وتحميل المسؤولية لحزب الله وبالتالي تصويب النقمة الشعبية عليه على وجه التحديد. كل هذا تبين وبشكل واضح وخاصة مع إعطاء الضوء الأخضر من قبل الإدارة الامريكية للأردن والعراق ومصر على القيام بمساعدة لبنان في ازمته وخاصة فيما يختص بالمحروقات والأدوية وإيصال الكهرباء عن طريق الأردن وسوريا وكل هذا تم من اجل قطع الطريق على المكتسبات التي حققها حزب الله بكسر الحصار الاقتصادي وتحدي الإدارة الامريكية في قضية إنسانية بالدرجة الأولى التي اخرست كل ادواتها اللذين لم يجدوا ما يقولونه ولم يتجرأ اين منهم في مهاجمة الخطوة التي اتخذها حزب الله لان هذا كان يعني ببساطة انهم مشاركين في الحصار وتضيق الخناق على الشعب اللبناني بأسره وافتضاح امرهم وزيف تصريحاتهم لذلك لاذوا بالصمت.
وكان من الطبيعي ان تتقدم بعض الدول المناوئة للسياسة الامريكية في المنطقة في مبادرات لمساعدة لبنان من طرف وأيضا لتحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والسياسية وعلى وجه الخصوص للتصدي للعربدة الامريكية في المنطقة كما هي في المناطق الأخرى. وأول من قام بتقديم مبادرة عملية كانت الصين الذي وصل وفد منها الى لبنان وقدم عرضا لإعادة بناء وتأهيل ميناء بيروت الى جانب بناء بنى تحتية في لبنان للنهوض بالبلد اقتصاديا ولم تضع شروط وخاصة في قضية دفع التكاليف لأنها مدركة تماما بما يعنيه لبنان من ازمة اقتصادية خانقة وعدم وجود السيولة في البنك المركزي. فشلت هذه المبادرة للسبب الرئيس وهو الضغوطات التي تعرض لها لبنان من الولايات المتحدة في حالة اخذ القرار بالتوجه الى الصين وجاء هذا التهديد على لسان السفيرة الامريكية في لبنان. وعاد الوفد الصيني دون التوصل الى أي اتفاق وبقيت المبادرة على الرف السياسي.
ومنذ عدة أيام تقدم الجانب الروسي بمبادرة كما ذكر من بنودها لإقامة محطات لتكرير النفط (أربعة او ستة) على ان يتم بناء اول محطة في غضون ستة أشهر وتتكفل الشركات الروسية بتزويد لبنان بما يحتاجه من نفط وغاز طيلة الفترة لغاية استكمال بناء محطات التكرير والاهم من ذلك انها لا تتطلب من الحكومة اللبنانية تسديد أي من النفقات بالدولار وان يتم السداد على دفعات وبالليرة اللبنانية او بتصدير منتجات زراعية او غيرها الى روسيا. بمعنى ان هنالك اريحية تامة لتنفيذ هذا المشروع الحيوي والاستراتيجي ولن تجد الحكومة اللبنانية انها مضطرة للجوء الى صندوق النقد الدولي للاستدانة وتحمل عبء السداد والرضوخ الى الشروط الاقتصادية المجحفة التي يفرضها البنك الدولي على الحكومة اللبنانية اتخاذها قبل صرف المعونة او القرض والتي في نهاية المطاف ستسبب ضررا بالغا في الاقتصاد اللبناني الذي سيعاد هيكلته وتضع أعباء جديدة على الطبقات المسحوقة والفقراء وزيادة مصاعب المعيشة لهم بعد رفع الدعم الحكومي عن السلع الرئيسية والذي عادة ما يكون احد الشروط الرئيسية لصرف القروض.
وفي الزيارة الأخيرة للبنان عرض وزير خارجية إيران على السلطات اللبنانية ان تقوم الشركات الإيرانية ببناء محطتي لتوليد الطاقة الكهربائية لسد جزء من الاحتياجات لبنان ودون شروط وعدم التعامل بالدولار الذي يفتقده البنك المركزي اللبناني وهذا بدوره سيخفف من الأعباء المادية على لبنان والضغوطات السياسية والاقتصادية من قبل البنك الدولي. وأبدى استعداد ايران بتقديم المساعدات اللازمة ومد ايد العون للبنان ومساعدته للخروج من أزماته.
هذه العروض الثلاث جميعها تصب في مصلحة لبنان وتعطيه الفرصة للنهوض بالاقتصاد اللبناني وتخفيف الأعباء المالية والسياسية عليه الذي تمارس من أطراف تكشفت عورتها في الفترة الأخيرة وأهدافها من خلال محاصرة لبنان على وجه التحديد الذي أصبح واضحا للقاصي والداني. ولكن السؤال يبقى هل ستتجرأ النخبة السياسية المتحكمة في لبنان باتخاذ قرار سياسي بالتوجه شرقا للصين او لروسيا على الأقل أو بالأحرى هل تملك هذه النخب النية أو السيادة التي تؤهلها لاتخاذ هكذا قرار أو انها ستبقى رهينة ومطية للولايات المتحدة والسعودية على وجه التحديد؟
ميقاتي ما زال ينتظر المدد من “الأخ الأكبر” بمعنى من السعودية في احدى تعليقاته على المحروقات التي وصلت من إيران ولكن “الأخ الأكبر” غير راضي على تشكية الحكومة ولا عن عدم إقصاء حزب الله ولم تنفع الوساطة الفرنسية التي قان بها ماكرون لإقناع محمد بن سلمان الحاكم الفعلي في السعودية للتراجع عن هذا الموقف المتصلب. وهذا يضع لبنان والنخب السياسية امام خيارين لا ثالث لهما وهو إما التوجه الى صندوق النقد الدولي والقبول بشروطه المجحفة بحق الشعب اللبناني والسيادة اللبنانية والخضوع للرغبات الامريكية المتحكمة بقرار صندوق البنك الدولي وإما التوجه شرقا للتخلص من التبعية والتوجه الى فرض السيادة اللبنانية. ولكن هذا من الصعب تحقيقه ضمن التركيبة السياسية في لبنان ومع بقاء رياض سلامة المتحكم بالبنك المركزي اللبناني والذي على ما يبدو يصعب اقتلاعه بالرغم من الدور الذي لعبه في الأزمة الاقتصادية والهبوط الحاد الغير مسبوق في سعر الليرة اللبنانية.
كاتب وباحث اكاديمي فلسطيني
Source: Raialyoum.com