قال إن استدعاء السيرة في الشعر يقوم على فاعلية التخيل: مبارك وساط: أكتب لأنني مخترع بارومتر الآلام!

يُمثل الشاعر مبارك وساط، داخل الشعر المغربي وحداثته اليوم، وضعا اعتباريا خاصا بالنظر إلى منجزه الإبداعي المختلف، شعرا وترجمة؛ فمنذ باكورته «على درج المياه العميقة» 1990، مرورا بـ«فراشة من هيدروجين» 2007، و«رجل يبتسم للعصافير» 2011، وليس انتهاء بديوانه «عيونٌ طالما سافرَت» 2017، ما طفق هذا الشاعر يُطور كتابته ويدمغها بـ«مرح ديونيزيسي» على نحو ما يظهرها […]

قال إن استدعاء السيرة في الشعر يقوم على فاعلية التخيل: مبارك وساط: أكتب لأنني مخترع بارومتر الآلام!

[wpcc-script type=”bd2b4e0bae5c533b0ed1dec1-text/javascript”]

يُمثل الشاعر مبارك وساط، داخل الشعر المغربي وحداثته اليوم، وضعا اعتباريا خاصا بالنظر إلى منجزه الإبداعي المختلف، شعرا وترجمة؛ فمنذ باكورته «على درج المياه العميقة» 1990، مرورا بـ«فراشة من هيدروجين» 2007، و«رجل يبتسم للعصافير» 2011، وليس انتهاء بديوانه «عيونٌ طالما سافرَت» 2017، ما طفق هذا الشاعر يُطور كتابته ويدمغها بـ«مرح ديونيزيسي» على نحو ما يظهرها كتابة ذاتية ثملى تبتهج بالحياة التي تنتشلها من مخالب الموت والخوف والعزلة، بقدر ما تصدع بانشقاقها الجمالي والموضوعاتي الذي يأتي إلينا مثل نشيد متصاعد ولانهائي فنثمل مثل ثملها.

■ صار من الدارج أن جيل الثمانينيات الذي تمثل أحد شعرائه الأساسيين، حقق طفرة أساسية في سياق تحديث الشعر المغربي. في نظرك، ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له، والتي ما زالت تفعل فعلها المؤسس؟ وما هي مرجعيات الكتابة التي استلهم منها سبل إبداعه الجديد؟
□ مسألة الانتماء إلى جيل شِعري ما، هي من باب التصنيفات اللاحقة على الكتابة الشعرِية نفسِها، فالذي يُريدُ أن يكتب قصيدته الشخصية، لا يضع لنفسه قيودا أو قواعد مسبقة بهدف الاشتراك في حد أدنى معين مع غيره من أبناء بلده من الشعراء الذين يُشاركهم العيش والكتابة في الحقبة الزمنية نفسها. وفي ما يخصني شخصيا، فإنني لَم أدرس قَط الأدب دراسة «نظامية». ولذا فقراءاتي الشعرية لم تكن تخضع لنظام إلا لميولي الأدبية الشخصية، وترتب عن هذا أنني، في مرحلة ما، كنتُ أجِدُ ضالتي من المقروء عند شعراء مشارقة، وعند مغاربيين يكتبون بالفرنسية، وأكتشف في الوقت نفسِه شعراء مغاربة من أبناء جيلي ومن السابقين عليه واللاحقين، أشعر بقرابة تجمعني ببعضهم. وعلى العموم، فمن جميل منجزات عدد من شعراء الثمانينيات، فَتح أبواب القصيدة على عوالم الخيال، والتخلص من الغنائية ومن هيمنة الأيديولوجيا، وأنا أعني هنا ما تحقق في (أو ما أرهصت به) كتابات عدد معين من شعراء الثمانينيات.
■ أصدرتَ باكورتك الشعرية «على درج المياه العميقة» سنة 1990، غير أنها لم تضم كل نصوصك المنشورة وغير المنشورة، بما يشبه بطاقة تعريف مبتورة. كيف تستعيد تلك اللحظة وحماس الشاب الذي في الخامسة والثلاثين وصورته «البوهيمية»؟
□ صدرت مجموعتي الشعرية الأولى، «على دَرَج المياه العميقة»، سنة 1990 عن دار توبقال. ولم تضم تلك المجموعة كل ما كنتُ قد نشرتُ من نصوص قبل ظهورها، وذلك لسبب بسيط ومثير: فحين لزم أن أسارع بموافاة الناشر بنصوص المجموعة، كانت تلك النصوص متناثرة في مجلات وأوراق وقصاصات جرائد بشكل فوضوي، إذ لم أجمعها في إضبارة أو كراسة، كما أني، مثل أبناء جيلي، لم أكن أعرف بعد الحاسوب عن قُرب، بل إن ضرورة الإسراع في جمع النصوص فرضت عليّ نفسها في وقت كنتُ فيه بصدد الانتقال من بيت إلى بيت، وكانت كتبي وأوراقي «مدفونة» في كراتين عديدة، محكمة الحَزم بحبال لا بأس بمتانتها، وكنتُ قد أودعتها في تلك الكراتين كيفما اتفق… المهم أنني في لحظة مُعينة، اكتفيتُ بما كان قد تحصل لديّ من قصائد، وقد طُبِعت المجموعة في وقت قصير جدا لاقتراب موعد انعقاد معرض الدار البيضاء للكتاب، فلم تُعرض عليّ، حينَ شُرع في طبعها، في صيغة أولية تجريبية لأراجعها، ولم يكن أمر مثل هذا بالسهولة التي أصبح عليها الآن، في زمن الحاسوب والإنترنت، ولكنني سأقوم بعملية المراجعة هذه فيما يخص الطبعة الثانية لـ«على دَرَج المياه العميقة»، التي صدرت عن «منشورات عكاظ» سنة 2001، كما أني حذفتُ منها، في هذه الطبعة» قصيدة بدا لي حذفها غيرَ باعث على الأسف (بالنسبة إليّ على أي حال). في هذه الطبعة الثانية ظهرت «على دَرَج المياه العميقة» في كتاب شِعرِي واحد مع مجموعتين أخريين: «محفوفا بأرخبيلات»، و«راية الهواء».

مسألة الانتماء إلى جيل شِعري ما، هي من باب التصنيفات اللاحقة على الكتابة الشعرِية نفسِها، فالذي يُريدُ أن يكتب قصيدته الشخصية، لا يضع لنفسه قيودا أو قواعد مسبقة.

وقد سألتني عن الكيفية التي أستعيد بها لحظة ظهور مجموعتي الأولى تلك، ولو أردتُ أن أجيب على هذا السؤال بشكل تفصيلي، لوجَب عليّ أن أقوم بتحبير صفحات وصفحات، ولذا فإني سأُمارس هذه الاستعادة بطريقة أبسط، عبر قراءة نص شعري منها، عنوانه «خيمة الغبار»، يُسعدني أن يُعيدني للحظات إلى زمن كتابته وأن يُشاركني القارئ قراءته: «من جديد، بدأت القوارب الكاسرة تخيط بمسلاتها أفواه الأنهار، بينما الخريف ينسج علامات استفهام على وجوه العابرين! نبوءات وخيمة أستشفها في عيني يمامة تحتضر، وأخبارٌ غامضة تبثها إذاعة الزبد عن مصيري الأكثر غموضا. أحيانا، أقيم مع سدنة العشب في ظل أساطير سامقة، بينما تتوغل أنفاسي في فجوة الجبل العميقة، أو أمضي إلى كهف بعيد، أرى فيه العلماء المقعدين يفكون ألغاز سير الحقول. كنت أيضا، أجالس صديقي الذي يشتغل في منجم الدموع السوداء، لنستغرب قليلا من طفولة النيازك وبكاء الحجر اليتيم. لكن القناصين الدهاة كمنوا له ذات مساء في خيمة الغبار. ومُذاك، صرت أتطلع إلى كل هيكل عظمي يدندن في حانة. وكل ميت يحمحم تحت نافذتي إلى أن نَسيتُ ملامحه كلية. بقيت دماء السناجب تزورني. وساعي بريد المرارة، الذي كان يحمل لي رسائل على هيئة سلاسل، وبطاقات بريد تسعل فيها الغربان.. وطلع فلاحو الأمواج الخصبة من أكواخهم في عمق المحيط، ليقوموا بمسيرة احتجاج من ساحة الألم العظيم حتى مقر إقامة العظم المتلألئ. جاء الرعاة العميان أيضا. وحروف الجر المعذبة. جاء حراس قوس قزح، وغلايينُ كأنها شيوخ بني حام… ومضت الحشود على ضفة النار، ضاربة في أرض الوحشة الزرقاء.. في ذلك الوقت، كانت الأزقة الخلفية تتلوى على أعناق الذئاب، والمطر مُشعثا، يتقافز على إيقاع قرع الطبول».
■ من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور، انتصرت لقصيدة النثر، وكنت من المتحمسين للكتابة بها، هل ما زالت قصيدة النثر لسان حال الغائبين في التاريخ؟ إلى أي مدى باتت القصيدة تحتفظ بذلك الوهج الذي كان لها في البدايات الطليعية؟
□ إن تسمية «قصيدة النثر» تُستَعمَلُ في العربية بشكل فضفاض، ضِدا على مقابِلتها الفرنسية (التي استُقِيَت منها التسمية العربية): ففي الفرنسية، تعني «قصيدة النثر» تلك القصيدة التي لا تنقسم إلى أبيات أو أشطر متوالية لا تملأ في الغالب الأعم السطرَ بأكمله، بل تكون كتلة واحدة، تتتابع أسطرها كما المقطوعة النثرية، وهي تتميز عن هذه الأخيرة بخصائص داخلية لا ظاهرية. أما القصيدة مُتوالية الأبيات أو الأشطر، التي لا تخضع في إيقاعها للأوزان المحددة سَلفا، فالأولى أن نُسَميَها بـ«القصيدة الحرة». على أي حال، فما ننعته بقصيدة النثر ما يزال يحتفظ بوهجه، لكن لدى من يكتبون هذه القصيدة بروح إبداعية خلاقة، أما النماذج السيئة من «قصيدة النثر» فما أكثرها! ولكن النماذج الممتازة والجيدة موجودة أيضا.
■ انتبهت مبكرا إلى قيمة البعد الجمالي بدل الأيديولوجي الذي كان يسلب الشاعر صوته الفردي، في بناء ممارستك الشعرية. وضمن هذا البعد احتفاؤك بالسيرذاتي. كيف تنظر إلى مسألة السيرة الذاتية في سياق الشعر؟ ماذا يبقى منها، وما الذي ينضاف إليها؟
□ لقد طُرِح عليّ السؤال المتعلق بمسألة السيرة الذاتية في نطاق الشعر، بصدد مجموعتي «رجل يبتسم للعصافير» خاصة، وكان هنالك من وصفها بكونها «تأريخا شِعريا للذات»، ويمكنني أن أتفق مع هذا الرأي بشرط اعتماد مفهوم للذات لا يُختَزل في ذاك الذي وُجِد عند الرومانسيين، فقد نظر هؤلاء الأخيرون إلى كُل ذات باعتبارها منعزلة في جزيرتها الخاصة. وفي الواقع، فإن الذات لا تنفصل عن الآخرين، وهنا أُوَسعُ من دلالات قول رامبو: «الأنا شخص آخر». ومجموعتي المذكورة تنقسم إلى قسمين: في الأول منهما تأريخ مُشَعرَن للذات التعددية، أو للذات- مع- آخرين، منذ لحظة الهجرة نحو عالَم المدينة، وخلال العديد من اللحظات المهمة من مسارها… وفي القسم الثاني من المجموعة، هنالك صَوغٌ شِعري لضَربٍ من «التربية العاطفية»، أي لعلاقات عاطفية، لا يهم إن كانت قد تحققَت أو بقيت في نطاق توقٍ عِيشَ في مرحلة ما. وفي تلك الصياغة، تم تكثيفُ تلك العلاقات في واحدة، أُخضِعَت في التعبير الشعري لـ«خيمياء الكَلِم»، وتم استجلاؤها عبر مناظير الخيال ومراياه، وفي كل هذا، حضر عنصر السرد بقوة، وهذا مفهوم مادام الأمر يتعلق بـ«تأريخ» كما أسلفت.
■ أنت بالإضافة إلى اختيارك التعبيري المتمثل في الشعر مترجم، وقد أسهمت في إغناء المكتبة العربية بترجمات أنيقة ومحكمة للشاعر والروائي المغربي الراحل محمد خير الدين والأديب الجزائري محمد ديب، علاوة على تحققات نصية أخرى لأندري بروتون وروني شار وروبير ساباتيي وهنري ميشو وروبير ديسنوس. ولأن الترجمة فعل استضافة كما يقول رواد التراث الهرمينوطيقي التأويلي، فإنني أسمح لنفسي بأن أتساءل معك عن المعايير التي وجهت اختياراتك، وهل ثمة من نقاط اتصال وانفصال مع تجربتك الإبداعية الخاصة؟ نلاحظ في هذا الصدد أن جزءا كبيرا من هذه التحققات المترجمة تنتمي إلى التقليد السيريالي بطريقة أو بأخرى؟

من العادي أن يكتب شاعر رواية. ولا يمكن القول بأن الرواية «حمار الشعراء» لأن كتابتها ليست بالأمر السهل. ولأن الرواية ليست من صنف الشعر، يمكنهما أن يكونا مكملين لبعضهما لدى من اختاروا المزاوجة بينهما.

□ فيما يخص اختياراتي في مجال الترجمة، أعتقد أن ما يتحكم فيها، في الغالب الأعم، هو مدى إعجابي بنص ما أو بكتاب… في هذا السياق، يحدثُ أن أرغب في أن أترجم كتابا أو بعضا من نصوص شاعر أو كاتب ما، ويبقى الانتقال إلى الإنجاز، وقتها، رهينا ببعض العوامل الموضوعية. في أحيان أخرى، قد تقرأ لشاعر لا يجمع بينك وبينه الكثير، على مستوى الرؤى الجمالية وسواها، لكنك تدرك أنه مبدع فعلي، حسب النظرة التي لديه هو عن الإبداع، فإذا شعرتَ بأنه يكون إيجابيا أن يطلع قُراء العربِية على بعضِ من نصوصه، فإنك قد تبادر إلى ترجمتها، إذا أسعفتك ظروفك، وفي مرات قليلة، يحدثُ أن تقترح عليك جهة ما (ناشر، مثلا) ترجمة كتاب قد لا يكون من الكتب التي تُحبها بشغف، ولكن إن كانَ هذا الكتاب المُقتَرح يدخل في نطاق ما هو جيد، فقد تقبل أن تترجمه، تاركا إلى حين ما تشعر أنه أقرب إلى نفسك، مؤسيا نفسك بالقول المأثور: «أردتُ عمرو وأراد الله خارجة».
■ ماذا تعنيه لك ترجمة الشعر التي ما زلت وفيا لها، فلم تنسق وراء الترجمات «الربحية» التي تحققها بعض الكتب المترجمة؟
□ أنا أحب الشعر، وما دمتُ أشعر أن لدي توقا للترجمة لشعراء أحب كتاباتهم، فإذا توافر لي الوقت اللازم لذلك، فمفهوم جدا أن أنتقل إلى الإنجاز.
■ نشرت منذ مدة نصوصا من روايتك المرتقبة. هل هو يأس من كتابة الشعر وفاتورته المكلفة رمزيا؟ وماذا تقول في دعوى أن الرواية باتت (حمار الشعراء)؟
□ أعتقد أنه من العادي أن يكتب شاعر رواية. ولا يمكن القول بأن الرواية «حمار الشعراء» لأن كتابتها ليست بالأمر السهل. ولأن الرواية ليست من صنف الشعر، يمكنهما أن يكونا مكملين لبعضهما لدى من اختاروا المزاوجة بينهما. والمزاوجة بين الكتابة الروائية والشعرية ليست بالأمر الجديد، ففي الأدب المكتوب بالفرنسية، على سبيل المثال، نجدها لدى الكثيرين: أذكر، مثلا، فكتور هوغو، من القدامى، وبليز ساندرار، ثم ريمون كونو، ومحمد ديب، وكاتب ياسين ومحمد خير الدين وغيرهم من اللاحقين، بل إن هوغو كتب الرواية والمسرحية والقصيدة، وكذلك فعل كاتب ياسين ومحمد ديب. وفي العربية، هنالك عدد من الشعراء كتبوا ويكتبون الرواية. وإذا زعموا أن الرواية أضحَت «حمار الشعراء»، فما من مشكل بالنسبة لي، ذلك أنني، في الطفولة، كنتُ، فور وصولي إلى قرية الأجداد رفقة العائلة في الصيف، أسارع إلى البحث عن حمار أركبه، فلِمَ لا أحاول الآن أن أركب الآن هذا الحمار الرمزي المُتأبي الذي هو الرواية، عِلما بأن الأمر فيه مغامرة ومجازفة. أما الشعر، فلا غنى عنه بدوره.
■ ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة، وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟
□ ليست لي طقوس خاصة أثناء الكتابة، في ما خلا استهلاك كميات من الشاي والقهوة. وفي الغالب، فإني أُنقح ما أكتبه.
■ بإيجاز، لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟
□ أكتب لأنني أحب أن أفعل ذلك من آن لآن. وعلى سبيل الدعابة الجدَية، أقول لك إني أكتب لأنني، مثلا، «مخترع بارومتر الآلام» – وقد قلت هذا في قصيدة لي- فأنا أحب أن أُقيد على الورق ما سجله بارومتر الآلام ذاك، ولأني أربي نبتات واقعية وأحب أن أسقيها بمياه الخيال، ثم أُشكل من مسار حيواتها قصائد موجهة لمحبي الشعر.
■ أنت معني ولا شك بسؤال الشعر المغربي، كيف تنظر إلى حاله اليوم، وإلى مستقبله بالنظر إلى الإكراهات الثقافية المتراصة؟
□ في شعرنا المغربي اليوم كثير من الجيد، وكثير من الغث، وهو مشابه في هذا لشعر شعوب أخرى. أشعر بأن قافلة الشعر الجميل ستستمر في سبيلها مستقبلا.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *