حوار مع الدكتور جمال المراكبي

حوار مع الدكتور جمال المراكبي أكد فضيلة الشيخ الدكتور جمال المراكبي - الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية في مصر - أن أهم الدروس المستفادة من التجربة الدعوية في مصر خلال العقود السابقة هو ضرورة الاهتمام ببناء القاعدة المؤمنة من خلال طريق المنهج الذهبي «التصفية والتربية» وأن هناك منهجا وحيدا للإصلاح..

حوار مع الدكتور جمال المراكبي

أكد فضيلة الشيخ الدكتور جمال المراكبي – الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية في مصر – أن أهم الدروس المستفادة من التجربة الدعوية في مصر خلال العقود السابقة هو ضرورة الاهتمام ببناء القاعدة المؤمنة من خلال طريق المنهج الذهبي «التصفية والتربية»، وأن هناك منهجاً وحيداً للإصلاح، هو منهج عقدي شرعي صحيح تُربَّى عليه الأمة.

وأوضح أن العمل الجماعي نشأ في مصر بوصفه نتيجة طبيعية لسقوط الخلافة، فكان لا بد من قيادة ورموز تقود الأمة في هذه المرحلة الحرجة. وأكد أن الأمة مطالبة بتطبيق الشريعة كلياً والامتثال لحكم الله، لكن مع مراعاة أحوال الناس وكيفية دعوتهم إلى التطبيق.

وأشار إلى نشاط جماعة أنصار السنة الواسع في العمل الخيري، لكنه يحتاج إلى المزيد من التدعيم والجهود، مؤكداً في الوقت ذاته أن جماعة أنصار السنة جماعة دعوية بالأساس، وليست جمعية خيرية إغاثية، وهي تمارس العمل الخيري من باب الدعوة.

وتطرق إلى قضية الفضائيات الإسلامية، مطالباً علماء أهل السنة ودعاتهم بالمحافظة على هذه النعمة العظيمة واستثمارها بأفضل الطرق؛ خاصة أن تأثير الفضائيات سيزداد في المستقبل القريب والبعيد، وهذا يستلزم المزيد من الانضباط السلوكي والتآلف والتعاون بين علماء أهل السنة ودعاتهم.

كما دعا إلى ترك أسباب القنوط واليأس الذي يؤدي إلى ترك العمل؛ فأنت لست مطالباً بالنتائج، بل مطالباً بالعمل والأخذ بالأسباب فقط وتكون بذلك قد أديت ما عليك، أما النتائج فهي من عند الله سبحانه وتعالى، وأما أن تترك العمل بدعوى عدم الجدوى فهذا وقوع في المحظور وفي حبائل الشيطان، فعليك بالعلم والعمل!

*بعد عقود من الدعوة ونشر العلم الشرعي ومحاربة البدع؛ ما تقييمكم لتجربة جماعة أنصار السنة في مصر؟size=3>size=3>

▪ الحقيقة أن تجربة جماعة أنصار السنة في مصر بصفة خاصة والعالم بصفة عامة تجربة رائدة ومشجعة؛ لأن جماعة أنصار السنة بدأت في التوقيت الذي حدثت فيه هزة عظيمة في العالم الإسلامي بعد إلغاء الخلافة الإسلامية وظهور تيارات عديدة، مثل: تيارات تريد أن تبايع ملك مصر خليفة للمسلمين، وأخرى تتكلم عن ملك العرب، وتيارات عَلْمانية، وتيارات حملت الفكر السياسي وعدّته أصلاً وأساساً في هذا الباب. لقد كان التوقيت الرسمي لظهور جماعة أنصار السنة في عام 1926م، أي: قبل عامين من ظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م، وقبلهما الجمعية الشرعية بعدة سنوات.

وهذا التوقيت شهد هزة كبيرة في الأمة كانت تستوجب وجود عمل جماعي؛ لأن الرمز الذي يتبعه المسلمون – آنذاك – سقط، والمسلمون لا يجدون رمزاً لهم، ويحاولون بشيء من التسرع وعدم الترتيب الصحيح إيجاد البديل؛ فلم يجدوا، فلجأ أصحاب هذه الأفكار إلى البنية التحتية وهي الناس، فقالوا: لو أن الناس يملكون التأثير وعندهم أيضاً الثقافة الشرعية لكان لهم تأثير أكبر، فالناس عندنا كانوا ولا يزالون  يساقون كالقطيع، ينتظرون البطل المخلص، ويرون أن الدنيا لا صلاح لها، وستظل من سيِّئ إلى أسوأ، ومن فاسد إلى أفسد، حتى يأتي هذا النموذج، وهذا النموذج يحتاج إلى رجال.

كانت هذه الفكرة هي التي سيطرت على الجميع في هذا التوقيت، لكن اختلفت وجهات النظر ما بين أصحاب رؤية تجميع الناس في صورة تشبه الحزب السياسي، وإن لم تكن حزباً فلتكن جماعة يُهتم فيها بتجنيد المسلمين للوصول إلى صاحب القرار والتأثير عليه، أو الوصول إلى القرار ذاته فيكون أحدهم صاحب القرار، وكان ذلك منهج جماعة الإخوان المسلمين.

بينما خرجت جماعة أنصار السنة برئاسة الشيخ حامد الفقي – رحمه الله – بفكرة العمل على تثقيف المسلم بالثقافة التي تعصمه، وكان السؤال الملح: كيف نحرر المسلم من ثقافة القطيع؟ حيث كان التصوف منتشراً بشكل كبير، وكان انحرافه انحرافاً واسعاً. وبناء على هذه الثقافة قال الناس: «إن كل شيء بقدر الله عز وجل، بل ربما يكون هذا الواقع عقوبة»، وبالطبع هذه المعاني أصلها صحيح لكن إذا أدت إلى الركون والرضى بالواقع المر فهذا أثر فاسد، فنحن نعاقَب، والأمة في زمن الغثائية تعاقب، والعقوبة قد تكون جماعية، لكن ليس من العقوبة أن نرضى بهذا؛ لذلك كانت الفكرة عند جماعة أنصار السنة دعوة الناس إلى التوحيد الخالص.

ركزت الدعوة في البداية على الصدام مع أصحاب الدعوات المنحرفة، فكانت لا توجد قرية من قرى مصر إلا وفيها ضريح ومولد. (وطبقات الشعراني) ترسم صورة هذا الواقع المر بوضوح، وأذكر وأنا في المرحلة الإعدادية عندما حدثتْ نكسة 1967م كنا نقول: لا تخافوا فبلدنا محاطة بالأولياء الذين سيحموننا. فقد زرعوا في قلوبنا أن هؤلاء الأولياء سيدفعون عن بلدنا الطائرات والقنابل والصواريخ، وهذه العقيدة كانت تورَث على مدار الأجيال المتعاقبة. وجماعة أنصار السنة صارعت وجاهدت مجاهدة شديدة في هذا الباب، وجُوبهت في البداية بردِّ فعل عنيف، واتُّهمت بالعمالة للوهابية وأنها من الخوارج وأنها لا تدين بالمذاهب الأربعة، والطعن فيهم إلى أقصى حدٍّ.

ونظراً لعلم الشيخ حامد الفقي – رحمه الله – وتأثيره فقد أخذ تلاميذه يلتفون حوله، وبدؤوا يتحررون من الولاء للأولياء وقبورهم، وشعروا أنهم أصبحوا أحراراً، وأصبحوا خطباء ودعاة، ومن هنا كانت بداية انطلاق جماعة أنصار السنة التي انتشرت في ربوع مصر، ثم خرجت إلى السودان والشام والعراق وغيرها من الدول الإسلامية، وهذا الخروج لم يكن منظَّماً بل عن طريق أفراد تأثروا بالدعوة وعندما عادوا إلى بلادهم نشطوا في الدعوة وأسسوا فروع جماعة أنصار السنة.

ودائماً أنظر إلى تأثير جماعة أنصار السنة من خلال تجربتي الشخصية، فما كنت أعلم شيئاً عن جماعة أنصار السنة، فقد كنت أطلب العلم بوصفي من أسرة متدينة، فالوالد والجد يصعدان المنابر، وللعائلة علاقة بالبيئة الدعوية، لكن بعد ذلك عندما وقع الاحتكاك بدعاة جماعة أنصار السنة في بلدتنا بدأت أتأثر بهم، حيث وجدتهم أصحاب فكر وعقلية تحترم الكتاب والسنة والبحث العلمي، وتعلمك كيف تبحث في المسألة وكيف تعرف الدليل، ولا تقول: قال الشافعية أو الحنفية دون أن تدري من أين أخذوا واستنبطوا، لكن تعلمك كيف تصيب الدليل، وكيف تفهم مناط الدليل، وكيف تحقق هذا المناط، وكيف تصل إلى كبد الحقيقة والمراد في المسألة.

وقد واجهت جماعة أنصار السنة حرباً شعواء في بلدتي، وقد كنت أميل إلى هذه الجبهات المناوئة، فقد كنا نسمع أن جماعة أنصار السنة لا يحبون النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ لأنهم يقولون: إن الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم –  محرمة، وقراءة القرآن في المساجد محرمة، والأولياء لا فضل لهم، وهذه الدعاوى تستفز أي مسلم، لكن لما اقتربت من جماعة أنصار السنة اكتشفت أن هذه الأقوال إنما هي حرب دعائية مضللة ضد الجماعة.

وكان أكثر من أثَّر في شخصيتي هو الشيخ الفاضل والمعلم الكبير الشيخ محمد صفوت نور الدين – رحمه الله – الرئيس السابق لجماعة أنصار السنة، فقد كان أستاذي في المرحلة الثانوية، وعندما اقتربت منه وجدته مؤدباً ومعلماً ومربياً، وكان له ولعلماء جماعة أنصار السنة تأثير كبير جداً على أهل بلدتنا، حيث بدأنا ندرس على أيديهم في حلقات علمية متخصصة وجلسات للبحوث، وهذه كانت نواة لمعاهد إعداد الدعاة بعد ذلك، وقد حوَّلني الشيخ – رحمه الله – إلى مجال الدعــوة كلياً، ودفعني إلى استثمار دراستي في كلية الحقوق والماجستير والدكتوراه في تحصيل العلم الشرعي.

هذا التأثير لجماعة أنصار السنة أخرج لنا دعاة من جميع الفئات، فمثلاً: كان الشيخ صفوت – رحمه الله – مدرساً للعلوم، والشيخ صفوت الشـوادفي – رحمه الله – رئيس جماعة أنصار السنة الأسبق تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلا أنه أصبح من كبار الدعاة إلى الله، وأنا متخصص في القانون؛ فما علاقتنا بالدعوة؟ كان المفهوم السائد أن الدعاة من خريجي الأزهر فقط، لكن جماعة أنصار السنة غيَّرت هذا المفهوم، واستطاعت أن تصل إلى فئات واسعة واستطاعت أن تحولهم إلى دعاة إلى التوحيد؛ لأنه من السهل أن تدعو إلى (لا إله إلا الله) ومفهومها، وبيان البدع والمنكرات في الموالد والأضرحة، والدعوة إلى التمسك بالسنة ومحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فهذه المسائل لا تحتاج إلى عالم أزهري؛ خاصة أن الأزهر في هذا الوقت كان يجابه هذه الدعوة، لكن – بفضل الله – تغيرت هذه الصورة بنسبة كبيرة، والكثيرون من الأزهر يحملون لواء هذه الدعوة؛ سواء انتموا إلى جماعة أنصار السنة أو لا.

من ثمار هذه الدعوة المباركة: الأخت الفاضلة «نعمت صدقي» التي ألَّفت كتاب: التبرج، فقد كانت مثقفة «ثقافة الصالونات» حيث ترى النموذج الفرنسي هو المثال المحتذى، فإذا بها من خلال دعوة جماعة أنصار السنة تكتب كتابها في التبرج وتدعو النساء إلى الحجاب. وزوجها محمد رضا صاحب كتاب في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – . فهذا نموذج لما نقصده، فهذه امرأة خاطبنا فيها الفطرة فأصبحت داعية إلى التوحيد وإلى التزام الشرع، وذلك في الوقت التي كانت فيه مثيلاتها دعاة للسفور في مصر.

بعد هذه المرحلة التأسيسية وترسيخ الدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة البدع؛ انتقلت جماعة أنصار السنة إلى ترسيخ منهج أهل السنة، مثل: الحديث عن الأسماء والصفات والربوبية وطريقة السلف في الاعتقاد والمعاملات والسلوك.

وقد مرت جماعة أنصار السنة بمرحلة تضييق ومنع وتجميد للنشاط في فترة الخلاف بين السعودية والرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتمَّ ضم جماعة أنصار السنة إلى الجمعية الشرعية، وكان من ثمار هذا تأثير جماعة أنصار السنة على الجمعية الشرعية في باب التوحيد والأسماء والصفات والهدي النبوي. والآن لدينا أكثر من 200 فرع داخل مصر، ونحن نتأنى في إشهار الفروع؛ لكي نؤسس أولاً الرجال الذين يقومون على هذه الفروع.

*من المعروف عن جماعة أنصار السنة الاهتمام بالعلم الشرعي ومحاربة البدع، ويخفى على بعض الناس مساحة العمل الخيري لديكم؛ فما أبرز النشاطات الخيرية لجماعة أنصار السنة؛ خاصة أن بعضهم يأخذ عليكم ضعف العمل الخيري بما يتلاءم وإمكانيات جماعة أنصار السنة ومكانتها؟size=3>size=3>

▪ لدينا فروع منتشرة في ربوع مصر كلها، والعمل الخيري هو مساعدة الفقراء ومعالجة المرضى وكفالة الأيتام والمحتاجين، وهذا العمل موجود لدينا بصورة ظاهرة، فلدينا – ولله الحمد – مستشفيات خيرية كثيرة، ولدينا مساعدة لطلبة العلم.

والسبب في أن هذا العمل الخيري لا يظهر بوصفه كائناً ضخماً أنه لا يرتبط بنشاط المركز العام لجماعة أنصار السنة، وإنما نجعل نشاط كل فرع على حدة، فهناك نوع من (اللامركزية) في العمل الخيري والإغاثي، وذلك بسبب أن القانون الذي ينظم عمل الجمعيات في مصر يقضي أن كل فرع كائن مستقل بذاته.

ولكن في خارج مصر لدينا ضعف في العمل الخيري باستثناء بعض المساعدات في غزة وفلسطين عموماً، ولعل السبب في ذلك أن العمل الخيري في مصر يحتاج إلى جهود ضخمة، فنحن جمعية مستقبِلة في هذا الباب وليست مرسلة، فمثلاً: لدينا 12 ألف يتيم تقدم لهم المساعدات من خارج مصر، وتبلغ قيمة الكفالة 180 جنيهاً شهرياً لكل طفل. واليتيم يكفل في بيته مع أمه، ويتم تعليمه القرآن، ومتابعته دراسياً، وربطه بالكافل الذي يكفله خارج مصر.

وهناك مؤسسات خيرية تتعاون معنا من خارج مصر، مثل: مؤسسة عيد آل ثاني في قطر التي تتعاون معنا في بناء المساجد ودور تحفيظ القرآن وكفالة الأيتام. وتتعامل معنا مؤسسة إحياء التراث في الكويت في المجالات الثلاثة سالفة الذكر، وكان يتم ذلك مع العديد من الجمعيات الخيرية في السعودية، لكن حدث خلل بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، أدَّى إلى توقف هذا التعاون مع الجمعيات السعودية.

والعمدة في هذا الباب أننا بالفعل نهتم بالدعوة والعلم أكثر من العمل الإغاثي؛ فقد كان الشيخ صفوت نور الدين – رحمه الله – يقول: نحن لسنا جمعية خيرية ولا إغاثية، نحن جماعة دعوة، وهذا هو الأصل لدينا، وحتى في مجال الإغاثة والعمل الخيري نمارسه من باب الدعوة، فلا نطعم اليتيم دون أن نعلِّمه.

* التجربة الدعوية في مصر بجميع أطيافها ومكوناتها من أغنى التجارب وأكثرها ثراء على مستوى العالم الإسلامي؛ فما أهم الدروس المستفادة منها؟size=3>size=3>

▪ مصر بلد المتناقضات، وكما قال المتنبي:

وكم ذا بمصر من المضحكات      ولكنه ضحك كالبكاsize=3>size=3>

فإذا دخلت المسجد فلا تكاد تجد لك موضعاً، وإذا دخلت السينما فلن تجد أيضاً موضعاً، فمصر بلد عجيب، والتنوع فيها سمة من سماتها، وهي أكثر دولة تأثرت بالأفكار المستوردة؛ لأن الغرب اهتم جداً بمصر. ففي العهد الملكي أراد بعض الملوك أن تصبح مصر قطعة من أوروبا، فكانوا ينقلون الثقافات الأوروبية قبل أن يفطن أي أحد في العالم الإسلامي لذلك. فمصر قطعت شوطاً كبيراً في الاستغراب، لكن بفضل الله أولاً ثم بوجود كيان دعوي قوي مثل: مؤسسة الأزهر، ووجود جهات دعوية إلى جواره؛ بدأت مصر في العودة إلى فطرتها من جديد.

لقد حاولت الحكومات المتعاقبة تحديد دور الأزهر لكي لا يقــوم بدوره في مواجهة التغريب، لكن المصريين لا يسكتون؛ فعلى الرغم من أن القانون يسمح بقيام الجمعيات والمؤسسات في أي مجال «موسيقى، رسم، رياضة.. إلخ»؛ إلا أنه يحظر تأسيس جمعيات دعوية، ويسمح فقط بالجمعيات الخيرية؛ لذلك اخترع المصريون فكرة تكوين جمعيات خيرية تكون الدعوة أحد أنشطتها والتي تطغى بالتدرج على نشاط الجمعية، ونجحت التجربة؛ مثل: الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة.

كما كان للإخوان المسلمين تجربة في العمل السياسي منذ البداية، وكانوا أكثر التيارات تحقيقاً للنتائج السريعة، فالنتائج في العمل السياسي تظهر سريعاً؛ خاصة ما قبل الثورة عام 1952م في ظل الحرية النسبية، لكن بعد الثورة أصبح الإخوان أكثر الطوائف تعرضاً للاضطهاد والضغط، وهو ما أثر سلباً في نشاطهم الدعوي.

وفي فترة رئاسة السادات فُتح المجال للتيار الإسلامي لضرب التيار الشيوعي، وهو ما نجح فيه التيار الإسلامي، لكن هذه الفترة الذهبية لم تُستثمر جيداً، والسبب – في رأيي – أن المسلمين لم يكونوا قد هُيِّئوا بعدُ للقيادة، فكان هناك شباب لديه حماسة وحب للدين ورغبة في تطبيق الشريعة، لكن ليس لديه أناة ولا إحاطة علمية بالواقع وتنزيل الأحكام على الواقع، فكانت النتيجة ما يعرفه الجميع والعودة إلى التضييق الذي أضرَّ بالدعوة.

فما نقوله هو أننا نريد أن نردَّ الأمة إلى الأمر الأول، فهناك منهج وحيد لإصلاح هذه الأمة هو منهج عقدي شرعي صحيح تُربَّى عليه الأمة. لقد أثبتت التجارب أن الحاكم إذا حمل لواء التغيير دون تغيير في الناس؛ فإن فترة التغيير هي فترة حياته فقط، فعبد الناصر حمل لواء الاشتراكية والقومية العربية، ولما مات جاء السادات بدعوة مخالفة تماماً واستطاع أن يحول الأمة إلى تيار مخالف تماماً.. وهكذا. لكن إذا تأثر الرأي العام فهو قادر على التغيير الصحيح.

فأهم الدروس المستفادة من التجربة المصرية: ضرورة الاهتمام ببناء القاعدة المؤمنة من خلال طريق المنهج الذهبي «التصفية والتربية»، وهذه القاعدة هي المقصودة بالتعبير الحديث (تكوين الرأي العام المؤثر). هذا الرأي العام الذي يشكله العلماء والدعاة هو ورقة الضغط الأهم في التأثير على صنَّاع القرار؛ فعندما يصبح لدى العلماء والدعاة كلمة مطاعة عند الناس؛ ستصبح كلمتهم عند أصحاب القرار مسموعة ومؤثرة.

 وإن لم تؤثر هذه النصيحة فما علينا إلا البلاغ المبين، حتى يأذن الله بالأمــر من عنــده، والــذي سيتــحقق حتــماً هو ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – : «وستكون خلافة على منهاج النبوة»، فنحن على وعد من الله، لكن السؤال: كيف يتحقق هذا الوعد؟ ربنا يقول: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: ٨٣] فنحن نريد أن نشارك في بناء من يحملون الفكرة ويسعون في تطبيقها بالمنهج الشرعي.

ولا يجب الاستهانة بالأفكار والسعي في نشرها؛ لأن الاستمرار والتتابع والتراكم ستأتي بالنتيجة حتماً، فمثلاً: الشيوعية كانت مجرد فكرة وضعها (ماركس) في كتبه، لكن هناك مــن اقتنع بها وبدأ في نشرها، والنتيجة – كما هو معلوم – قيام إمبراطورية الاتحاد السوفييتي عام 1917م، والعديد من الدول والحركات والهيئات، فهذه الفكرة الدنيوية الخبيثة غير المعقولة التي تنافي الفطرة السليمة أثمرت ما رأيناه؛ فكيف الحال بالمنهج والفكرة الصحيحة التي تلبي احتياجات الفطرة ولا تتصادم معها وتحمل الخير والنور إلى الناس؟ كيف الحال بدين وشرع وقرآن لولا أننا نبذناه وراء ظهورنا؟! فنحن بحاجة أولاً إلى رجال يؤمنون ويفقهون، ثم يعملون، ثم يدعون وينشرون.

إن أهم الدروس المستفادة من التجربة المصرية هو ضرورة بناء القاعدة على أسـاس علمــي تعبُّــدي، فتخيَّــل لو أن صاحب قرار وجد رأياً عاماً يقول: هذا القانون يخالف شرع الله، ولا سمع ولا طاعة في معصية الله، وأننا لن نطبق هذا.ولدينا نموذج واضح على ذلك؛ فالقانون يحرم الختان ويمنعه، لكن الختان في الواقع منتشر وحتى كثير من الأطباء يقومون بالختان حتى لو تعرضوا للعقوبة؛ لأن هناك رأياً شرعياً يقول: إنه مستحب؛ فما الحال إذا كان فريضة؟

فالرأي العام مؤثِّر بشدة في صناعة القرار، فإذا كان مستنيراً بالشرع فإنه سيؤدي إلى خير عظيم، ولا نقول: أن يصبح كل الناس دعاة ويحملون الراية، لكن على الأقل نخرج من حالة عدم الوعي التي تحياها الأمة إلى حالة من الوعي بضرورة الرجوع إلى أحكام الشريعة السمحة.

وأعتقد أن هذه الصحوة المباركة التي عمرها سنوات قليلة ستحيي أمتنا من جديد، على رغم ما بها من خلل؛ بسبب حداثة عهدها، لكنها ستسد خللها بتوفيق الله عز وجل.

*هل تعاني الصحوة من غياب الرموز العلمية لقيادة الشباب وتوجيههم في ظل الأوضاع التي لا تخفى عليكم؟size=3>size=3>

▪ نعم! الصحوة تعاني من غياب الرموز؛ فلدينا داء لا بد أن نعترف به، هذا الداء هو الفرقة؛ فقد قال – صلى الله عليه وسلم – : «سألت ربي ثلاثة فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة»، والتي مُنع منها النبي – صلى الله عليه وسلم –  ألا يجعل بأسهم بينهم شديداً، فلا بد أن نعترف بهذا الواقع الذي يخرج تيارات مختلفة، ويخرج شباباً مرجعيته من رأسه ويعتقد أنه هو الصواب وأن كل ما سواه خطأ.

إن السبب في تعاظم هذا الداء هو قلة العلم وضعف الإخلاص والانتصار للنفس وليس لدين الله. إنه كلما ترسخ العلم؛ كلما اتسع المجال لتقبُّل الاختلاف والاجتهاد والتعاون، والواقع أن هناك العديد من المشكلات التي يصنع بعضها الأعداء ويستغلونها، وبعضها الآخر من صنع أيدينا لكن يستغلها الأعداء أيضاً.

مع هذا؛ لا بد أن نثق أن التغيير يملكه رب العزة، وأننا مطالبون بتغيير ما بأنفسنا فـ {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١]. وما بأنفسنا وإن كان عاماً لكنه يبدأ بالخصوص، فلن أستطيع أن أغيِّرك حتى أغيِّر نفسي أولاً.

وحتى الرموز الموجودة فهي قليلة وغير متعاونة، وبعض الشباب يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وهذا ابن الواقع ولن يدوم، ومع الصحوة الإعلامية أصبحت أعرفك بما تكتب وبما تقول، وكنت من قبل أعرفك بما ينقل عنك، فالآن انتقلنا من مرحلة (أسمع عنك) إلى (أسمع منك) وهذه أفضل وسيلة لإذابة الفوارق والالتقاء على منهج واحد.

*ألا تلاحظ فضيلتكم ضعف الدعوات المطالبة بتطبيق الشريعة، وأنها تراجعت على سلم أولويات الدعاة الإسلاميين مقارنة بالعقود الماضية؟size=3>size=3>

▪ الشريعة هي أحكام الله الأصلية: افعل ولا تفعل؛ فهي الأوامر والنواهي التي تلزم المسلمين، فهي مجموعة من الأحكام الشرعية التي تضبط سلوك المسلم مع ربه ومع الجماعة المسلمة ومع غير المسلمين، فالشريعة الإسلامية هي دين الإسلام؛ فالصلاة من الشريعة، والصوم من الشريعة، وسلوك المسلم مع غيره بيعاً وشراء وتزويجاً وتطليقاً ووصية من الشريعة، وضوابط علاقة الدول الإسلامية مع دول الكفر من الشريعة.

لكن الانحراف الذي وقع فيه جُلُّ أمتنا أخذ أجيالاً طويلة، ولن يكون ردُّها إلى الحق بين يوم وليلة، بل نصبر عليها ونسأل ربنا التوفيق، ونأخذ بيدها برفق ورحمة.

إن أيَّ انتقال في تاريخ الأمم يحتاج إلى أوقات طويلة، فالأمة تبدأ ثم تكبر ثم تصبح فتية قوية تسود ثم تزول وتضعف بالتدرج نفسه؛ فالحديث عن الأمم يحتاج إلى وقت، وهو ما يحدث بالنسبة للأفراد أيضاً، فمن انحرف عن الدين الصحيح والصراط المستقيم يحتاج إلى وقت طويل.

إن الشريعة جزء لا يتجزأ، ونحن – معشر المسلمين – مطالبون بتطبيق جميع أحكامها، لكن هناك أولويات في التطبيق، فهل إقامة الصلاة أَوْلى أم إقامة الحد؟ بالطبع إقامة الصلاة، فإذا أوجدنا مجتمعاً يصلي فسيطالب نفسه بتطبيق الحدود.

وفي الحديث الصحيح: «لتنقضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فأولها نقضاً الحكم وآخرها الصلاة». فالأمة التي تعاني من التفريط لا يمكن اختزال مشكلتها في الحدود فقط، لكن علينا أن نهتم أولاً بكيفية رجوعها إلى الحق.

واقعنا اليوم في كثير من البلدان يشهد بالانحرافات وقلة عدد المصلين والتوجه تارةً ناحية الغرب وتارةً ناحية الشرق، فهل نطالب من لا يصلي بتطبيق الحدود، فأنت تأمر بالمستحيل؛ لأنك لم تقترب من هذا الواقع لتأخذه إلى الشرع، فالإنسان المتفلت لن يصبح ملتزماً بالشرع بين يوم وليلة، بل يحتاج إلى دعوة وتربية وتدرُّج، والمثال الواضح على ذلك هو المرأة شديدة التبرج؛ فهل ندعوها إلى النقاب مباشرة؟ سيكون الرفض هو الغالب في معظم الحالات، لكن يكون الحديث حول الحشمة والصلاة، وأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم نتدرج معها في الحجاب ثم النقاب.

فإذا أوجدنا الرأي العام الضاغط باتجاه تطبيق الحدود؛ فستطبق الحدود بمنتهى السهولة، فلو أصبحت في الغد المسؤول الأول في بلدٍ ما؛ فكيف ستطبق الشريعة؟ وهل سيقبل الناس تطبيق الحدود؟ وما موقف الأب إذا سرق ولده؛ هل سيرضى بقطع يده؟

سيقبل الناس من الشريعة ما يتوافق مع مصالحهم، وسيرفضون ما يخالفها؛ لأن التربية الإيمانية غير متجذرة في القلوب.

لن تجد عامة الناس يقولون: سمعنا وأطعنا. سنجد التطبيق المنحرف للشريعة الذي حذر منه النبي – صلى الله عليه وسلم – : «إذا سرق فيهم الغني تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد».

إن تطبيق الشريعة يحتاج إلى صناعة النخبة الصادقة التي تؤثر على المجتمع وتمهِّد الطريق لتطبيق الشريعة. لقد أقام النبي – صلى الله عليه وسلم –  حدَّ الزنى على معاذ والغامدية، وقد أتى كل منهما بنفسه لإقامة حكم الإسلام عليه.

خلاصة القول: إننا مطالبون بتطبيق الشريعة كلياً والامتثال لحكم الله، لكن مع مراعاة أحوال الناس وكيفية دعوتهم إلى التطبيق.

* لفضيلتكم حضور قوي في الفضائيات الإسلامية؛ فما تقويمكم لهذه التجربة؟ وما الفرق بين الخطاب الدعوي في المساجد وبين الخطاب الدعوي في الفضائيات؛ خاصة أن هذه الأخيرة تفتقد الجو الروحي والتأثير الذي يُحدثه المسجد، فضلاً عن غياب المتابعة الدعوية؟size=3>

▪ لا بد أن لا ننسى المساجد ودورها؛ لأن المسجد هو الأصل والأساس، والمسجد ليس فقط للعلم والتعليم، لكنه أيضاً بيت الله حيث تقام الصلاة.

والمسجد تلمس خلاله أحوال المدعويين المقربين، فإذا ظهرت مشكلة تستطيع تلمُّسها وحلها، فلا غنى عن المسجد بحال من الأحوال، وأنا ضد أن يتفرغ الداعي للفضائيات ويترك المسجد.

لكن علينا ألا ننسى دور هذه الفضائيات التي تخاطب شريحة واسعة من الجمهور، وأصبح من الممكن للداعية من خلالها أن يخاطب الناس في شتى بقاع الأرض.

ومن ثمار الانفتاح الفضائي: أن دعاة أهل السنة فرضوا أنفسهم بعلمهم ومنهجهم، فقد كان الناس من قبلُ ينظرون إلى هيئة أهل السنة على أنها تمثل التطرف والإرهاب، أما الآن فهي تمثل هيئة العلماء والدعاة وأهل الصلاح، وأصبح الهَدْيُ الظاهر مقبولاً لدى شريحة واسعة من عامة الناس، فقد تغيرت الصورة النمطية المأخوذة عن دعاة أهل السنة.

وكان من نعمة الله – عز وجل – أن بعض الدعاة الذين ضُيِّق عليهم ومُنعوا من الدعوة في المساجد؛ جاءت الفضائيات لتفتح أمامهم ساحة الدعوة بكاملها، فلله الفضل من قبلُ ومن بعدُ.

في زيارة إلى السعودية قال لي رجل إنه من إيران، وأخبرني أن نحو 100 ألف شخص أعلنوا (تسننهم) خلال فترات قليلة؛ بسبب استماعهم إلى أهل السنة عبر الفضائيات؛ خاصة أنهم لم يستمعوا سابقاً إلا إلى علماء الروافض فقط، فمنهج أهل السنة والجماعة دخل إيران رغم أنف الحكومة الإيرانية.

لذلك أطالب إخواني من علماء أهل السنة ودعاتهم بالمحافظة على هذه النعمة العظيمة واستثمارها بأفضل الطرق؛ خاصة أن تأثير الفضائيات سيزداد في المستقبل القريب والبعيد، وهذا يستلزم المزيد من الانضباط السلوكي والتآلف والتعاون بين علماء أهل السنة ودعاتهم.

وإذا كان بعض الشباب الملتزم يرى أن الخطاب في الفضائيات لا يناسبه، وأنه قد تخطى تلك المرحلة؛ فنقول لهم: إن لكل مقام مقالاً؛ فلـدينا معاهد إعداد الدعاة ومستواها بلا شك أعلى بكثير من الفضائيات، فعلى الشباب الراغب في العلم أن يلتحق بها ويتخرج منها، ثم يلتزم العلماءَ ويتعلم منهم.

وعلى الشباب الملتزم ألا ينظر إلى نفسه فقط، فهل يظن الشاب أن ما لا تحتاج إليه لا تحتاج إليه الأمة أيضاً؟ وليس من المطلوب أن يصبح كل الشباب علماء، لكن المطلوب أن يكون الجميع دعاة، كلٌّ بحسب قدرته وعلمه وخبرته، فمن المفرح أن تجد طبيباً أو مهندساً يعلِّم القرآن الكريم في المساجد ويأخذ بيد الشباب إلى طريق الاستقامة دون أن يعتلي المنابر أو يلقي الدروس والمحاضرات.

*هل من كلمة توجهونها إلى العاملين في الدعوة إلى الله ممن يشعرون بالإحباط من تحديات الواقع وضغوطه؟size=3>size=3>

▪ في الماضي كان إذا تكلم أحد من جماعة أنصار السنة في مساجد الأوقاف فإن الناس ينهرونه ويتهمونه بالوهابية، أما الآن ففي بلدتي فقط يخرج نحو 100 من الدعاة كل جمعة من مسجد جماعة أنصار السنة، وهذا التغير لم يحدث بين يوم وليلة، بل خلال 20 سنة، فلله الحمد والمنة.

إن المسلم يغضب لمحارم الله ويحزن على حال أمته، لكن لا ييأس ولا يقنط، بل يكون هذا الحزن والغضب دافِعَيْن للنجاة، فأحد السلف كان يقول: ماذا يضيرك لو أن الناس كلهم قد هلكوا وقد دخلت أنت الجنة؟ وماذا ينفعك لو نجا الناس كلهم ودخلت أنت النار؟

فدعْ أسباب القنوط واليأس، فأنت لست مصلحاً اجتماعياً، وأنت لا تصلح أحداً، ولكن الله يصلح بك من يشاء.

لا لليأس الذي يؤدي إلى ترك العمل، فأنت لست مطالباً بالنتائج، بل مطالباً بالعمل والأخذ بالأسباب فقط، وتكون بذلك قد أديت ما عليك، أما النتائج فهي من عند الله سبحانه وتعالى، وأما أن تترك العمل بدعوى عدم الجدوى فقد وقعت حينئذ في المحظور وفي حبائل الشيطان، فعليك بالعلم والعمل، والله الهادي إلى الصراط المستقيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة البيان256.

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!