في بداية تحصيل المعرفة (أي معرفة، حتى ولو كانت كيمياء) يكون الحفظ (أو ما يسمى البصم) مساويا للفهم . في الحقيقة ، كل كمية من المعرفة تبدأ بالتقاط الذاكرة أو الحافظة للمعلومات و إن الفائز في هذا السباق هو من يتذكر أكثر (إذا طرح المحاضر سؤالا عن ما شرحه( .
في مفردات العصر الحالي ، توجد قاعدة بيانات( database) يجب إدخالها إلى الذاكرة قبل أن تتكون القدرة لاستغلالها . على سبيل المثال ، قبل أن تمتلك القدرة على إتقان ضرب الأعداد الكبيرة يجب عليك أن تحفظ (أو تبصم) جداول الضرب للأرقام الصغيرة .
عند عرض مواضيع كيميائية (مثل التفاعلات ، الألوان ، تكوين مواد راسبة…الخ) قد تبدو الأمور غير مثيرة أو غير جذابة لدى بعض من يقوم بتدريسها ، ولكن الواقع أن هذه المواضيع هي حجر الزاوية أو منطلق كل شيء. لماذا يكون تدريس الكيمياء الوصفية (descriptive chemistry) أقل متعة من تدريس غيرها من الأفكار و المفاهيم الكيميائية ؟
حين تستقر قاعدة البيانات في ثنايا الدماغ ، من الممكن بعد ذلك أن يكافح الطالب من أجل فك الألغاز و تفسير و فهم و توقع الأشياء . أنا شخصيا لم أرى في أوروبا كيميائيا متميزا إلا و هو يمتلك ذاكرة عجيبة تحتوي على كم هائل من المعلومات [ و قد كنت أطلق على بعض أساتذتي وصف الموسوعة المتحركة ، و كان هؤلاء يغرفون من بحر أثناء إلقائهم المحاضرات و يتحدثون بدون النظر إلى أوراق التحضير. و عندما كنت أرجع إلى الكتب أجد أنهم لم يحيدوا عن الصواب[
في مجتمعنا ، لا يعتبرونك شخصا منطقيا حين تتوقع أو تطلب من طلبة مبتدئين أن يمتلكوا مهارات الحفظ الجيد و مما كان يعتبر إساءات عندما كنت تلميذا في المدرسة أن يقال عن فلان ( بصيم ) علما بأن الأصل أن ينال الإعجاب .
كثير من الطلبة يكرهون طلب الأستاذ منهم أن يحفظوا معلومات كيميائية لان لديهم الميل للدعة و الراحة ، لكن العملية التعليمية السهلة لا تؤهلهم مطلقا لمواجهة أعباء الحياة التي تجمع ما بين السهل و الشاق و متوسط الصعوبة .
إن التقليل من أهمية الحفظ الجيد هو جزء من السخافة السائدة التي أدت إلى تراجع مستوى التعليم المدرسي و الجامعي في الوطن العربي . يجب دحض الادعاء بأن الارتكاز على الفهم فقط هو الأجدى و أن لا مكان للاستناد إلى الحفظ .
لا يمكن تصور وجود تفكير أو حكم على الأشياء بدون معلومات سابقة محفوظة و مختزنة في الدماغ حتى تفسر هذه الأشياء التي تقع تحت دائرة الإحساس .
كثيرا ما نسمع أن التعليم في الماضي كان أفضل و أقوى مما عليه الآن ، فهل هذا صحيح ؟ كان جدي- رحمه الله- إماما و مدير مدرسة (صفوفها من الأول حتى الرابع الأساسي( .
خلال 4 سنوات ، كان على التلميذ أن يحفظ عدة أجزاء من القراّن الكريم ، عشرات الأحاديث النبوية الشريفة ، عشرات القصائد [ من أبرزها ألفية ابن مالك و هي ألف بيت شعر متتالية ] ، و غير ذلك من معلومات علمية و حسابية . يقال (العلم في الصغر كالنقش في الحجر) و هذا مطابق للحقيقة لأنني كنت أرى والدي – رحمه الله- يردد ما حفظه من تلك المدرسة بعد سنوات طويلة . في جامعة بغداد كانوا يطلبون في سنوات الستينات من طالب الكيمياء أن يحفظ الجدول الدوري للعناصر عن ظهر قلب ، وهذا عين الصواب لان المردود كان نوعية متميزة مثل أستاذي في المرحلة الثانوية خريج تلك الجامعة .
حاليا ، لا المدارس و لا الكليات و لا الجامعات في الأغلب تثقل على الطلبة في دائرة الحفظ ، و هذه النعومة في التعاطي أدت إلى إنتاج طلبة لم يتم إعدادهم للعالم الحقيقي و إنما لعالم افتراضي وهمي .
لا بقع اللوم على جميع أساتذة الكليات و الجامعات بشكل كامل ، فلقد أتاهم طلبة (خام) من أماكن لا تميز بين تدريب المعلمين و تدريب سائقي السيارات و لا بين تعليمات التجربة العلمية و تعليمات طهي الطعام ، و تتلمذوا على أيدي عجزة أو ربما عاهات تخرجت من جامعات رديئة تسود فيها قاعدة هدامة ( الحصول على أعلى علامة ممكنة بأقل جهد ممكن و بأقل حضور ممكن و بأي أسلوب ممكن( .
حتى يتكون لدينا كيميائيون أفضل ، المطلوب إصلاح الجامعات قبل إصلاح المدارس لان الجامعات تقوم بتخريج اولئك الذين يذهبون لتعليم الكيمياء في المدارس . نوعية التعليم الجامعي في الوطن العربي بحاجة إلى تغيير جذري جوهري من خلال عدة إجراءات منها :
1) تعيين إدارات جامعية جديدة تمتلك الكفاءة و لا تستند إلى الواسطة أو إلى الانتماء السياسي لان الإدارات الفاسدة الحالية(أعرف عددا من الجامعات العربية ينطبق عليها هذا الوصف) تقوم بتخريب كل شيء و من ضمن ذلك عملية تدريس الكيمياء .
2) في الوضع الراهن ، الجامعات في الوطن العربي هي مراكز تدريس بالدرجة الأولى و ليست مراكز بحث كما هي الخرافات المنتشرة [إن معهد روحوفوت في فلسطين المحتلة لديه ميزانية بحث تزيد عن ميزانيات الأبحاث في جميع الجامعات العربية مجتمعة]. الإدارات الفاسدة تجعل ترقية دكتور الكيمياء بناء على أبحاثه (إن جاز التعبير) وليس جودة تعليمه و يكون لديها جهاز ترقية مجهول يعطي فلان و يحرم فلان . و دكتور الكيمياء الذي لا يريدون ترقيته يمنعون عنه المواد و الأجهزة اللازمة للبحث ، و حتى لو تحايل و أنتج أبحاثا في سفرة إلى جامعة أجنبية فإنهم جاهزون لإجهاض عملية ترقيته تحت ادعاءات مختلفة . لذلك ترى بعض دكاترة الكيمياء يبذلون جهودا كبيرة في التفتيش عن طريقة للارتقاء و تكون هذه الجهود على حساب العملية التعليمية التي ينبغي أن يكون همها الأول بناء الأجيال الشابة التي سيقع عليها تحسين وضع المدارس .
3) حين توضع الأمور في نصابها الصحيح كما يظهر في البندين السابقين ، المطلوب من أساتذة الكيمياء في الجامعات الإثقال البناء على الطلبة الملتحقين بأقسام الكيمياء بالتركيز على مزيد من الحفظ و الفهم و إعداد المشاريع ، و اعتبار تخصص الكيمياء مشروع تحدي للنابهين و للنابهات و ليس ملجأ أو كهفا لنوم الخاملين و الخاملات .
المصدر: مجلة المياه
Source: Annajah.net