فهذه الحلقة التاسعة عشر من برنامجكم: [التنمية البشرية بين المادية والروحانية] ….. وقد قلنا في الحلقة الماضية أن الإنسانَ في ذاتِه عبد مملوك لله تعالى خُلق من ضَعف، وينتهي إلى ضعف … ولكنه نظراً للرسالةِ التي حمّله الله إياها يتمتعُ بصفاتٍ نادرة خصّه اللهُ بها…
وعن ذلك قال تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } … أورث الله الإنسانَ العقلَ والتفكير، وسخّر له كثيراً من الحيوانات والمخلوقات … وغرس في كيانه حبَّ الذات … والأنانية … حبَّ التملك … حريةَ اختيار الأشياء … زوده بالطاقة والقوة … والتخطيطِ والترتيب … والقدرةِ على اتخاذِ القرار بعكس ما تقتضيه الغريزة … وهذا أمر لا يتوفر في باقي المخلوقات … والواقعُ أن هذه الصفاتِ التي تمتعُ بها الإنسانُ هي فيوضاتٌ من صفاتِ الربوبية … أنعم الله بها على الإنسان … ليستعينَ بها على القيام بمهمته … هذه المهمةُ هي في قوله تعالى: { هو أنشأكم من الأرضِ واستعمركم فيها } … وحاصل هذه التبصرةِ والرؤية عن عنصر الحضارةِ الأبرز (الإنسان)؛ أن الإنسانَ الذي يعيشُ وهو لا يدركُ إلا ضعفَه وعجزَه وتفاهته وهوانَه، وهو أنه … مع مرورِ الوقتِ يركنُ إلى الضعفِ والذل والهوان … ويكون ضحيةً لأي طغيان … ويستخفُ به الناس … وتراهُ لا يعرف كيف ينقلُ نفسَه من حالِ ذلها هذا … ذلك لأنه يعيش فيه … في داخلِه … وتراه عاجزاً … عن القيامِ بأي خدمةٍ إنسانية … وعاجزاً عن القيامِ بأي بنيانٍ حضاري … يعيش على هامشِ الحياة … وأيضاً من عاش … وهو لا يعرفُ من ذاتِه إلا صفاتِ التكريمِ التي في كيانه … وما يعطيه الحقَّ بأن يبسطَ نفوذه وسلطانَه على كل ما حوله وما دونه … حريٌّ به أن يسكرَ بنشوة تلك الصفاتِ التي هي فيوضاتٌ من صفاتِ الربوبية … ثم يبسطَ قهرَ ربوبيته الزائفة على سائر المستضعفين … وهنا يكمنُ التطرُفُ في حالة الإنسانِ الأول … إلى الذلِّ والمهانة … والخضوعِ، وفي حالة الإنسانِ الثاني إلى الصلفِ والتجبُّر. وانطلقتِ القصةُ كلها من أنه لم يفهمْ هويتَه بشطرَيها الأرضي والعلوي … وبالتالي لن يعيَ مهمته الحضارية الملقاةَ على عاتقه … ونلاحظُ أن القَصصَ القرآني كثيراً ما ذكر هذه الحالة الإنسانية … قال معبراً عن حالةِ فِرعونَ وكبْرِه وحالِ قومه معه: { فاستخفَّ قومَه فأطاعوه } … فهو يرسمُ صورةً لاستخفافِ فرعونَ بالناسِ وتكبرِه عليهم … وذلك لشعوره بتكريمِه … وعدم الانتباهِ للشطرِ الأول من حقيقتِه التي تتمثلُ بتفاهته وضعفِه … وكذلك قومُه يرسمون صورةً أخرى أطاعوه من خلالها … هي استشعارُهم لحقيقةِ ضعفهم ومهانتهم … وعدم انتباهِهم للشطر الثاني من حقيقتهم التي تتمثلُ بتكريمِ الإنسان … وفيوضاتِ صفات الربوبية التي متّعه الله بشيءٍ منها … فما فسدت هذه الأرضُ يوماً بسببِ كوارثَ طبيعيةٍ … ولا بسوءٍ ألمَّ بها من هياجِ الحيواناتِ والوحوش … وإنما استشرى بها الفساد … يوم تاه بنو آدم عن هويتهم بشقّيها … فتألّه الأقوياء … وذلَّ الضعفاء … وخرج بذلك كل فريقٍ عن حدودِ إنسانيته، الأول نحو التعالي والتجبرِ على الأرض … والعتوِّ والطغيان … والثاني نحو الخنوعِ والخضوع وتقبلِ الهوان … فتقطعت سبلُ التعاون … وظهرتِ الحروب … وكثرتِ الضغائنُ بين الناس … وكثرَ الحسدُ والحقد وهكذا دائماً في الماضي … والحاضر … وفي المستقبل … في الغرب … والشرق … وفي الشمال والجنوب … هكذا دائماً هي قصةُ الفساد … يتعددُ شكلُ الفسادِ ويتنوّع … إلا أن جذورَه هي هذا الضياعُ عن الهوية … إذن أول تنميةٍ بشرية كانت للجيلِ الذي بنى وأسس للحضارةِ الإسلامية … كانت تعريفَه بهويته، وإلى اللقاء في الخلقة القادمة إن شاء الله تعالى، واسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.