ترجمة: علاء الدين أبو زينة

كارمن رينهارت؛ وفينسنت رينهارت* – (فورين أفيرز) عدد أيلول (سبتمبر)/ تشرين الأول (أكتوبر) 2020
تشكل جائحة “كوفيد-19” تهديدًا من النوع الذي يتكرر مرة كل جيل لسكان العالم. وعلى الرغم من أن هذا ليس أول تفشٍ لمرض ينتشر في جميع أنحاء العالم، إلا أنه أول انتشار انخرطت الحكومات في مكافحته بشدة. وحاولت جهود التخفيف -بما في ذلك عمليات الإغلاق وحظر السفر- إبطاء معدل العدوى من أجل الحفاظ على الموارد الطبية المتاحة. ولتمويل هذه الإجراءات وغيرها من تدابير الصحة العامة، استخدمت الحكومات في جميع أنحاء العالم قوة نيران اقتصادية على نطاق نادرًا ما شهده العالَم من قبل.
على الرغم من وصفه بـ”الأزمة المالية العالمية”، فإن الانكماش الاقتصادي الذي بدأ في العام 2008 كان إلى حد كبير أزمة مصرفية في 11 اقتصادًا متقدمًا. وأثبتت الأسواق الناشئة، مدعومة بنمو مزدوج الرقم في الصين، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، والميزانيات العمومية الهزيلة، أنها قادرة تماماً على الصمود في وجه الاضطرابات التي أحدثتها الأزمة العالمية الأخيرة. لكن التباطؤ الاقتصادي الحالي مختلف. فقد وضعت الطبيعة المشتركة لهذه الصدمة –حيث فيروس كورونا المستجد لا يحترم الحدود الوطنية- نسبة أكبر من المجتمع العالمي في حالة ركود أكثر من أي وقت آخر منذ “الكساد العظيم”. ونتيجة لذلك، لن يكون الانتعاش قوياً أو سريعاً مثل الانكماش. في النهاية، ستعمل السياسات المالية والنقدية المستخدمة لمكافحة الانكماش على تخفيف الخسائر الاقتصادية بدلاً من إنهائها، ما يترك فترة زمنية طويلة قبل أن يعود الاقتصاد العالمي إلى ما كان عليه في بداية العام 2020.
أدى الوباء إلى انكماش اقتصادي هائل ستعقبه أزمة مالية في أجزاء كثيرة من العالم؛ حيث تتراكم قروض الشركات المتعثرة إلى جانب حالات الإفلاس. كما أن التخلف عن سداد الديون السيادية في العالم النامي مهيأ للارتفاع. وسوف تسلك هذه الأزمة مسارًا مشابهًا للمسار الذي سلكته الأزمة الأخيرة، سوى أنها ستعرض ما هو أسوأ، حيث تتناسب مع حجم ونطاق الانهيار في النشاط الاقتصادي العالمي. وستضرب الأزمة الأسر والبلدان ذات الدخل المنخفض بشكل أقوى من نظيراتها الأكثر ثراءً. وفي واقع الأمر، يقدر البنك الدولي أن ما يصل إلى 60 مليون شخص على مستوى العالم سوف يُدفعون إلى الفقر المدقع نتيجة لهذا الوباء. ونتيجة لذلك، يمكن توقع أن يسير الاقتصاد العالمي بشكل مختلف، حيث تنزلق الميزانيات العمومية في العديد من البلدان هابطة بشكل أعمق إلى المنطقة الحمراء وتتوقف مسيرة العولمة التي كانت ماضية ذات مرة بلا هوادة.
كل المحركات توقفت
في أحدث تحليل له، توقع البنك الدولي أن ينكمش الاقتصاد العالمي بنسبة 5.2 في المائة في العام 2020. ونشر مكتب إحصاءات العمل الأميركي مؤخرًا أسوأ أرقام شهرية للبطالة تحتفظ الوكالة بها في سجلاتها في 72 عامًا. وتتوقع معظم التحليلات أن معدل البطالة في الولايات المتحدة سيظل بالقرب من علامة الرقم المزدوج حتى منتصف العام المقبل. وحذر بنك إنجلترا من أن المملكة المتحدة ستواجه هذا العام أكبر انخفاض في الإنتاج منذ العام 1706. ويبدو هذا الوضع مروعاً للغاية، حتى أنه يستحق أن يطلق عليه وصف “كساد” -كساد وبائي. ولسوء الحظ، منعت ذكرى “الكساد العظيم” الاقتصاديين وغيرهم من استخدام هذه الكلمة؛ حيث كان الانكماش في الثلاثينيات مؤلمًا في كل من عمقه وطول مدته بطريقة من غير المرجح أن تتكرر. لكن القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانا مليئين بنوبات الكساد. ويبدو من عدم الاحترام للكثيرين الذين فقدوا وظائفهم أو الذين يغلقون أعمالهم أن يتم استخدام مصطلح أقل لوصف هذا البلاء.
يعد علماء الأوبئة أن فيروس كورونا الذي يسبب مرض “كوفيد-19” هو شأن جديد تماماً؛ وقد ترتب على ذلك أن يكون انتشاره قد أثار ردود فعل جديدة من الجهات الفاعلة العامة والخاصة على حد سواء. ويتضمن نهج الإجماع لإبطاء انتشار الفيروس إبقاء العمال بعيدًا عن مصادر رزقهم والمتسوقين بعيدًا عن الأسواق. وبافتراض عدم وجود موجات ثانية أو ثالثة من النوع الذي تميزت به جائحة الانفلونزا الإسبانية في 1918-1919، فإن هذا الوباء سيتبع منحنى للعدوى والوفيات على شكل حرف V مقلوب، يرتفع ثم ينخفض. ولكن، حتى لو حدث هذا السيناريو، فمن المرجح أن يظل “كوفيد-19” باقياً في بعض الأماكن حول العالم.
حتى الآن، لم يكن حدوث انتشار المرض متزامنًا. وقد انخفض عدد الحالات الجديدة أولاً في الصين وأجزاء أخرى من آسيا، ثم في أوروبا، ثم بشكل تدريجي في أجزاء من الولايات المتحدة (قبل أن يبدأ في الارتفاع ثانية في مناطق أخرى). وفي الوقت نفسه، ظهرت البقع الساخنة لـ”كوفيد-19″ في أماكن خاصة مثل البرازيل والهند وروسيا. وفي هذه الأزمة، تأتي الاضطرابات الاقتصادية في أعقاب المرض عن كثب. وقد ترك هذا الهجوم ذو الشعبتين ندبة عميقة على النشاط الاقتصادي العالمي.
الآن، تتم إعادة فتح بعض الاقتصادات المهمة، وهي حقيقة تنعكس في تحسن ظروف الأعمال في جميع أنحاء آسيا وأوروبا وفي حدوث تحول في سوق العمل في الولايات المتحدة. ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين هذا الارتداد وبين التعافي. في جميع الأزمات المالية الأكثر سوءا منذ منتصف القرن التاسع عشر، استغرق الأمر ثماني سنوات في المتوسط حتى يعود نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى ما قبل الأزمة. (كان المتوسط سبعة أعوام). ومع وجود مستويات تاريخية للتحفيز المالي والنقدي، يمكن للمرء أن يتوقع أن الولايات المتحدة سوف تبلي حسناً بشكل أفضل. لكن معظم الدول لا تملك القدرة على تعويض الضرر الاقتصادي الذي سببه فيروس “كوفيد-19”. وسوف يشكل الارتداد الجاري بداية رحلة طويلة للخروج من حفرة عميقة.
على الرغم من أن أي نوع من التنبؤات في هذه البيئة سيكون مصحوباً بعدم اليقين، إلا أن هناك ثلاثة مؤشرات تشير معًا إلى أن طريق التعافي سيكون طويلًا. الأول هو الصادرات. بسبب إغلاقات الحدود والإغلاقات المحلية، تقلص الطلب العالمي على السلع، وهو ما أصاب الاقتصادات المعتمدة على التصدير بشدة. وحتى قبل الوباء، كان العديد من المصدرين يواجهون ضغوطًا. وقد انخفض نمو التجارة العالمية بين العامين 2008 و2018 بمقدار النصف مقارنة بالعقد السابق. وفي الآونة الأخيرة، تضررت الصادرات من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في منتصف العام 2018. وبالنسبة للاقتصادات التي تشكل فيها السياحة مصدرًا مهمًا للنمو، كان الانهيار في السفر الدولي كارثيًا. وتوقع صندوق النقد الدولي أن عوائد السياحة في منطقة البحر الكاريبي، حيث تمثل السياحة ما بين 50 و90 في المائة من الدخل والعمالة في بعض البلدان، “ستعود إلى مستويات ما قبل الأزمة بشكل تدريجي فقط خلال الأعوام الثلاثة المقبلة”.
وليس الأمر أن حجم التجارة فقط هو الذي ينخفض؛ لقد انخفضت أسعار العديد من الصادرات أيضاً. ولم تكن دراما هبوط أسعار السلع مرئية في أي مكان أكثر من سوق النفط. فقد تسبب التباطؤ في انخفاض كبير في الطلب على الطاقة، وقسَم التحالف الهش المعروف باسم “أوبك+”، المكون من أعضاء منظمة “أوبك” وروسيا ومنتجين آخرين متحالفين، والذي كان يوجّه أسعار النفط نحو نطاق 45 إلى 70 دولارًا للبرميل خلال معظم السنوات الثلاث الماضية. وكان تحالف “أوبك+” قادراً على التعاون عندما كان الطلب قويًا وكانت تخفيضات رمزية للإمدادات ضرورية فقط. لكن هذا النوع من تخفيض الإمدادات الذي تطلبه هذا الوباء كان من شأنه أن يتسبب في أن يتحمل اللاعبان الرئيسيان في الكارتيل، روسيا والمملكة العربية السعودية، ألمًا حقيقيًا لم يكونا مستعدين لتحمله. ويشكل فائض الإنتاج الناتج عن ذلك والسقوط الحر لأسعار النفط اختباراً لنماذج أعمال جميع المنتجين، خاصة أولئك في الأسواق الناشئة، بمن فيهم المنتج الموجود في الولايات المتحدة -قطاع النفط والغاز الصخري. وقد أدت الضغوط المالية المصاحبة إلى مراكمة الأعباء على كيانات ضعيفة مسبقاً في الولايات المتحدة وأماكن أخرى. وعلى سبيل المثال، دخلت الإكوادور، التي تعتمد على النفط، في حالة التخلف عن السداد في نيسان (أبريل) 2020، ويتعرض منتجو النفط النامون الآخرون لخطر كبير من أن يحذوا حذوها.
في فصول أخرى بارزة من الضائقة، كانت الضربات التي تعرض لها الاقتصاد العالمي جزئية فقط. خلال أزمة ديون أميركا اللاتينية التي استمرت عشرة أعوام في أوائل الثمانينيات والأزمة المالية الآسيوية في العام 1997، استمرت الاقتصادات الأكثر تقدمًا في النمو. وكانت الأسواق الناشئة، ولا سيما الصين، مصدرًا رئيسيًا للنمو خلال الأزمة المالية العالمية للعام 2008. ولكن، ليس هذه المرة. كانت آخر مرة تعطلت فيها جميع المحركات هي فترة “الكساد العظيم”؛ وسوف يكون الانهيار هذه المرة قوياً وحادًا بنفس المقدار. وتقدر منظمة التجارة العالمية أن التجارة العالمية مهيأة للانخفاض بنسبة تتراوح بين 13 و32 في المائة في العام 2020. وإذا كانت النتيجة في مكان ما في منتصف هذا النطاق الواسع، فسيكون هذا أسوأ عام تشهده العولمة منذ أوائل الثلاثينيات.
المؤشر الثاني الذي يشير إلى تعافٍ طويل وبطيء هو البطالة. تعمل جهود التخفيف من الوباء على تفكيك قطع الآلة الأكثر تعقيدًا في التاريخ: اقتصاد السوق الحديث. ولن تتم إعادة تجميع الأجزاء معًا بسرعة أو بسلاسة. لن تتم إعادة فتح بعض الأعمال التجارية المغلقة. وسيكون أصحابها قد استنفدوا مدخراتهم وقد يختارون موقفًا أكثر حذرًا فيما يتعلق بالمشاريع التجارية المستقبلية. ولن تكون غربلة طبقة رواد الأعمال مفيدة للابتكار.
بالإضافة إلى ذلك، سوف يخرج بعض العمال الذين مُنحوا إجازات قسرية أو المسرحين من العمل من القوى العاملة بشكل دائم. وسوف يفقد آخرون مهاراتهم ويفوتون فرص التطوير المهني خلال فترة البطالة الطويلة، ما يجعلهم أقل جاذبية لأصحاب العمل المحتملين. وسيكون الأكثر ضعفاً هم أولئك الذين قد لا يحصلون على وظيفة في المقام الأول -الخريجون الذين يدخلون اقتصاداً ضعيفاً. وبعد كل شيء، يمكن تفسير أداء الأجور النسبي لمن هم في الأربعينيات والخمسينيات من العمر من خلال وضعهم الوظيفي خلال فترة المراهقة وعندما كانوا في العشرينات من العمر. سوف يظل أولئك الذين يتعثرون عند بوابة البداية من مسار سباق التوظيف في الخلف بشكل دائم. وفي الوقت نفسه، يتلقى الذين ما يزالون على مقاعد الدراسة تعليمًا دون المستوى في فصولهم الدراسية المتباعدة اجتماعيًا وعبر الإنترنت؛ وفي البلدان التي تفتقر إلى الاتصال بالإنترنت أو يكون فيها الإنترنت بطيئًا، يغادر الطلاب الأفقر النظام التعليمي بأعداد كبيرة. وسوف تكون هذه مجموعة أخرى من المتروكين في الخلف.
لا شك أن السياسات الوطنية مهمة بطبيعة الحال. فالاقتصادات الأوروبية تدعم إلى حد كبير رواتب الموظفين غير القادرين على العمل أو الذين يعملون لساعات مخفضة، وتقوم بالتالي بمنع البطالة، في حين أن الولايات المتحدة لا تفعل ذلك. وفي الاقتصادات الناشئة، يعمل الناس في الغالب من دون الكثير من شبكات الأمان. ولكن، بغض النظر عن ثروتها النسبية، فإن الحكومات تنفق الآن أكثر وتأخذ أقل. وهناك العديد من الحكومات المحلية والإقليمية الملزمة، بموجب القانون، بالحفاظ على ميزانية متوازنة، ما يعني أن الديون المتراكمة الآن ستؤدي إلى التقشف لاحقًا. وفي غضون ذلك، تتكبد الحكومات المركزية خسائر، حتى بينما تتقلص قواعدها الضريبية. وتواجه تلك البلدان التي تعتمد على الصادرات السلعية، والسياحة، وتحويلات المواطنين العاملين في الخارج، أقوى الرياح الاقتصادية المعاكسة على الإطلاق.
ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذا الكساد وصل في وقت كانت فيه الأساسيات الاقتصادية في العديد من البلدان -بما فيها الكثير من أفقر دول العالم- تضعف مسبقاً. وفي ما جاء في جزء منه نتيجة لعدم الاستقرار السابق هذا، خفضت وكالات التصنيف التصنيف الائتماني لمقترضين سياديين هذا العام أكثر من أي عام آخر منذ 1980. ويسير تخفيض تصنيف الشركات في مسار مماثل، الأمر الذي لا يبشر بالخير للحكومات، لأن أخطاء القطاع الخاص غالبًا ما تصبح التزامات على القطاع العام. ونتيجة لذلك، حتى تلك الدول التي تدير مواردها بحكمة ربما تجد نفسها وقد أصبحت تحت الماء.
السمة الثالثة البارزة لهذه الأزمة هي أنها انكفائية للغاية داخل البلدان وعبر البلدان. وتقع أعباء الاضطرابات الاقتصادية الجارية أكثر بكثير على كاهل ذوي الدخل المنخفض. ولا يملك هؤلاء الأشخاص بشكل عام القدرة على العمل عن بُعد أو الموارد اللازمة لمساعدة أنفسهم عندما لا يعملون. وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يعمل ما يقرب من نصف جميع العمال لدى مؤسسات صغيرة -إلى حد كبير في صناعة الخدمات، حيث الأجور منخفضة أساساً. وقد تكون هذه الأعمال التجارية الصغيرة هي الأكثر عرضة للإفلاس، خاصة وأن آثار الوباء على سلوك المستهلك قد تستمر لفترة أطول بكثير من عمليات الإغلاق الإلزامية.
في البلدان النامية، حيث شبكات الأمان غير متطورة أو غير موجودة من الأساس، سيحدث التراجع في مستويات المعيشة في الغالب في أفقر شرائح المجتمع. ويمكن أيضًا أن تتضخم الطبيعة التراجعية للوباء بسبب الارتفاع العالمي في أسعار الغذاء، حيث يعطل المرض وعمليات الإغلاق سلاسل التوريد وأنماط هجرة العمالة الزراعية. وقد حذرت الأمم المتحدة مؤخرًا من أن العالم يواجه أسوأ أزمة غذائية منذ 50 عامًا. وفي البلدان الأكثر فقراً، يمثل الغذاء ما بين 40 و60 في المائة من النفقات المرتبطة بالاستهلاك؛ كنسبة من دخولهم، ينفق الناس في البلدان منخفضة الدخل خمسة إلى ستة أضعاف ما ينفقه نظراؤهم في الاقتصادات المتقدمة. (يُتبع)

*Carmen Reinhart: أستاذة مينوس أ. زومباناكيس في النظام المالي الدولي بكلية كينيدي في هارفارد. وبعد كتاب هذا المقال، تم تعيينها رئيسة للخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي.
*Vincent Reinhart: كبير الاقتصاديين والاستراتيجيات الكلية في ميلون.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Pandemic Depression: The Global Economy Will Never Be the Same