التحذير من فتنة التكفير

التحذير من فتنة التكفير التكفير فتنة عظيمة وآفة خطيرة مزقت جسد الأمة الإسلامية في القديم وما زالت تفعل ذلك في عصرنا هذا ومن المعلوم أن هذه الفتنة كانت أول البدع والفتن ظهورا في الإسلام فقد ظهرت مبكرا في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم في خلافة سيدنا علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين..

التحذير من فتنة التكفير

التكفير فتنة عظيمة وآفة خطيرة، مزقت جسد الأمة الإسلامية في القديم، وما زالت تفعل ذلك في عصرنا هذا.
ومن المعلوم أن هذه الفتنة كانت أول البدع والفتن ظهوراً في الإسلام، فقد ظهرت مبكرا في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، في خلافة سيدنا علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، فخرج عليه الخوارج بعد أن حكموا عليه بالكفر ومن معه، فظاهرة التكفير هي أصل الخوارج ومن تبعهم من الفرق الضالة والجماعات المعاصرة المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة.

وأصل هذه الفتنة يقوم على أمرين:
الأمر الأول: هو الجهل بدين الله تبارك وتعالى، وبمعاني آياته وأحكامه.
والثاني: الغلو في إصدار الأحكام، والتعنت في التعامل مع أصول الدين وقواعده.
ودين الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، وهو بين الغالي فيه والجافي عنه، وهو وسط بين طرفين، وكل جنوح عن جادة الكتاب والسنة وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ميل عن الصواب وبعد عن الجادة.

التحذير من الغلو

وقد حذر ربنا في كتابه ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته من الغلو والتشدد عموما، وعن الغلو في تكفير أهل القبلة خصوصا في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية:
فأما النهي العام: فمثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}[المائدة:171]..
قال الإمام ابن جرير الطبري: أصل “الغلو” في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه. يقال منه في الدين: “قد غلا فهو يغلو غلوًّا “، وقال في تفسير الآية: “لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه”.

وقال الإمام القرطبي: “قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} نهي عن الغلو. والغلو التجاوز في الحد؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها؛ ويعني بذلك – فيما ذكره المفسرون – غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربَّا؛ فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر”.
وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد .. .. كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر :
عليك بأوساط الأمور فإنها .. .. نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: “ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه، ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا”.

وقال الشيخ السعدي رحمه الله: ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر المشروع إلى ما ليس بمشروع. وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى عليه السلام، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله، فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات، فالغلو كذلك”.

ومن الأدلة أيضا قوله سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}[المائدة:77].
قال الشيخ السعدي: “يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل”.
وقال الطبري شيخ المفسرين: “لا تغلوا في دينكم”، يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل”.
وقال البغوي: “لا تتجاوزوا الحد، والغلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين”.

وأما الأحاديث.. فمنها:
ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيُّها النَّاسُ إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ فإنَّهُ أهْلَكَ من كانَ قبلَكُمُ الغلوُّ في الدِّينِ).
ومعنى قوله صلوات الله وسلامه عليه: “إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ”، أي: أحذركم من مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ، ولكن عليكم بالوسَطيَّةِ في كلِّ شيءٍ؛ “فإنَّما أهلَك مَن كان قبْلَكم” مِن الأُممِ السَّابقةِ، “الغُلوُّ في الدِّينِ”، أي: مُجاوزةُ الحدِّ، والتَّشدُّدُ في الدِّينِ بالإفراطِ؛ فهو سببُ الهلاكِ والبَوارِ”.
وفي الحديث نهي عن الغلو وبيان سوء عاقبته، ودعوة للاعتبار بمن سبقنا من الأمم لتجنب ما وقعوا فيه من الأخطاء، والحث على الاعتدال في العبادة وغيرها بين جانبيّ الإفراط والتفريط.

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (هلك المُتَنَطِّعُون) قالها ثلاثا. والحديث رواه مسلم.
والتنطع هو التكلف والمغالاة في القول والفعل، فالمتنطع هو المتكلف المتعمق المتشدد.
وهلك: هنا إما بمعنى الإخبار أن عاقبته إلى هلاك وانقطاع. وإما بمعنى الدعاء عليه به.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد عموما فقال: (لا تُشدِّدوا فيُشدِّدِ اللهُ عليكم)[رواه أبو داود ].

النهي عن تكفير المسلمين:
وأما النهي عن المغالاة في تكفير أهل القبلة من المسلمين فقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنها والتحذير من الوقوع فيها.. فمن ذلك:
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن لعن المسلم والحكم عليه بالكفر كقتله، وذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (…، ومن لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله).

ثانيا: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي الله عليه وسلم: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه).

ثالثا: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما).
وقد رواه البخاري في بَاب من كفّر أَخَاهُ بِغَيْر تَأْوِيل فَهُوَ كَمَا قال.
وقد قال صاحب “المتواري على تراجم أبواب البخاري: ص362”: “حمل البُخَارِيّ قَوْله: (فقد بَاء بِهِ أَحدهمَا) على تَحْقِيق الْكفْر على أَحدهمَا؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ صَادِقا فالمرمى كَافِر، وَإِن كَانَ كَاذِبًا فقد جعل الرَّامِي الْإِيمَان كفرا، وَمن جعل الْإِيمَان كفرا فقد كفر، وَلأَجل هَذَا ترْجم عَلَيْهِ مقيّداً بِغَيْر تَأْوِيل”.

وقال بدر الدين العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري: (فقد بَاء بِهِ أَحدهمَا) أَي: رَجَعَ بِهِ أَحدهمَا؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ صَادِقا فِي نفس الْأَمر فالمقول لَهُ كَافِر، وَإِن كَانَ كَاذِبًا فالقائل كَافِر لِأَنَّهُ حكم بِكَوْن الْمُؤمن كَافِرًا أَو الْإِيمَان كفر”.
وَقَالَ الْخطابِيّ: بَاء بِهِ الْقَائِل إِذا لم يكن لَهُ تَأْوِيل.
وَقَالَ ابْن بطال يَعْنِي: بَاء بإثم رميه لِأَخِيهِ بالْكفْر، أَي: رَجَعَ وزر ذَلِك عَلَيْهِ إِن كَانَ كَاذِبًا، وَقيل: يرجع عَلَيْهِ إِثْم الْكفْر؛ لِأَنَّهُ إِذا لم يكن كَافِرًا فَهُوَ مثله فِي الدّين فَيلْزم من تكفيره تَكْفِير نَفسه لِأَنَّهُ مساويه فِي الْإِيمَان، فَإِن كَانَ مَا هُوَ فِيهِ كفرا فَهُوَ أَيْضا فِيهِ ذَلِك، وَإِن كَانَ اسْتحق المرمي بِهِ بذلك كفرا فَيسْتَحق الرَّامِي أَيْضا، وَقيل: مَعْنَاهُ أَنه يؤول بِهِ إِلَى الْكفْر لِأَن الْمعاصِي تزيد الْكفْر وَيخَاف على المكثر مِنْهَا أَن تكون عَاقِبَة شؤمها الْمصير إِلَيْهِ”.

والخلاصة
هو التحذير الشديد والوعيد لكل من رمى أحدا من المسلمين بالكفر من غير دليل دامغ أو غير تأويل مقبول واضح سائغ.. ولهذا كان الأئمة يحترزون من ذلك أشد الاحتراز، ويخوفون من الوقوع فيه أشد التخويف..
قال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: “فالواجب في النظر ألا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة” [التمهيد: 17/22].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ فإن ذلك أعظم من قتله” [الاستقامة لابن تيمية:1/165].
وقال العلامة تقي الدين السبكي: “إن الإقدام على تكفير المؤمنين عَسِرٌ جدا، وكل من كان في قلبه إيمانٌ يستعظمُ القولَ بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن التكفيرَ أمرٌ هائلٌ عظيمُ الخطر“.

وقال الشوكاني -رحمه الله-: “اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار” انتهى من [السيل الجرار: 4/578].

فعلى كل مسلم أن يتقي الله تعالى، ويحفظ لسانه، ويحمي نفسه من الوقوع في هذا الأمر الخطير والخطب الهائل العظيم، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه. 

Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *