أعمال الفنان العراقي علي آل تاجر: لوحات أقرب إلى كاميرا تلتقط روح العراق وأساطيره
[wpcc-script type=”fd4061e48f1b581ee4f6f75f-text/javascript”]
إن اعتبرنا ما قاله ديفيد هربرت أن «وظيفة الفن هي كشف العلاقة بين الإنسان وبيئته» حقيقةً، فإن أعمال الفنان العراقي علي آل تاجر (مواليد 1962، خريج معهد الفنون الجميلة ـ بغداد) قد حققت هذه الوظيفة لا بحدها الأدنى بل بأقصى ما يمكن للوحة أن توصل من منمنمات يعيشها الإنسان مع بيئته ومحيطه، وذلك لم يكن فقط بتصوير البيئة العراقية شديدة المحليّة وتصوير البيت العراقي وترتيبه وقطع أثاثه، تحفه ومراياه، شموعه ونوافذه، أقمشته وسجاده وزخارف البسط المدروسة بشكل متقن، فأعمال آل تاجر تغوص في النفس لتكشف لنا كل ما يعتليها من خلال العينين، نوافذ الروح. كتب فان كوخ لأخيه ثيو مرة: «أنا ﻻ أرسم صوراً فوتوغرافية، بل ارسم تعابير وجدانية أراها في عيون من أرسمهم»، آل تاجر يفعل ذات الشيء أيضاً.
أعماله تتمحور في أغلبها حول النساء، شأنه شأن فنانين كثر جذبهم شكل المرأة، أو ربما عوالمها المختلفة، لكن هنا الأمر ليس كذلك فقط، نستطيع القول أن اللوحات تعالج قضايا اجتماعية، فالفنان يدخل إلى أماكن محظورة، لا شيء يمنعه، فالفن لا يمكن أن يقف موقف عدم المبالاة بالحقيقة، فهو أساسا يرمي إلى بلوغ الحقيقة، كما يقول الفيلسوف الانكليزي كولنغوود. فها هو آل تاجر يصّور المرأة العراقيّة بكامل جمالها وأنوثتها، عروساً بكامل زينتها بين الشموع والحنّة، لتقف بعدها بجوار رجلها بثياب تقليدية: فستان أبيض مع زنار وعقد من الليرات الذهبية، العريس أيضاً يقف بكل رزانة بعباءة بيضاء أيضاً ولفة على رأسه، يقفان في صورتهما التذكاريّة التي نلتقطها لهما في بهو بيت عراقي مع كلّ نظرة للوحة، يحفظان هذه اللحظة ونحفظ نحن التفاصيل. في لوحة أخرى يدخل آل تاجر إلى أشد اللحظات حميمية وأشدها خصوصية ـ غرفة النوم ـ حيث يرمي الرجل رزانته واتزانه جانباً، وتشاركه المرأة شبقه فيتبادلان القبل أمام أعيننا، على الجدار لفحة خضراء، علّه كان يصوّر الحياة الخاصة لرجل دين، وفي الزاوية مشجب فوقه رمز يشابه رسوم السومرين أجداد العروسين أو العاشقين.
يوّثق آل تاجر بفنه العراق وأهله وقصصه وخاصة نساءه كما ذكرنا، ونساء الجنوب صاحبات حظوة عنده، فيرسمهن وكأنه يلتقط صوراً فوتوغرافيّة، فتلك لوحة «كَمرة» تُظهر امرأة جنوبيّة بعينيها الواسعتين الحزينتين ترتدي عباءة سوداء تقف أمام جدار مهترئ كروحها، تستجدي منا العواطف أو التعاطف أو ربما الانتباه فحسب؛ في لوحات أخرى تظهر المرأة تارة سعيدة تحت نخلة، وتارة متوجسة مترقبة بين الأزقة، خلف جدران بيوت ذات طابع عمارة إسلاميّة. اهتمام آل تاجر بخلفية اللوحة مدهش، فكل تفصيل مهم، وكأنها خشبة مسرح ولكل عنصر فيها ضرورته لإنجاح العمل. لم ينسَ الفنان أن يرسم الرجل العراقي ببزة وقبعة محاطاً بلوحات كثيرة للوَدع بكل ما يحمله من إشارات للحظ وقراءات للبخت، يرسمه أيضاً فلاحاً يحمل شوكة ليقلّب أرضه وأسراب غربان بعيدة تحلّق فوق صفرة لوحته (ربما هي غربان هاربة من حقول فان كوخ). الفلاح ليس لوحده هنا، فقرنا ثور كفيلان بأن يبددا وحدته في ذاك المدى، عراقي بالبستان خلفه أشجار وثمار وعصافير، العراق يشبه الجنة إذن! تفيض عينا بعض الرجال بالشر كما في لوحة تصّور رجلاً مع زوجة مكتسية بالسواد تمسك الملاءة على وجهها خشية أن يظهر منها ما يشي بجمالها، وآخر بعمامة وسبحة! أما الشرّ الأسوأ فيظهر من خلال الخوف الذي يسكن عيني فتاة، خوف من نظرات الرجال حولها (شرطي، عامل في المقهى، أشباه رجال بقرون أو برؤوس ديكة…)، خوف من التحرش في حياة أشبه بحفلة تنكريّة، عنوان تلك اللوحة.
يوّثق آل تاجر أيضاً قصصاً شعبية كما فعل في لوحة «فليفلة وسروط». أحداث قصة هذا المثل بالقرب من مدينة العمارة حيث أحبت فليفلة السروط وتواعدا على اللقاء وكان دجلة يفصل بينهما، ومن شدة لهفة فليفلة للقاء السروط تحوّل شعرها الطويل إلى جسر ليعبر عليه. تشاء الأقدار ألا يتم هذا اللقاء، فقد تعرّض السروط وهو على مسافة من النهر لحادث وما يزال مكانه ظاهر للمارة وهو عبارة عن تل أثري يدعوه أهالي المنطقة «إيشان سروط». كذلك فليفلة التي بقت تنتظر حبيبها على جرف النهر في الجهة المقابلة، لا يزال مكانها معروفاً للمارة مع بقايا الجسر ويدعوه الناس «إيشان فليفلة»؛ إيشان هو التل الأثري في تعبير أهل الجنوب.
ضمن كلّ هذا التوثيق لا تغيب رسوم الميثولوجيات القديمة عن أعمال آل تاجر، فهنا نجد حيواناً برأس إنسان، وهناك نجد سمكة بذراعين تشارك كاهناً بالوقوف في حضرة امرأة تطل بهالة وكأنها من الآلهة، وأيضاً في لوحة «كرنفال» الكثير من الرموز التي تحيط بالرجل المتربع في المركز.
لوحات آل تاجر مرسومة بطريقةٍ تتأرجح ما بين الواقعية لبعض التفاصيل وما بين التعبيريّة في المجمل، أبطال اللوحات مرسومون بأشكال واضحة مع قليلٍ من التماهي في بعض الأجزاء، لتكوّن تلك الأشكال فيما بعد تكويناً متراكباً يملأ مساحة اللوحة. لا تدرّج بالألوان فالأعمال أشبه بخطاب رصين بصوت عال، الألوان عند آل تاجر ألوان وحشيّة قوية، واضحة وكثيفة من عمق الأرض، من تفاصيل العراق وتراثه، ألوان أساسية في معظمها (أحمر، أزرق، أصفر)؛ عنها يقول الناقد العراقي خالد المطلك: «يمكننا القول إن ألوان علي آل تاجر، هي ألوان عراقية، قادمة من مناخات خاصة وفريدة، لا تخطئها عين المشاهد العادي، هي ألوان البسط الجنوبية، وخميرة ألوان الطين وجذوع النخيل والسعف والقصب ولون مياه الأهوار، يضاف إليها ألوان تلك الأقمشة والأنسجة، التي تفضلها عين المرأة الجنوبية على سائر الألوان المشعة والصريحة الأخرى، هي منظومة لونية، لا يمكن بدونها التطرق إلى موضوعات الفنان، دون الوقوع في فضيحة الافتعال».
أعمال علي آل تاجر، كاميرا تلتقط صوراً للعراق بأهله، بتفاصيله، بتراثه، كيف لا وقد أقام معرضاً بعنوان «عراق» وآخر بعنوان «طقوس»، واستوحى من المصوغات التراثيّة حليّاً جديدة.
بسمة شيخو