المرأة ومسئوليتها في اختيار شريك حياتها :
تبدأ مسؤولية المرأة نحو بيتها وبنيها حين تختار شريك حياتها، ذلك أنها – في ضوء الالتزام بالمنهج الإسلامي – ليست حرة في أن تختار من تشاء، وإنما هي مسؤولة مسؤولية كاملة عن تخيُّر الزوج الأمين ذي المُروءَة والتقوى والدين،فإن لصلاح الآباء والأمهات أثرًا بالغًا في نشأة الأطفال على الخير و الهداية بإذن الله،وقد قال –سبحانه -:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]، وفيه دليل على أن الرجل الصالح يُحْفَظ في ذريَّته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم، والزواج فطرة إنسانية ومصلحة اجتماعية للمحافظة على النوع البشري وعلى الإنسان، ولسلامة المجتمع من الانحلال الخلقي والأمراض، وهو سكن روحاني ونفساني، ويبدأ هذا الزواج باختيار الزوج الصالح.
وكما أكد الإسلام شروطًا خاصة في الزوجة التي يجب أن يختارها المسلم ، فإنه بالمقابل وضع للمرأة ووليها شروطًا مماثلة في الزوج الذي يجب أن تختاره أو يختاره لها. فقد وضع الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – أساس اختيار الزوج فيما رواه عنه أبو هريرة -رضي اللهُ عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خطب إليكم مَن ترضون دينه و خُلقه، فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – أول من طبَّق هذا الأمر على نفسه حين زوج ابنته فاطمة إلى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ويروي لنا علي وقائع هذا الأمر بقوله: “خطبت فاطمة إلى رسول الله، فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله؟ قلت: لا، قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله، فيزوجك؟ فقلت: وعندي شيء أتزوَّج به؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله، زوَّجك، قال: فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله، فلما قعدت بين يديه، أفحمت، فوالله ما أتكلم،فقال- صلى الله عليه وسلم -: ما جاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت، فقال – عليه الصلاة والسلام -: لعلك جئت تخطب فاطمة، فقال: نعم، قال: وهل عندك من شيءٍ تستحلها به؟ فقال: لا والله يا رسول الله، فقال: ما فعلت بالدرع التي سلَّحتكها ؟ فقال: عندي، والذي نفس علي بيده، إنها لحطيمة ما ثمنها أربعمائة درهم، قال: قد زوجتك، فابعث بها .
وقد كفل الإسلام للمرأة اختيار زوجها برضاها، ولذا كان من حق الفتاة أن تختار الكفؤ المناسب لها، ولا يجوز لأوليائها أن يُكرهوها على مَن لا ترغب في مشاركته حياة زوجية، أُسُّها الأول أن يرضى الطرفان بإنشائها.
فكانت تختار زوجها كما تحب، حتى إنها كانت في بعض الأحيان تطلب الزواج ممن تراه صالحًا؛ كما حدث في قصة المرأة التي عرضت نفسها على الرسول – صلى الله عليه وسلم – فعن أنس – رضي الله عنه – قال:”جاءت امرأة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعرِض عليه نفسها – أي: ليتزوَّجها – قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس – وكانت حاضرة -: ما أقلَّ حياءها، واسَوْءَتاه، واسَوْءَتاه! فقال أنس – رضي الله عنه – أي: لابنته: هي خير منك، رغبت في النبي – صلى الله عليه وسلم – فعرَضت عليه نفسها” .
كما مارست المرأة حقها في رفض الزواج بالإكراه، واختيار زوجها برضاها، ومثال ذلك: (خنساء الأنصارية) التي استشهد زوجها أنيس بن قتادة في غزوة بدر، فأراد أبوها أن يزوجها وهي كارهة، فأتت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شاكية، فقالت: إن أبي أنكحني، وأن عم ولدي أحب إلي، فرد الرسول – صلى الله عليه وسلم – نكاحها.
وفي رواية أخرى لابن الأثير “أن وديعة بن خدام أنكح ابنته، فجاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله،إن أبي أنكحني رجلاً لم يوافقني، فأرسل إلى أبيها، فذكر ذلك، فقال له: أنكحتها بابن عمٍّ لها كُفءٍ، ورجل صدق، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “أستأمرتها؟”، فقال: لا، فرد الرسول ذلك النكاح، ولم يُجزه” .
كما لم يقر الرسول – صلى الله عليه وسلم – زواج عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – بإحدى الفتيات حين رفضته الفتاة، وفضَّلت عليه شخصًا آخر، فعن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: “توفى خالي عثمان بن مظعون، فأوصى إلى أخيه قدامة أن يزوِّجني بنت أخيه، ودخل المغيرة بن شُعبة على أُمها، فأرغبها في المال، ورأى الجارية مع أمها، فبلغ ذلك الرسول – صلى الله عليه وسلم – فسأل قدامة فقال: يا رسول الله، بنت أخي، ولم آل اختار لها، فقال – صلى الله عليه وسلم – ألحقها بهواها، فإنها أحق بنفسها، فانتزعها مني، وزوَّجها المغيرة بن شُعبة” .
كما ظهرت ممارسة المرأة لحقها في اختيار زوجها في قصة بريرة ، التي كانت جارية متزوجة من عبد أسود، فلما حرِّرت، رفَضت أن تكمل هذا الزواج الذي تَم بغير رضاها، فعن ابن عباس- رضي الله عنه – قال:كان زوج بريرة عبدًا أسودَ، يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لِحيته، فقال النبي لعباس بن عبد المطلب:((يا عباس، ألا تعجب من حب مغيثٍّ بريرةَ، ومن بُغض بريرة مغيثًا))، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((لو راجعته))،قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال:إنما أنا أشفع،قالت: لا حاجة لي فيه.
ومن مسؤولية المرأة في اختيار شريك حياتها، ألا تختاره بالعاطفة فقط، فإن المتتبع لأحكام الإسلام العامة، يرى أنها جامعة لخاصتي العاطفية والمثالية، فلم يجعل من العاطفة الشرط الوحيد لنجاح الحياة الزوجية مهما كانت جيَّاشة قوية؛إذ خشِي الإسلام ألا تصمد العواطف العارمة أمام قسوة الحياة المادية، وشظَفِ العيش الشديد؛ لذا عالج الإسلام الواقع البشري معالجة ميدانية واقعية أولاً، ثم ارتفع بها نحو المثالية شيئًا فشيئًا ؛ فعن فاطمة بنت قيس ذكرت للنبي – صلى الله عليه وسلم – أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية، فصعلوك لا مالَ له، انكحي أسامة بن زيد)، فكرِهته، ثم قال: (انكحي أسامة)، فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت” .
قال النووي: “وأما إشارته – صلى الله عليه وسلم – بنكاح أسامة، فلما علمه من دينه وفضله، وحُسن طرائقه، وكرم شمائله، فنصحها بذلك” .