غزة.. والمعتدي الذي فقد ذاكرته

غزة والمعتدي الذي فقد ذاكرته يفاخر الصهاينة الإسرائيليون ويدعون بأنهم تقدميون وعقلانيون وحداثيون عصريون وأصحاب رؤى مستقبلية ثاقبة لكن حالهم في إطار هذه المواصفات يغني عن سؤالهم فحقيقة الأمر أنهم من أكثر خلق الله عيشا في الماضي وإيغالا في الخرافة وتحليقا في الخيال وتعاميا عن الواقع قبل ربع قرن تمنى اسحق..

غزة.. والمعتدي الذي فقد ذاكرته

يفاخر الصهاينة الإسرائيليون ويدعون بأنهم تقدميون وعقلانيون وحداثيون عصريون، وأصحاب رؤى مستقبلية ثاقبة، لكن حالهم في إطار هذه المواصفات يغني عن سؤالهم.. فحقيقة الأمر أنهم من أكثر خلق الله عيشاً في الماضي، وإيغالاً في الخرافة، وتحليقاً في الخيال، وتعامياً عن الواقع. قبل ربع قرن، تمنى اسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك، أن يصحو ذات يوم فيجد غزة وقد غرقت في البحر.

لسنا هنا بصدد محاججة صاحب هذا الحلم بأثر رجعي ورميه بالسوداوية والدموية، ومحاسبته بتهمة مجافاته لحق الفلسطينيين الغزاويين في الحياة.. غير أن ما يجري من عدوان إجرامي على غزة اليوم، يسمح بالاعتقاد بأن بنيامين نتنياهو، أحد ورثته، يضطلع بمحاولة دفن غزة في رمال البر، طالما أن سلفه لم يتمكن من إغراقها في مياه البحر.
والحال أن غزة لم ولن تختفي، لا في البر ولا في البحر.. فهي بقيت بعد أن اغتيل أستاذ الارهاب رابين على يد أحد الشبان اليهود الذين تلقوا تربية كهنوتية عنصرية، وهي ستبقى تحت الشمس شوكة في خاصرة “إسرائيل”، فيما سيغور التلميذ الخائب نتنياهو ضحية حقده وعنجهيته وسوء تقديراته، وهو يدير راهنا معركته الأخيرة. في المشهد العام للصراع على أرض فلسطين وجوارها، يبدو الصهاينة الاسرائيليون أكثر الأطراف اعتماداً على التاريخ القديم واستدعاء للماضي، وتصفيفاً لأحداثه وفقاً لرؤى مغشوشة.

ندفع بذلك وفي الخاطر أن النواة الصلبة لمشروعهم الاستيطاني، تتعلق بوقائع وتنبني على حيثيات يزعمون وقوعها قبل آلاف السنين. ومن اللافت حقاً أن هؤلاء القوم أنفسهم، يعبرون في سلوكياتهم وتصرفاتهم عن غباء مطبق في معالجة بعض الأحداث التاريخية الأقرب إلى ذاكراتهم، والتي ربما عاشوها أو رأوها رأي العين. إنهم يكررون أخطاءهم وسقطاتهم وكأنهم يحيون بلا ذاكرة من الأصل، وما تعامل نتنياهو مع قطاع غزة عن هذا الفهم ببعيد.

في فبراير 1955 باغت الاسرائيليون قطاع غزة بهجوم دموي، أريد به إحراج نظام ثورة 1952 في مصر وابتزازه، حيث كان القطاع يخضع للإدارة المصرية.. فإذا بعدوانهم ينتهي إلى نتيجة معاكسة على طول الخط، إذ تخلت قاهرة عبد الناصر عن سياسة كظم الغيظ واللامواجهة مع “إسرائيل”، وأبرمت صفقة سلاح كبيرة مع المعسكر الاشتراكي، وأنشأت الكتيبة 141 فدائيون؛ التي كانت أول تعبير عن إعادة الاعتبار للعسكرية الفلسطينية لمرحلة ما بعد نكبة 1948.

ولم يمر على تلك الوقائع سوى عام واحد فقط، حتى أقدمت “إسرائيل” على احتلال غزة بالكامل، في سياق ما عرف بالعدوان الثلاثي على مصر. وبدلاً من أن تفضي تلك الحملة، وما صاحبها من مذابح أودت بحياة أكثر من ألفي شهيد فلسطيني، إلى القضاء على ما تبقى للفلسطينيين من هوية تاريخية وجغرافية وسياسية كان قطاع غزة يمثلها بانفراد، وذلك بالسعي إلى تدويله وتنحية الإدارة المصرية عنه.. أفاق القطاع ولملم جراحه سريعاً، وعاد في بضع سنين إلى صدارة المواجهة السياسية تحت عباءة منظمة التحرير الفلسطينية، والعسكرية بالاستجابة إلى نداء التجنيد في جيش المنظمة.

وتصح الإشارة هنا إلى أن معظم قادة فصائل المقاومة؛ التي تشكلت خارج أطر منظمة التحرير ثم انخرطت فيها لاحقاً، قد نشأوا في الرحاب الغزاوية وتشبعوا بروحها الكفاحية الفذة. وغداة احتلالها للمرة الثانية عام 1967، كانت غزة وقطاعها أول المنتفضين ضد هزيمة يونيو، المبادرين إلى النشاط المقاوم ل”إسرائيل”؛ بشقيه المسلح والمدني. وكان الخط البياني لذلك النشاط، الذي لم ينقطع خلال العشرين عاما التالية، هو الذي أوحى لرابين بحلمه السافل حول زوال غزة بالغرق، وذلك تعبيراً عن غيظه من تفاعلات الانتفاضة الأولى.

من مقارعتها وتحديها وإسقاطها لأحلام كل الزعامات الصهيونية، التي تبوأت رئاسة الوزارة في “إسرائيل”، اكتسبت غزة التي لا تزيد مساحتها عن 2% من جغرافية فلسطين التاريخية، شرفا نضالياً رفيعاً.
وإذا كان نتنياهو يعيش بعقل مسطح، يحول دون استخلاص عِبر سِير أسلافه من الرواد وتجاربهم المؤلمة مع غزة، من بن غوريون إلى موشي شاريت إلى ليفي أشكول إلى غولدا مائير إلى مناحيم بيغن إلى اسحق شامير إلى إسحق رابين، فكيف له أن يغفل هذه السير بالنسبة لمجايليه ومن هم أقرب إلى أيامه المنكودة، مثل إيهود باراك وإيهود أولمرت؟ بل كيف له ولبطانته، ولا سيما من العسكريين الأشرار، أن يتجاهلوا خروج غزة وهي أكثر قوة وصلابة وجهوزية للمقاومة، رغم معاناتها من جولتين عدوانيتين كبيرتين، شنهما عليها أسلافه خلال الأعوام الخمسة الأخيرة فقط؟!
 

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!