بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فريقٌ ممن يُنظِّرون لما يسمى بـ(الدولة المدنية الإسلامية)، أو ما يسمى بـ(الإسلام الليبرالي)، أو من ينادون بـ(التجديد) وإعادة قراءة الشريعة الإسلامية بما يتوافق مع مستجدات العصر، يتكلمون بأن السنة النبوية قسمان:
ـ سنة تشريعية مُلزمة(1).
ـ وسنة غير تشريعية غير ملزمة.
وقصدوا بالسنة الغير تشريعية ـ الغير ملزمة ـ ثلاثة أنواع:
ما سبيله سبيل الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشي والتزاور… الخ.
ما سبيله سبيل التجاوب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذي ورد في شئون الزراعة والطب، وطول اللباس وقصره.
ما سبيله سبيل التدبير الإنساني كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية ونحو ذلك.
يقولون: هذه الأنواع الثلاثة ليست شرعاً يتعلق به طلب الفعل أو الترك، وإنما هو من الشؤون البشرية التي ليس مسلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها تشريعاً ولا مصدر تشريع(2).!!
ماذا يعني هذا الكلام؟
بدون مواربة ولا دغدغة في الكلام : هذه دعوة للعلمانية ليس إلا.
فحين يَخرجُ من التشريع ما يتعلق بالمأكل والمشرب والملبس والتزاور وباقي الأمور الاجتماعية، وحين يَخرج من التشريع ما يتعلق بالنواحي الاقتصادية والمهنية… الطب والزراعة والصناعة والتجارة..الخ، وحين يَخرج من التشريع أمور كتدبير حال الجيش وسياسة الدولة وأمور الحكم.. حين يخرج كل هذا: ماذا بقى في التشريع؟
ليس إلا الأمور التعبدية المحضة.
وإذا كانت العلمانية هي فصل الدين عن الحياة. فالمحصلة واحدة إذا. أليس كذلك؟!
وإذا أخذنا بهذا الكلام فهذا يعني أننا لن نقتضي بنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا في الصلاة والصوم والحج وتسير دنيانا على هوانا. أليس كذلك؟
ويؤكد قولي أن كثيرا من المتكلمين بهذا الكلام لا يرون كفر اليهود والنصارى أو لا يرون أفضلية للمسلم على الكافر كونه مسلم، ويتنكرون لأحكام الذمة، وأحكام الردة، والخلافة الإسلامية، والحجاب وكثير من تشريعات الإسلام فيما يتعلق بالمرأة. ولكنهم يُعمّون على الناس بدعوى أنهم (مفكرون إسلاميون) وأنهم يبغضون العلمانية ـ زعموا ـ.
وأنقلُ للقارئ وجهة نظر أحد كبرائهم في العلمانية لتعلم كيف أن القوم يسرون على درب العلمانيين وأنهم لا يختلفون عنهم إلا في الشعارات التي يرفعونها.
يُقَسِّم الدكتور محمد عمارة العلمانية إلى قسمين:
الأول: علمانية الغلاة، وهي ما يسميه “العلمانية الغربية” التي تفصل الدين عن الدولة ـ كما يزعم ـ وهذه يرفضها ويرد عليها(3).
الثاني: علمانية إسلامية أو مستنيرة، وهي التي تقرر ـ كما يقول ـ أن “ما قضاه وأبرمه الرسول في أمور الدين عقائد وعبادات لا يجوز نقضه أو تغييره حتى بعد وفاته؛ لأن سلطانه الديني كرسول ما زال قائماً فيه. وسيظل كذلك خالداً بخلود رسالته عليه الصلاة والسلام. على حين أن ما أبرمه من أمور الحرب والسياسة يجوز للمسلمين التغيير فيه بعد وفاته؛ لأن سلطانه هنا قد انقضى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى”!!(4)
(إذن فالدين عند عمارة لا دخل له في أمور السياسة والحرب؛ ومعلوم أن هذا يشمل: علاقة المسلمين بغيرهم، وأحكام الجهاد، وأحكام الخلافة والولاية، وأحكام الحسبة، وأحكام الاقتصاد.. الخ. وإنما يتدخل الدين في أمور العقائد والعبادات فقط! فإن لم تكن هذه هي العلمانية فلا ندري ما العلمانية؟! ولا فرق بينها وبين ما يسميه بعلمانية الغلاة، بل يستويان في حكم الشرع عليهما بالكفر.)(5).
السنة كلها تشريعية(6).
الحقيقة أن الكلام في إتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل شيء أو عدم إتباعه إلا في الأمور التعبدية فقط ـ وهو ما نتكلم عنه هنا ـ مرتبط تماما بالحديث عن عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذا حجية السنة النبوية المطهرة.
ويتكلم في هذا الأمر ـ بالتشكيك ـ ثلاث فرق (العقلانيون) أو (المعتزلة الجدد) وكلامهم بذات الدندنة القديمة التي تكلم بها أسلافهم، ويتكلم من يدعون بـ(القرآنيون)، وكذا يتكلم عباد الصليب أخذاهم الله.
وتتبع هؤلاء واحدا واحدا أمر يطول وفيه مشقة على القارئ، وحيث أن المقام مقال، وبعد إمعان النظر فيما كتب (المفكرون الليبراليون) وما كتب (القرآنيون) وما يتقيأه (النصارى) وجدتُ أن أسلم طريق للرد هو التعريف بهذه النقاط الثلاث.
الأولى: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان معصوما من كل الذنوب صغيرها وكبيرها في جميع أحواله- صلى الله عليه وسلم-(7).
والدليل على ذلك أمور:
منها: أن الله أمرنا بإتباع النبي- صلى الله عليه وسلم ـ ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر” [ الأحزاب: ]
” قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (الأعراف: 158)
“قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (آل عمران: 31)
فجعل الله رجاءه ومحبته في إتباع النبي- صلى الله عليه وسلم-، والتأسي به. ومُحال أن يأمرنا الله بهذا وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقترف الصغائر فضلا عن الكبائر، لأن ذلك يقتضي أن يكون الله أمرنا بفعل الصغائر. ويقتضي أن لا نترك شيئا مما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه لا يخطئ أبدا في أمر من أموره.
تبليغ الوحي كما يكون باللسان ـ بالقول ـ يكون بالفعل والتقرير.كما جاء في الأحاديث. ومنها:
“صلوا كما رأيتموني أصلى”(8) “لتأخذوا عنى مناسككم فإني لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتي هذه”(9) “ما نهيتكم عنه فاجتنوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم”(1.)
فهنا أمر بالاقتضاء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ والامتثال لأمره والانتهاء لنهيه في كل شيء، وهذا يقتضي كمال أمره ونهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وعصمته من الخطأ وعدم تفضيل رأي غيره عليه في ذلك.
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى عدّ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الله في أكثر من موضع من كتاب الله. من ذلك قول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }[الحشر: 5 ].
وإذن الله في هذه الآية الكريمة هو إذن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل المعركة بقطع النخيل، فعدَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذنا له.
ومثله قول الله تعالى: “وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ”[آل عمران: 152].
الأمر الذي عصوه هنا هو أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرماة بلزوم الجبل يوم أحد وعدم المشاركة في القتال هزم المسلمون أو هُزِموا، فهنا عدّ الله عصيان أمر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عصيانا يعاقب عليه. فتدبر.
الثانية: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقتدون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل شيء، ولو علموا أن هناك أمور تشريعية وأخرى غير تشريعية من شاء فعلها ومن شاء تركها لما اقتدوا به هكذا، ولسجلت لنا كتب الحديث والسير مخالفات للصحابة رضوان الله عليهم لما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يعدّه القوم سنة غير تشريعية.
أليس كذلك؟
وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرهم على هذا الفعل، و لو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجوز عليه فعل الصغائر أو أنهم يسعهم مخالفته في بعض الأمور ـ التي يتكلم بها القوم ـ لما سكت عن اقتدائهم به في كل شيء، ولبين لهم أنه يقترف بعض الأمور التي تغضب الله ـ عز وجل ـ أو أن كثيرا من أموره خاصة بشخصه هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس لهم أن يتبعوه فيها أو مختارين في أن يتبعوه فيها. وقد كان من شان النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصحح لأصحابه.
أليس كذلك؟
وهنا أذكر قصتين تبيننا ن كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتبعون النبي في كل شيء وكيف كان يقرهم على ذلك.
وكيف أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصحح لهم إن اقتضى الأمر، ليعلم أن ما قام به الصحابة رضوان الله عليهم ـ ومنه تقليدهم له صلى الله عليه وسلم ـ في كل شيء أمر ارتضاه الشرع.
القصة الأولى: قصة خلعه لنعليه في الصلاة :
عن أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه-(11) قال: “بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلى بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلاته، قال: “ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟” قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً، وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر: فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما”(12)
فتدبر كيف أنهم حريصون على تقليد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنهم خلعوا نعالهم حين رأوه خلع نعله وهم بعد لم يعرفوا السبب في خلع النعلين.
وتدبر كيف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحح لهم ولم يسكت على فعلهم، وهذا يدل على أن ما سكت عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو صحيح.
وتدبر كيف أنه لم يعب عليهم تقليده دون أن يعرفوا السبب في الفعل.
والقصة الثانية هي قصة ارتدائه صلى الله عليه وسلم لخاتم الذهب.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: “اتخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ : “إني اتخذت خاتماً من ذهب، فنبذه، وقال: “إني لن ألبسه أبداً” فنبذ الناس خواتيمهم”(13).
ـ وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يقتدون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل شيء حتى في الأمور التي تكون بينهم وبين أهليهم، والدليل على ذلك أنهم حين اختلفوا في جواز القبلة للصائم(14)، وفى طلوع الفجر على الجنب وهو صائم(15) وفي الغسل لمن يجامع ولا ينزل، فرجعوا إلى نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسألوهم عن هذا كله.
ـ ويروى عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ”(16).
ـ وابن عمر رضي الله عنه كان يتأسى بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في حركاته وسكناته العادية التي هي من أفعال الجبلية، حيث كان يتبع آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل مكان حتى أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فَيُقِيل تحتها، ويخبر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفعل ذلك(17)، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ولو لم يعتقدوا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم في كل تصرفاته، وأن أفعاله كلها شرع لما اقتضوا به ولأنكر هو عليهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قلتُ: هذا حال من عاصروه وشاهدوه وشاهدهم وجالسوه وجالسهم ورأوا حاله وفهموا مقاله وسألوه عما أشكل عليهم، ورأى فعالهم وصحح لهم ومات وهو راض عنهم، وأوصانا ربنا بإتباع سبيلهم قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً }[ النساء: 115] {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[ البقرة: 137]
هذا حالهم… لم نسمع من أحد منهم أنه يسع أحدا أن لا يهتدي بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم في شيء. فكيف يُسمع لمن يتكلمون بهذا بعد ألف وأربعمائة عام أو يزيد؟
أتراه من العقل أن يُنصت إلى كلامهم فضلا عن أن نتكلم به؟
الثالثة: المكلف(18) لا ينفك بحال عن الحكم الشرعي.
الحكم الشرعي كما يعرفه أهل الأصول هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال العباد على سبل طلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير بين الفعل والترك.
وطلب الفعل هو المفروض و المندوب، وطلب الترك هو المنهي عنه والمكروه، والمخير بين فعله وتركه هو المباح.
فكل أفعال المكلف واحدة من هذه الخمس ولا بد. الأكل والشرب، والنوم مبكرا والسهر،… كل أمره تحت الشرع.
ليس هناك أمر من حال المكلف ـ المسلم البالغ العاقل ـ لا يندرج تحت الخطاب التكليفي. ومن زعم غير ذلك فليأت بالدليل.
والإشكال في المباح، وإن دققت وحققت وجدت أنه كالواجب والمندوب والمكروه والمحرم من حيث أن الذي أعطاه صفة الإباحة هو الشرع وليس الناس. فليس لأي أحد مهما كان أن ينقل شيئا من حكم الإباحة إلى الوجوب أو الندب أو الكراهية أو الحرمة، ولا العكس.
وخلاصة القول في هذه المسألة هو أن المباح كالواجب والمندوب والمحرم والمكروه تشريع إذ أنه لم يأخذ صفة الإباحة إلا من الشرع. ولكن يستقيم أن يقال من السنة الغير إلزامية(19)..
وهناك أمور في المأكل والملبس تدخل تحت الحلال والحرام مثل: ” أحلت لكم ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال”(2.)، وحديث: “أكل الضب على مائدة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “(21)، وكذا ما جاء في الأمر بتقصير الثياب وتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب، وهناك أمور مباحة من شاء فعلها ومن شاء تركها.
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحب نوعا من الطعام (مثل الدباء) أو الشراب (مثل الحلو البارد) أو لبس شيئا (مثل العمامة السوداء أو الجبة الشامية ضيقة الكمين). فهذا أمر مباح وإباحته لعدم وجود دليل يخرجه من الإباحة للوجوب أو الندب أو الكراهة أو الحرمة، فهو باق على أصله (إذ الأصل في الأشياء الحل).
والمباح في حقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباح في حقنا أيضا.
________________
(1) أول من تكلم بهذا ـ فيما أعلم ـ هو شيخ الأزهر السابق / محمود شلتوت في كتابه (الإسلام شريعة وعقيدة)، ويتكلم اليوم د. محمد العوا ـ محامي مصري ـ في لقاءاته ومقالاته بذات الكلام ويرفض أن يكون ناقلا عن شلتوت!!.
(2) ينظر: الإسلام عقيدة وشريعة (للشيخ) / محمود شلتوت ص499، 5…
(3) راجع ـ إن شئت ـ الدولة الإسلامية، ص64.
(4) المصدر السابق: ص76
(5) راجع ـ إن شئت ـ نظرات شرعية في فكر منحرف المجموعة السادسة للشيخ سليمان الخراشي ـ حفظه الله ـ / 23.
(6) من الجيد أن يأخذ الرد على أي شبه طريقين. طريق المعارضة وطريق النقد، ولكنني عدلت عن ذلك هنا لأن المقام مقال، ولا أريد أن اصدع القارئ بشبهات القوم، وفي النية إخراج بحث مطبوع عن هذا الموضوع بالتعاون مع أحد الأفاضل.
(7) والراجح أن العصمة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكون قبل وبعد البعثة.
والدليل على ذلك أمور:
منها أن القرآن احتج بحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة في إثبات نبوته، فقد اتخذ حياته -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة دليلا على عصمته وصدقه فيما يقول. قال الله –تعالى-:
“قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” (يونس: 16) “َوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ”(الأعراف: 184) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
“َمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ”(التكوير: 22) “قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ” (سبأ: 46).
والتعبير بلفظ صاحبكم فيه تذكير بأنهم لازموه ولازمهم،وصاحبوه وصاحبهم عمرا من الزمن ولم يعرفوا عنه شيئا من هذا.
ومن الأدلة على أن العصمة تكون قبل وبعد البعثة: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استدل بحاله قبل البعثة على صدقه فيما يخبر به وذلك حين صعد الصفا ونادى “أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً!!، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”
ومنها أن هذا المعنى ـ وجوب العصمة قبل البعثة للأنبياء ـ كان مستقرا عند هرقل عظيم الروم لذا سأل أبو سفيان فيما سأله عن حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا.
فقال له هرقل: لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله!!(
ومن أفضل ما قرأت في ذلك (رد الشبهات عن عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم) لعماد الشربيني ـ رسالة دكتوراه ـ ، منشورة بمكتبة صيد الفوائد على الشبكة العنكبوتية.
(8) أخرجه البخاري (بشرح فتح البارى) كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة 1/131، 132 رقم 631، ومسلم (بشرح النووي) كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة 3/187 رقم 674 من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(9) أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الحج، باب استحباب رمى حجرة العقبة يوم النحر راكباً 5/52 رقم 1297 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(1.) أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الفضائل، باب توقيره e وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه 8/12. رقم 1337 .
(11) هو أبو سعيد سعد بن مالك الخزرجي الأنصاري شهد الأحزاب وبيعة الرضوان وما بعدهما وكان أحد فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم ولد قبل الهجرة بإحدى عشر سنة. توفي بعد 63 سنة من الهجرة، وله ترجمة في أسد الغابة 2/451 رقم 2.36، والاستيعاب 2/1671 رقم 958 .
(12) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب الصلاة فى النعل 1/175 رقمي 65.، 651، والدارمي في سننه كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعلين 1/37. رقم 1378، وفيه عمرو بن عيسى أبو نعامة – صدوق – كما قال الحافظ في التقريب 1/742 رقم 51.5 وبقية رجاله ثقات – فالإسناد حسن.
(13) أخرجه البخاري (بشرح فتح الباري) في عدة أماكن منها كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي _صلى الله عليه وسلم_ 13/288 رقم 7298، ومسلم (بشرح النووي) كتاب اللباس والزينة، باب تحريم الذهب على الرجال 7/315 رقم 2.91 .
(14) روى في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها سُألت عن قبلة الصائم، فقالت: “كان النبي_ صلى لله عليه وسلم_يقبل، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه” أخرجه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الصوم، باب المباشرة للصائم 4/176 رقم 1927، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة 4/23. رقم 11.6 .
(15) روى أن مروان بن الحكم أرسل إلى عائشة، وأم سلمة رضي الله عنهما، ليسألنهما عن ذلك، فأخبرتاه أن رسول الله e كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم” أخرجه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الصيام، باب الصائم يصبح جنباً 4/169، 17. رقمي 1925، 1926، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 4/236 رقم 11.9 .
(16) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس 6/227 رقم 3.93 .
(17) أخرجه البزار في مسنده بإسناد رجاله ثقات، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/175.
(18) المكلف هو كل مسلم بالغ عاقل، واختلف في الكافر هل هو مخاطب بالشرع أم لا على قولين. وما يعنيني هنا هو المسلم البالغ العاقل.
(19) هذا هو معنى الإباحة الشرعية، والمعتزلة يقولون بأن الإباحة انتفاء الحرج عن الفعل أو الترك، وقالوا بأن ذلك ثابت قبل ورود الشرع وهو مستمر بعده فلا يكون حكما شرعيا. وهذا غلط. لأن المباح في الشرع يحتاج لدليل على إباحته.
(2.) أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال 2/295 رقم 3314 والدارقطنى في سننه كتاب الأشربة، باب الصيد والذبائح 4/271 رقم 25 من حديث ابن عمر، وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال فيه ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، وقال البوصيري: لكنه لم ينفرد به عبد الرحمن بن زيد عن أبيه، فقد تابعه عليه سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر. قال البيهقي: إسناد الموقوف صحيح وهو في معنى المسند أهـ. ينظر: مصباح الزجاجة 3/85، قال الشوكاني في نيل الأوطار 8/147 وكذا صحح الموقوف أبو زرعة، وأبو حاتم، وهو فى حكم المرفوع فيحصل الاستدلال بهذه الرواية أهـ بتصرف. وينظر: فتح الباري 9/58. – 585 رقمي 5536/ 5537، وتعليق المغنى على الدارقطني 4/271، 272.
(21) أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب 7/1.9 رقم 1944 من حديث ابن عمر رضي الله عنه وفى نفس المصدر أرقام 1945 – 1951 من حديث ابن عباس وغيره.