مثل هذه الخطوة التي لم يقم بها رئيس البرلمان العراقي بشكل جدي تجاه التظاهرات العارمة التي شهدتها العاصمة بغداد وباقي المدن الجنوبي طوال العام المنصرم، والتي راح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى، أنما هي بمثابة رسالة سياسية من القوى المركزية العراقية تجاه سلطات الإقليم، تقول بإمكانية تدخل السلطات المركزية في الشؤون الداخلية للإقليم، وبمعنى ما الاستفادة من الثغرات وسوء الأحوال الداخلية في الإقليم.

لم يكن رئيس البرلمان المركزي العراقي وحده الذي دخل على خط الأزمة في الإقليم، فمعظم الساسة العراقيين، بالذات من قيادات الأحزاب الحاكمة، ذهبوا في ذلك المنحى، مطالبين بأن تتخذ الحكومة المركزية إجراءات مباشرة ضد حكومة الإقليم، مثل تسلم رواتب موظفي الإقليم بشكل مباشر، دون تسليمها لحكومة الإقليم، أو التدخل “لحماية مواطني الإقليم”، أو حتى فرض عقوبات قضائية ضد متخذي القرار في الإقليم.

في الجوهر، وإن كانت تلك الخطابات السياسية تظهر وكأنها مندفعة للتعاطف مع أزمة مواطني إقليم كردستان العراق، إلا أنها جوهرياً كانت تظهر وكأنها تسعى جاهدة لتقويض المرتكزات والسلطات الفيدرالية التي يتمتع بها إقليم كردستان العراق، لتكون أقل استقلالية وأكثر تبعية للسلطات المركزية وقواها السياسية الحاكمة.

رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور البرزاني رد على مثل تلك التوجهات بطريقة غير مباشرة، عبر مؤتمره الصحفي الذي عُقد في توقيت جلسة البرلمان العراقي، قائلاً: “قضيتنا مع بغداد لست قضية رواتب فقط بل هي قضية حدود وجغرافية وسلاح … يجب إيقاف حملات التعريب الجارية في مناطق كردستانية خارج ادارة إقليم … هناك تهديد حقيقي على كيان إقليم كردستان من خلال اتباع سياسة التجويع”.

مراقبون متابعون للعلاقة بين الإقليم والحكومة المركزية، أشاروا إلى الملفات التي تريد الحكومة والقوى السياسية المركزية من نظيرتها التي في إقليم كردستان أن تتنازل عنها هي ثلاثة رئيسية، حاضرة في ثنايا خطابات الجهات الرسمية.

فالمناقشات الدائرة في لجان تغيير الدستور العراقي، شهدت مطالبة من قِبل قوى سياسية بإلغاء المادة 140 من الدستور العراقي، والتي تحدد آلية حل ملف المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان العراق والسلطات المركزية، بما في ذلك محافظة كركوك. وهو أمر شهد توافقاً سياسياً عراقياً دون الكرد بشكل استثنائي، مثلما صرحت رئيسة كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني في البرلمان المركزي فيان صبري.

هذا التنازل الذي لا يمكن أن تقدمه القوى السياسية الكردية، لأنه يمس جوهر المشاعر الجمعية للمواطنين الأكراد، بالذات في علاقتهم مع ذويهم في تلك المناطق من محافظات كركوك ونينوى (الموصل) وديالى.

كذلك فإن إقليم كردستان العراق مطالب بأن لا يكون له رأي مختلف، ولو نسبياً، من القرار الاستراتيجي الذي يمكن للقوى المركزية أن تتخذه، خصوصاً في ملفي العلاقة الأميركية الإيرانية ودور وموقف العراق منها، بالذات إذا ما تطلب الأمر انسحاباً عسكرياً ودبلوماسياً أميركياً من مختلف مناطق العراق نحو إقليم كردستان العراق، كذلك في الموقف من دول الخليج العربي، وموقع العراق ضمن “محور الممانعة”.

 هذه الاستراتيجيات السياسية التصعيدية التي كانت القوى السياسية المركزية العراقية تتخذها طوال السنوات الماضية، كان إقليم كردستان العراق يحاول جاهداً أن ينأى بنفسه عنها قدر المستطاع، لأن قواه السياسية كانت تعتقد بأن الحجم الجيوسياسي للعراق، وتالياً لإقليم كردستان، لا يسمح لهم بأن يكونوا جزءا من أي تصعيد وصراع إقليمي، وهو ما لم تكن القوى السياسية المركزية العراقية ترضى بذلك.

أخيراً، فإن السلطات المركزية في بغداد تريد من إقليم كردستان ترك كل استقلالية مالية واقتصادية عن المركز؛ سواء من حيث النشاط الاقتصادي الداخلي؛حيث نوعية الاستثمارات والسيطرة على المنافذ الحدودية وتيسير النفقات العامة، أو فيما يتعلق بالأنشطة الخارجية من خلال استخراج النفط وتصديره والتعاقد مع المؤسسات الدولية والدول الإقليمية. وتريد القوى المركزية من الإقليم أن يكون جزءا من الماكينة الاقتصادية المركزية، وبمعنى ما تابعاً لها.

يرى القائمون على النشاط الاقتصادي الحكومي في إقليم كردستان العراق بأن ذلك مسٌ بحقوقهم الدستورية، الذي يمنحهم شبكة من الحقوق والاستقلالية الاقتصادية عن المركز، ذلك لأن الاقتصاد العراقي بكليته لم يعد مركزياً مثلما كان في زمن حكم حزب البعث البائد.

وتعتمد القوى المركزية العراقية على ثلاثة آليات سياسية واقتصادية، تتحكم بها، وتعتبر نفسها قادرة على إجبار إقليم كردستان للخضوع لها. فواردات الإقليم من الصادرات النفطية تراجعت بشكل ملحوظ بسبب الضغوط التي تمارسها الحكومة المركزية على الشركات النفطية العالمية، التي تملك مصالح وعلاقات استراتيجية مع السلطة المركزية في العراق.

كذلك فإن السلطات المركزية، بالذات القوى الحزبية والسياسية منها، تملك أغلبية عددية في البرلمان المركزي، وعن طريق تلك المركزية تستطيع فرض الكثير من التشريعات الاتحادية على إقليم كردستان، حيتما تعتبرها تشريعات وطنية عابرة وأعلى من تشريعات الإقليم، مثلما حدث مع قانون الإقراض الأخير الذي فرضته عن طريق البرلمان الاتحادي، وحملت الكثير من تبعاته على إقليم كردستان.

أخيراً فإن القوى المركزية تتحكم بالنفقات السيادية، التي تستنزف قرابة ثلث الميزانية العمومية، وتتصرف بها السلطات المركزية بطريقة أحادية دون أية شراكة مع سلطات إقليم كردستان، بالذات فيما يخص النفقات العسكرية والأمنية والرئاسات الثلاث، هذا الأمر الذي لا يمكن لسلطة الإقليم أن تعترض عليه، بالرغم من أنه يكون محسوباً من حصة الإقليم من الميزانية العامة.