وبعد فقد حث الإسلام على أعمال البر , وأبواب الخير , فلم يترك للخير باباً إلا فتحه، ولم يدع للشر ثغرة إلا سدها وحذر منها , ولأعمال التطوع في الإسلام أدلة واضحة , وخصائص مميزة , وأصالة متبعة , وآداب جمة , رأيت أن أسهم ببيانها في مؤتمركم هذا , تحت عنوان ( العمل التطوعي في الإسلام ) : أدلته , أصالته , خصائصه , آثاره . وبنيت موضوعي على تمهيد , وأحد عشر مبحثاً , وخاتمة , على النحو الآتي :
أولاً – بين يدي الموضوع .
ثانياً – معنى التطوع : لغة . في القرآن الكريم . في السنة . في الاصطلاح .
ثالثاً – ترغيب الإسلام في التطوع وعمل الخير , وفيه :
1- الحث على البذل .
2- الإنفاق مما يحب .
3- عموم وجوه الخير .
4- جزاء المحسنين في الدنيا .
5- جزاؤهم في الآخرة .
6- الجزاء من جنس العمل .
7- تربية المسلم على التطوع يومياً .
8- تنوع أعمال التطوع .
9- لا بد من التطوع في الخير .
10- ما من تطوع إلا ويأخذ بيد صاحبه إلى الجنة .
11 – التحذير من الشح والضن بفعل الخير .
رابعاً – أنواع التطوع : آ- تطوع فردي . ب – تطوع جماعي .
خامساً – نماذج من التطوع الفردي في صدر الإسلام .
سادساً – نماذج من التطوع الجماعي في صدر الإسلام .
سابعاً – أصالة العمل التطوعي في الإسلام وصوره .
ثامناً – نماذج من أعمال التطوع في الإمارات قبل النفط وبعده .
تاسعاً – خصائص العمل التطوعي في الإسلام : ( وقد بلغت إحدى عشر خاصة ) .
عاشراً – دور العمل التطوعي في بناء المجتمع : ( يتجلى في ثمانية عشر أثراً ) .
أحد عشر – دور الشباب في العمل التطوعي .
الخاتمة .
أرجو أن أكون قد وفقت إلى ما قصدت , مع خالص شكري لجمعية بيت الخير بدبي ؛ لقيامها بهذه الدورة التدريبية , جزى الله القائمين عليها خير الجزاء , وللمساهمين فيها والمتعاونين معها مثل هذا , ولجمعية المعلمين في رأس الخيمة خالص الشكر لاستضافتها هذه الدورة , ولجميع الزملاء أعضاء الهيئة التعليمية أزكى التحيات , وأصدق التمنيات بدوام العطاء , واستمرار النجاح في مهمتهم التربوية التعليمية , وحسن بناء الأجيال الصاعدة بناء إيمانياً وعلمياً , يعيد لأمتنا دورها الرائد , وأمجادها الفريدة , شاكراً للإخوة الحضور حسن إصغائهم ومشاركتهم .
والحمد لله رب العالمين
مساء يوم الجمعة 7 صفر 1423 هــ / 19- 4- 2002 م أ.د . محمد عجاج الخطيب
أولاً – بين يدي الموضوع :
إن أهم ما دعت إليه الرسالات السماوية من لدن آدم عليه السلام , إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم – التوحيد ومكارم الأخلاق , وتوجت هذه الرسالات بكمال العبادة والتشريع في خاتمة الرسالات , التي رضيها الله تعالى لعباده بصريح قوله سبحانه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً[1] . فقد كانت المقاصد الأولى من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- نبذ الشرك وتوحيد الله تعالى .
2- تقويم السلوك على مكارم الأخلاق , وهجر الأخلاق والعادات المذمومة واجتنابها .
3- أداء العبادات , وتطهير النفوس وتزكيتها .
4- إقامة أحكام الله بين عباد الله في جميع ميادين الحياة .
ويتلخص هذا كله في قوله تعالى : لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [2] .
تهدف جميع هذه المقاصد إلى بناء الشخصية الإسلامية القوية المتوازنة لبناء المجتمع الإسلامي المتضامن , الذي تربط بين أفراده الأخوة في العقيدة وما يترتب عليها من تراحم وتعاطف وتناصر , وحب وإيثار وتعاون وإخلاص , مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم , كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) [3].
فلا ينتهي الأمر عند المسلم بإسقاط ما عليه من واجب بأدائه ,بل يتعداه إلى البذل والعطاء والإيثار مادياً وأدبياً , مما سنفصله فيما يلي :
ثانياً – معنى التطوع :
1- التطوع لغة : الطوع : نقيض الكره . طاعه يطوعه وطاوعه . . وتطوع للشيء: حاوله . ( والتطوع؛ ما تبرع به من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه , كأنهم جعلوا التفعل اسماً ) ، ( وصلاة التطوع : النافلة , وكلُّ متنفلِ خيرٍ تبرعاً : متطوع ) , والتطوع ؛ السعي في أن يكون طائعاً غير مكره , يتضمن معنى ( أتى) [4].
2- التطوع في القرآن الكريم مبني على الدلالات اللغوية , فهو الزيادة على الواجب ؛ كما في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم[5] ، قيل في هذا : زاد في سعيه بينهما , وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع . والأرجح أن المقصد من هذا التذييل ؛ الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل , أو نوافل فقط [6] .
وكما في قوله عز من قائل في آية الصيام : على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين , فمن تطوع خيراً فهو خير له [7] .
فالخير؛ هو المتطوع به؛ فهو الزيادة , فمن زاد على إطعام مسكين واحد فهو خير له , ويمكن أن يكون الإطعام مع الصيام , كما يمكن أن يكون الزيادة في إطعام المسكين [8] .
3- التطوع في السنة , ورد كثيراً بمعنى التنفل،والنافلة , والقربات والصدقات ونحوها … وهو الزيادة في العبادة على ما فرض عليه , وواضح هذا فيما أخرجه الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب , وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه , وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به … ) الحديث [9] .
4- التطوع في الاصطلاح : هو التقرب إلى الله عز وجل بأمر مشروع مما لم يفرض على المتقرب به . كما يمكن أن يكون بعبارة أخرى :
هو الالتزام بأمر مشروع مما لم يكن لازماً على الملتزم .
ثالثاً – ترغيب الإسلام في التطوع وعمل الخير :
1- الحث على البذل : قال عز من قائل : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [10] .
2- الإنفاق مما يحب : قال عز من قائل : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم [11] . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار في المدينة مالاً من نخل , وكان أحبُّ أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب , فلما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون , قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : يا رسول الله , إن الله تبارك وتعالى يقول : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون , وإن أحب أموالي إلي ؛ بيرحاء , وإنها صدقة أرجو بِرها وذُخرها عند الله , فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” بخ ذلك مال رابح , ذلك مال رابح ” [12] .
3- عموم وجوه الخير وكثرتها : يقول الله عز وجل: وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [13]. فسبيل الله عز وجل عام يتناول الجهاد وكلَّ ما ينفق في مرضاة رب العالمين , ويعم الحث على فعل الخيرات ، جميع ما يدل عليه لفظ الصالحات , ويتناول جميع المؤمنين كما في قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً[14] . وما أشمل قول الله عز وجل وأعمه : إن الذين آمنوا وعموا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً [15] , وقوله : وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً [16] .
4- جزاء المحسنين في الدنيا : وعد الله عباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات خير الجزاء في الدنيا والآخرة , قال عز من قائل : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [17] . جزاؤهم في الدنيا استخلاف في الأرض , وتمكين أمرهم , وعلو كلمتهم , وضمان أمنهم واستقرارهم , بعد خوفهم وضعفهم , كما في قوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون [18] .
5- جزاؤهم في الآخرة : ومن جزائهم في الآخرة قوله عز وجل : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنُبوِّئنَّهم من الجنة غُرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، نعم أجر العاملين [19] .
6- الجزاء من جنس العمل : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة , ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة , ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة , والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه … ) [20] . وفي الأثر [ صنائع المعروف تقي مصارع السوء ] [21] .
7- تربية المسلم على التطوع يومياً : وجه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الخير والبذل , والعون الدائم والاهتمام بأمر المسلمين , بما يجعل المجتمع كالبنيان يشد بعضه بعضاً , قال صلى الله عليه وسلم : ( في ابن آدم ستونَ وثلاثُ مائةِ سلامى , أو عظم , أو مفصل , على كل واحد في كل يوم صدقة , كل كلمة طيبة صدقة , وعون الرجل أخاه صدقة , والشربة من الماء يسقيها صدقة , وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ) [22] .
وأخرج الإمام أحمد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع الشمس , قال : تعدل بين الاثنين صدقة , تعين الرجل على دابته تحمله عليها أو ترفع له متاعه عليها صدقة , وقال : الكلمة الطيبة صدقة , وقال : كل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة , وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) [23].
8- تنوع أعمال التطوع : أخرج الترمذي بسنده عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة , وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة , وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة , وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة , وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغُك مِن دلوِكَ في دلو أخيك صدقة .) قال : وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وحذيفة وعائشة وأبي هريرة [24] .
9- لا بد من التطوع في الخير : عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت ( يا رسول الله: ما تقول في الصلاة ؟ قال : تمام العمل . قلت يا رسول الله : تركتَ أفضل عمل في نفسي أو خيره ؟ قال : ما هو ؟ قلت : الصوم . قال : خير وليس هناك . قلت يا رسول الله : وأي الصدقة وذكر كلمة . قلت : فإن لم أقدر ؟ قال : بِفَضْل طعامِكَ. قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : بِشِق تمرةٍ . قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : بكلمة طيبة . قلت : فإن لم أفعل؟ قال : دع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك . قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تريد أن لا تدع فيك من الخير شيئاً !؟ ) [25] .
10-ما من تطوع إلا ويأخذ بيد صاحبه إلى الجنة : وفي رواية عن أبي ذر أخرجها الإمام البيهقي , قال : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال : الإيمان بالله . قلت يا نبي الله : مع الإيمان عمل ؟ قال: أن ترضخ مما خولك الله , وترضخ مما رزقك الله . قلت يا نبي الله : فإن كان فقيراً لا يجد ما يرضخ ؟ قال : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . قلت : إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف , ولا ينهى عن المنكر ؟ قال : فليعن الأخرق. قلت يا رسول الله: أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع ؟ قال : فليعن مظلوماً . قلت يا نبي الله: أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مظلوماً ؟ قال : ما تريد أن تترك لصاحبك من خير !!؟ ليمسك أذاه عن الناس . قلت يا رسول الله : أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة ؟ قال : ما من عبد مؤمن يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة ) [26].
11- التحذير من الشح والبخل والضن بفعل الخير : حذر الإسلام من الشح . والشح؛ البخل في كل شيء،وإن كان البخل قد يختص بالمال أحياناً,قال تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [27] . وقال تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ، ولله ميراث السموات والأرض ، والله بما تعملون خبير [28].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً الخطر الاجتماعي المترتب على الشح: ( اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة , واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم , وحملهم على أن سفكوا دماءهم , واستحلوا محارمهم ) [29].
رابعاً – أنواع التطوع :
من الملاحظ في النصوص السابقة أن الحض على التطوع عام , يتناول الفرد والجماعة، وأن بعض الأحاديث أكدت على التطوع اليومي , وأنه لا بد من تطوع للفرد , ولو بترك الشر على الناس , فإن فيه خيراً وصدقة على نفس التارك , فإن لم يستطع فإنه لم يدع لنفسه من الخير شيئاً , وعلى هذا نرى أن التطوع نوعان :
النوع الأول : فردي , وهو كل ما يستطيع أن يقدمه المسلم من خير لغيره , كما فصلته الأحاديث السابقة .
النوع الثاني : تطوع جماعي , يشارك أكثر من اثنين في القيام بعمل يعود على المسلمين بالخير , وما أكثر أنواع الخير . وهذا النوع يندرج تحته ثلاث حالات :
1- الحالة الأولى : تطوع آني مؤقت ؛ كإنقاذ غريق , أو إطفاء حريق , أو إغاثة ملهوف , أو مساعدة منكوب … ونحوه .
2- تطوع محدد بزمن يقطعه المتطوعون على أنفسهم , أو مرتبط بإنجاز عمل محدد ، فما حدد بزمن كالتبرع بتدريس مقرر يوزع بين عدد من المدرسين , ينتهي عهدهم وتبرعهم بانتهاء ما التزموا به , وما تعلق بإنجاز عمل كتجهيز مختبر , أو ملعب , أو رصف قطعة من رصيف ينتهي التبرع بانتهاء العمل المتطوع له .
3- تطوع دائم بعمل معين : كتدريس يوم في الأسبوع مدة حياة مدرس , أو صيانة أجهزة مختبر مدة حياة المصلح , أو مرابطة يومين في الشهر على الثغور , وكل هذا مشروع ومأجور ما دام العبد يبتغي وجه الله به .
خامساً –نماذج من العمل التطوعي الفردي في صدر الإسلام :
1- تطوع علي رضي الله عنه يوم الهجرة بالنوم في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم للتعمية على المشركين , ولرد الودائع التي كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها .
2- تطوع عبد الله بن أبي بكر بنقل أخبار قريش إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور في كل مساء , ومبيته عندهم , وعودته باكراً فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيها . ويرعى على الرسول صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه وعلى صاحبه بقطيع غنم يعفي على آثار عبد الله … حتى لا يفطن أحد من المشركين إلى آثار عبد الله ولا موضع المهاجرين الكريمين … [30] .
3- تطوع زيد بن ثابت بتعلم اللغات الرومية والفارسية بعدما كلفه الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم الكتابة العبرية .
4- تطوع سعد بن أبي وقاص بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة . ( عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه,قالت : قلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة , قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح . فقال : من هذا ؟ فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : ما جاء بك ؟ قال : جئت لأحرسك يا رسول الله ..) أخرجه الشيخان[31].
5- ومثل هذا يقال في تطوع أبي طلحة الأنصاري بحديقة نخله للمسلمين .
6- تطوع نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني صديق قريش واليهود , أيام غزوة الخندق , بعد أن أسلم من غير أن يَعلَم قومه , أن يخذل الأعداء عن المسلمين ما استطاع بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم , ففعل . فنجح في حسن تدبيره والتفريق بين الأحزاب [32] . ومثل هذا لابد فيه من إذن الإمام؛ لأن الأمر يتعلق بأمن الدولة , وسلامة الرعية .
7- تطوع البراء بن مالك في حرب اليمامة بأن يرمى من أعلى حصن مسيلمة الكذاب بعد أن طال حصار المسلمين له ؛ لينزل خلفه . وفتحه , ودخل المسلمون وقتلوا مسيلمة , وانتصروا على المرتدين . وبهذا ثبتوا أركان الخلافة أيام أبي بكر رضي الله عنه [33] . إنها نماذج كثيرة وفريدة .
8- ومثل هذا يقال في صاحب النقب إذ استعصى على المسلمين في غزاة الروم حصن أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان , فسهر أحد جنود المسلمين ليلة حتى أحدث نَقْباً كبيراً في الحصن , استطاع المسلمون الدخول منه وفتح الحصن , وتم الانتصار على الأعداء . فسر قائد الجيش مسلمة بن عبد الملك، فخطب في الجيش وشكر الله تعالى وحمده على نصره لهم على الأعداء , ثم ناشد من يعرف صاحب النقب أن يأتيه . وفي المساء قدم عليه فارس ملثم فقال : أنا أعرف صاحب النقب , فقال : مسلمة من هو ؟ قال : يشترط عليكم ثلاثة , قال : ما هي ؛ أنفذها ؟ قال : ألا تسألوه عن اسمه , ولا عن قبيلته , وألا تأمروا له بعطاء . قال : نعم . ثم قال الفارس : أنا صاحب النقب , والسلام عليكم ورحمة الله ، وولى .
فكان مسلمة بن عبد الملك يدعو عقب صلاته : [ اللهم احشرني مع صاحب النقب ] [34] .
سادساً – نماذج من التطوع الجماعي في صدر الإسلام :
1- بناء المسجد النبوي في المدينة المنورة : كان موضع مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لغلامين يتيمين بالمدينة , هما سهل وسهيل ابنا عمرو , كانا في حجر أسعد بن زرارة , فساومهما الرسول صلى الله عليه وسلم فأبيا ,وقالا : بل نهبه لله ولرسوله , ولكن الرسول الكريم أبى إلا أن يكون بالثمن . وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطعت , وبالقبور فنبشت , وبالخرب فسويت , وشرع المسلمون يبنون والرسول صلى الله عليه وسلم معهم يحمل التراب واللبن وهم يقولون :
اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
وكان علي رضي الله عنه يقول :
لا يستوي من يعمر المساجد يدأب فيها قائماً وقاعداً
ومن يُرى عن التراب حائداً [35]
2- حفر الخندق : جعل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل عشرة من المسلمين أربعين ذراعاً يحفرونها من الخندق , وكان صلى الله عليه وسلم يحمل التراب من الخندق , حتى وارى عنه التراب جلدة بطنه ، وكان يقول:
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
فيجيبه المسلمون:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
كما كان يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصـدقـنـا ولا صلـيـنـا
فـأنـزلـن سـكـيـنـة عـلـيـنـا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولـى قـد بغوا علـينـا وإن أرادوا فـتـنـة أبـيـنـا [36]
3- والمتتبع لأخبار السيرة النبوية وأحداثها يرى ألواناً من التطوع والبذل بالمال والدماء [37] , والمتتبع لأخبار الفتوح بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يرى العجب العجاب من التطوع الذي سجله التاريخ , وحسبنا هنا ما كان من تطوع عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك ومعه مائتا رجل من الأشداء , زعزعوا صفوف الرومان , وخلخلوا جموعهم , حتى تساقط أبطالهم في اليرموك , وكتب للمسلمين النصر , ولعكرمة وصحبه الشهادة [38] .
4- ومن التطوع الجماعي المرابطة على الثغور لرصد أعداء الإسلام كما كان يفعل الإمام الأوزاعي والإمام عبد الله بن المبارك [39] .
5- وإن جميع حلقات العلم التي كانت تعقد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم , ويتصدر فيها أكابر علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم إنما كانت عملاً تطوعياً[40] .
6- وإن فتح العلماء أبواب مكتباتهم الخاصة لطلاب العلم ، ووقف بعضهم كتبه لطلبة العلم بعد وفاته , أو وقف مكتبته ؛ كما فعل الحافظ ابن حبان البستي (-354 هـ ) أيضاً لون من ألوان التطوع .