الشاعر أحمد هاشم الريسوني: سؤال الذات في علاقتها بالوجود هو دافعي للكتابة

من أصيلة الفاتنة الزرقاء التي تعانق «أزرق» المحيط الأطلسي ينحدر الشاعر، وهو سليل أسرة محافظة وصوفية تنحدر إلى الجد المجاهد مولاي أحمد الريسوني، وسليل الحداثة الشعرية في شمال المغرب، التي بادرت إلى تجديد القصيدة المغربية بحكم اتصالها المباشر والمثمر مع الحركة الشعرية الإسبانية، وكان للشاعر محمد الصباغ دور حاسم فيها، إذ «اقترف» خاصية النثر في […]

الشاعر أحمد هاشم الريسوني: سؤال الذات في علاقتها بالوجود هو دافعي للكتابة

[wpcc-script type=”dc46d32aba4968f40def8ade-text/javascript”]

من أصيلة الفاتنة الزرقاء التي تعانق «أزرق» المحيط الأطلسي ينحدر الشاعر، وهو سليل أسرة محافظة وصوفية تنحدر إلى الجد المجاهد مولاي أحمد الريسوني، وسليل الحداثة الشعرية في شمال المغرب، التي بادرت إلى تجديد القصيدة المغربية بحكم اتصالها المباشر والمثمر مع الحركة الشعرية الإسبانية، وكان للشاعر محمد الصباغ دور حاسم فيها، إذ «اقترف» خاصية النثر في الكتابة فَعُد بحق رائد قصيدة النثر في المغرب.
ولد الشاعر عام 1960، وتابع تحصيله الجامعي في تطوان حتى حصوله على شهادة الدكتوراه حول التحديث الشعري عند محمد الصباغ. ومن خلال مجموع أعمال الريسوني الشعرية التي انتظمت في الصدور، منذ أواخر التسعينيات إلى اليوم، نكتشف انحياز تجربته إلى اجتراح صوته الشعري الخاص، عبر تجربة الكائن في علاقته المتوترة بالمكان والذاكرة وشعرنة الضائع والمفقود، مُزاوِجًا بين الفعاليتين الشعرية والنقدية على نحو ما يخلق لديه فهمًا خاصا للكتابة في مجمل عناصرها الجمالية.

■ كيف دخل أحمد هاشم الريسوني إلى الشعر، وتعلق به؟
□ كيف دخل الشعر إلى شرفة أحمد هاشم الريسوني.. لستُ أدري صورة هذا الدخول.. لكنه في الواقع آتٍ من جهات عديدة؛ بعضها محسوس، وبعضها الآخر متعدد ـ خفي؛ فالمحسوس هو كوني.. ولدت فوق ربوة مُطلة على البحر والمدينة الشاعرية أصيلة، من جهة الغرب، والطبيعة الجبلية الحالمة من جهة الشرق.. ولعل هذا الموقع المثالي لمسقط رأسي، وهو المكان الذي ترعرت فيه، ساهم في زرع بذرة الشعر في ثنايا روحي. أما جهة الدخول الخفي، فهي تمتد في التاريخ السري للذات، التي تُطل على شرفة الشعرية العربية منذ طرفة بن العبد، الذي ظل دائما مَثَلي الأسمى في الكتابة والحياة.. كما أن مرفأ هذه الذات يُطل على شُرفة رمزٍ باذخ ظل يحاصرني ويحثني على التقاط بعض ومضاته شعريا، وهو رمز شخصية زعيم جْبالة المجاهد مولاي أحمد الريسوني.
■ صار من الدارج أن جيل الثمانينيات الذي تمثل أحد شعرائه حقق طفرة أساسية في سياق تحديث الشعر المغربي. في نظرك، ولاسيما أنك أعددت كتابا عنه بعنوان «الائتلاف والاختلاف في الشعر العربي الحديث والمعاصر بالمغرب»؛ ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له، والتي ما زالت تفعل فعلها المؤسس؟ وما هي مرجعيات الكتابة التي استلهم منها سبل إبداعه الجديد (مجلة أنفاس، تيل كيل، قصيدة النثر المشرقية، محمود درويش…)؟
□ أود الإشارة باقتضاب شديد، إلى أن فترة الثمانينيات شكلت مُنْعطفا مهما في تاريخ المغرب الحديث، ليس فقط على المستوى الثقافي/ الأدبي، بل على جميع المستويات، من السياسة إلى الاقتصاد؛ نعلم أن الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين كانت تنعت بوصفها سنوات الرصاص، حيث عرف الوطن انتكاسات سياسية وحقوقية فظيعة ساهمت في وأد ثورة التحديث والتطور، التي كان يطمح إليها المجتمع المغربي، لكن الثمانينيات عرفت تحولات إيجابية مهمة تتمثل في الانفتاح السياسي، وكذا المؤثرات الثقافية والحضارية الآتية من جغرافيات إنسانية كونية.. كما عرف تعدد الجامعات المغربية في كل الجهات بدل مركزيْ فاس والرباط، وهذا التعدد هو الآخر كان له تأثيرٌ إيجابي على الحركة الأدبية في المغرب، ومن ثَم ستنحو الكتابات الشعرية في سياق هذا التأثير منحى خاصا، ولاسيما وهي تتفاعل مع هذه الروافد الجديدة لتتجلى في طرائق كتابتهم.. فلا يمكن للمبدع أن يظل قابعا في قمقمه، بدون حراك، في الوقت الذي يحس أن صورة العالم من حواليه تتشكل من جديد.. فالمبدع هو المثل الأسمى للتشكلات التحديثية المتوالية. كما أن آليات المناهج النقدية الحداثية ساهمت بشكل فعال في بناء شخصية الشاعر الثمانيني، بدءا من البنيوية ووصولا إلى التفكيكية.. ولا شك في أن النظرات الأدبية الآتية من الغرب بخاصة، أفرزت حساسية أدبية جديدة في هذه الفترة.. وأصبح رولان بارت وهنري ميشونيك وجوليا كريستيفا وغيرهم من الأقطاب الأدبية يُشكلون ملامح مفهوم جديد للكتابة الأدبية لدينا وقتئذ.. كما أن النص الأدبي الذي صاحب هذه النظريات الذي سمح لنا بالتعرف على كتاب كونيين خالدين أمثال مالارميه ولوركا وريلكه وأليكسندري وريتسوس وغيرهم من الشعراء المشائين في الأبدية.

مفهوم الشاعر بالنسبة إليّ لم يتغير منذ الأزل.. كان الشاعر موجودا قبل السرديات الكبرى، وعايشها بقوة جبارة، ثم تلاشت هي وذهبت إلى الشتات والتحول، وظل الشاعر هو هو.. لذلك أثر الشاعر سيظل ممتدا في الديمومة.

كل هذا أسهم في بلورة رؤية جديدة لشخصية جيل الثمانينيات.. لكن هذا التحول نحو الأفق الجديد لم يكن منفصلا عن الأصل، أقصد ذلك الامتداد في الحداثة الغربية الذي ظل مشدودا بوتد آخر هو الامتداد نحو التراث العربي الذي تركنا نقف في كتاباتنا على أرض صلبة، في زمن كثرت فيه الهزات الكتابية ذات الأنفاس الموؤودة.. كُنا نستلهم طرفة بن العبد والمعري والمتنبي والجاحظ والسهروردي وابن عربي وابن خلدون وغيرهم كثير.. كما أن العرب المحدثين كان لهم دور كبير في هذا التحول.. أذكر جبران والسياب وقباني ودرويش وأدونيس وسعدي وغيرهم، ممن ساهم في بناء هذه الحساسية الإبداعية الجديدة.. أود أن أشير كذلك – من منظوري الخاص- إلى دور الأدب الأندلسي المتميز الذي عشقت فيه تميزه الفني، ومن ثَم كان المعتمد بن عباد وابن الخطيب وابن المرحل وابن زنباع، قد شكلت مُثُلا أدبية خالدة عندي.. وكذلك رموز الشعرية المغربية المعاصرة مثل أحمد المجاطي وعبد الكريم الطبال ومحمد السرغيني وغيرهم كثير..
■ أصدرتَ باكورتك الشعرية «الجبل الأخضر» سنة 1997.. حدثنا عن هذه اللحظة وأنت تعلن توقيعك الشعري؟ وكيف تستعيد حماسة الشاعر الأولى؟
□ صدور هذا الديوان تحديدا جاء موازاة مع بداية العمل في الوظيفة العمومية بصفتي أستاذا جامعيا، ولربما هذه الصفة، هي التي منحتني حماسة إصدار «الجبل الأخضر»؛ ذلك أنني كنت قبل هذا عازفا عن إصدار ديوان.. كنت أعيش الشعر وجوديا في الحياة اليومية إلى درجة البوهيمية، أو إلى درجة الموبقة كما يحلو لمحمد الصباغ أن يقول.. كنت عصرئذ قد صرت أكتب الشعر لأكثر من عشرين عاما، وأعيشه يوميا، وأنشر في الملاحق والمجلات الثقافية، وكلما طُلب مني طبع ديوان إلا وفررت نحو أعماق ذاتي.. وكأنني أحمي القصيدة من دفنها بين دفتيْ كتاب.. وهنا أستحضر تجربتي مع نشر الشعر، وأتذكر يوم كنت رئيسا لفترتين متواليتين لجمعية الإمام الأصيلي الشامخة أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث تم خلالها ولأول مرة في تاريخ الجمعية ولم يتكرر هذا لاحقا، طبع ديوانين لتجربتين استثنائيتين في تاريخ الشعر المعاصر في المغرب وهما؛ ديوان الشاعر المرحوم كريم حوماري «تقاسيم على آلة الجنون»، ثم ديوان الشاعرة ابتسام أشروي «لعبة الظل».. ولم ألتفت إلى طبع ديواني حتى جاءت سنة 1997، وكانت أول أجرة لي بصفتي أستاذا جامعيا أن طبعت بها ديوان «الجبل الأخضر» كم هو جميلٌ وطفولي أن أتذكر الراتب الأول الذي تكفل وأتاح لي طبع ديواني الأول.
■ من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور بعد ذلك التاريخ، إذ أصدرتَ «النور» 1999، و«مرتيليات» 2000، و«لا» 2012، ثم أخيرا «هذا البيت» 2019، انحزتَ إلى صوتك الفردي عبر تجربة الكائن الشعري في علاقته المتوترة مع المكان والذاكرة، وشعرية الضائع والمفقود.. في نظرك ما معنى الشاعر اليوم؟ وهل ما زال لرسالته وقع وأثر في حياتنا المعاصرة، لاسيما بعد انطفاء الأيديولوجيات؟
□ مفهوم الشاعر بالنسبة إليّ لم يتغير منذ الأزل.. كان الشاعر موجودا قبل السرديات الكبرى، وعايشها بقوة جبارة، ثم تلاشت هي وذهبت إلى الشتات والتحول، وظل الشاعر هو هو.. لذلك أثر الشاعر سيظل ممتدا في الديمومة. قال أرسطو قديما الشاعر ينظر إلى الكُليات، لذلك هو ممتد في الأزل، في حين ينظر المؤرخ إلى الجزئيات، ومن ثم يصير الشاعر أسمى من المؤرخ.. ويقول هايدغر الشعر أسبق من الوجود، ولربما هذا الفهم الشعري لكينونة الوجود يمنح الحياة معناها الخالد.. ومن ثَم أومن بأن الشاعر سيظل له أثرٌ بعد اندثار كل أثر.. فالشاعر هو مرآة الذات في كينونته السرمدية.. وما المكان واليومي سوى شظايا هذه المرآة البلورية.
■ تتجــــاور قصيدتك صيغ إيقاعية بين التفعيلي والنثري، ومن ثمة تجترح أشكالا من الوزن والتقفية والتدوير متنوعة ومتراكبة، هل هو انتقال لزمن الذات الشاعرة من ملفوظ إلى آخر؟ أم الرغبة في تجاوز دائم لشكل معطى ومقرر سلفا؟
□ من قراءاتي المتوالية، أدبا وتنظيرا وفكرا، تَشكل عندي مفهوم موسع للإيقاع، وأصبحت أستوعب جيدا رأي ميشونيك الذي يربط الإيقاع بالدال الأكبر.. بمعنى أن الإيقاع هو المشكل لكل الموجودات، بل هو جوهر الوجود.. معنى هذا أن الوزن لا مكان له الآن في البناء الكلي للنص.. وقديما تم نقد أبي العتاهية في ما يرتبط بالوزن، فرد بإشارة عميقة ودالة، حيث قال «أنا أكبر من العروض»؛ أي أن الشاعر من طبعه التمرد على النمطية، ولا يمكن وضعه داخل قوالب جاهزة، كما يعني ذلك أن الشاعر في بحث دائم عن أشكال جديدة داخل هذا الإيقاع الأكبر اللامتناهي.. الكتابة هي تجريبٌ مُتوالٍ لأشكال إيقاعية ما تزال كل مرة ترسم ملامح متخفية لإيقاع الذات في حوارها مع إيقاع الوجود.

ليست عندي طقوس خاصة ثابتة في الكتابة.. فلكل قصيدة حالة.. كأن تأتي القصيدة وأنا غارق في الاستماع إلى أغنية، عادة ما أنسجم مع الكتابة وأنا أمام البحر، أو في أثناء سكون الليل.

■ كان لك من البدء حس نقدي في مقاربة المعرفة الشعرية.. وصدرت لك في هذا الإطار كتب نقدية.. كيف توازن بين الفعاليتين؛ الشعرية والنقدية؛ بين رهافة اللغة وصرامتها التي لا تهادن؟
□ الشاعر الجيد هو قارئٌ بالدرجة الأولى، وأفترض أن من طبعه الممارسة النقدية المواكبة للشعر.. كنت مُولعا بقراءة كل الموازنات الشعرية والكتابات التي واكبت التجارب الشعرية قديمها وحديثها.. مذ كنت يافعا وأنا أحلم أن أصبح أستاذا جامعيا لكي يتحقق لي هذا؛ وهو المواكبة النقدية العالمة والعارفة للنص الشعري.. أردتُ هذا كي أعمق غرقي في بحر الشعر، وقبل هذا كذلك كنت واعيا بتحقيق هذه المعادلة.. أعود إلى تجربتي الممتعة في جمعية قدماء ثانوية الإمام الأصيلي، فحين كنت رئيسها قمت رفقة شلة من أصدقائي؛ أذكر منهم الشاعر حسن الوسيني والناقد عبد المالك عليوي والشاعر محمد الجباري، إلى تنظيم ملتقى الشعر المغربي الذي وصل إلى خمس دورات من عام 1988 إلى 1993.. وحضره العديد من الأسماء الشعرية والنقدية اللامعة.. وكان هم هذا الملتقى هو هذا التصادي بين الشعري والنقدي في رحاب النص.. ولعل أطروحتي الأولى الموسومة بـ«الاختلاف والائتلاف في الشعر العربي المعاصر بالمغرب» كانت مستوحاة في جوهرها من فكرة هذا الملتقى.. علاقتي بالجامعة طالبا ثم أستاذا عمقت لديّ صورة هذا التصادي.. وأعتقد أن تجربة الشاعر الذاتية تتعمق وتتطور من خلال هذا التصادي.. الشعر يقترب من الصفاء عبر تجلي صورته في المرآة.. اللغة هي الأخرى تصبح أكثر نقاء واقتصادا وتوهجا..
■ في سياق اهتمامك الجمالي والأكاديمي بالشعر المغربي المعاصر كيف تنظر إلى واقع الشعر اليوم؟ وهل استطاعت القصيدة المغربية المعاصرة أن تتمم مشروع التحديث والمغايرة في آن؟
□ في جملة واحدة بسيطة أقول إن الشعر المغربي الآن بخير في صورته العامة.. أعيش دائما التفاؤل في باب الشعر في المغرب الآن.. أقول هذا انطلاقا من نظرتي إلى الماضي والموازنة مع الحاضر.. وهو حاضر غني ومتنوع.. وقد استطاع الشاعر المغربي الآن أن يطرق آفاقا جديدة في الكتابة؛ أذكر قصيدة النثر وشعر الهايكو والابتداع في قصيدة التفعيلة كما الإجادة في الوطنية.. كل هذا منحنا تراكما مهما وغنى لافتا في التجربة المغربية مقارنة بمثيلاتها العربية.. لكن الذي سأقوله الآن وهو أهم من كل ما سبق هو أن الشعر المغربي في الوقت الراهن يعيش أروع وأبهى لحظاته التاريخية، من خلال كتابة مغايرة وجديدة، وهي التي ستساهم بقوة في خلق التميز والفرادة للشعرية المغربية في صورة القصيدة/ الأنثى.. الشاعرات المغربيات الآن هُن اللواتي سيمنحن للشعرية المغربية فرادتها..
■ ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة؟ وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟
□ ليست عندي طقوس خاصة ثابتة في الكتابة.. فلكل قصيدة حالة.. كأن تأتي القصيدة وأنا غارق في الاستماع إلى أغنية، عادة ما أنسجم مع الكتابة وأنا أمام البحر، أو في أثناء سكون الليل.. أفر من الكتابة في الضجيج.. أفضل الأوراق الخضراء والبيضاء والأزرق يغويني.. أرتاح لسماع الموسيقى في أثناء الكتابة.. غالبا ما أنقح كتاباتي الأولى، وأحيانا أشذبها تشذيبا قيصريا..
■ لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟
□- ســـؤال الذات في علاقتها بالوجود والموجودات هو الحافز الكبير الذي يدفعني للكتابة.. والشعر هو تعبيرٌ عن الذات في علاقتها بالوجود.. معنى هذا أكتب أولا لذاتي.. لأكون أول قارئ لتجليات علاقة ذاتي بالوجود.. ومن ثم أكتب لباقي الذوات الشبيهة بذاتي وما أكثرها؛ لأن الفرادة المطلقة لا توجد سوى في الذات الإلهية..

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *