وجوه عبد الكريم الأزهر… عُبُورٌ بِلا أَثَر

زاوية النظر عند الفنان التشكيلي عبد الكريم الأزهر، هي ما يُوَجِّهُ رؤيته، ويضبط طبيعة الإيقاع والألوان والأشكال والمساحات الممكنة للعمل الفني. فهو في تجربته الفنية، التي تَمْتدُّ إلى أكثر من ثلاثين سنة، كان يحسب خطواته، بدون أن يُحْدِثَ قطيعة، مُطْلَقَةً، مع ماضيه، أو ما يمكن اعتباره ماضياً، من حيث الزمن فقط، بل إنَّه، دائماً، يترك […]

وجوه عبد الكريم الأزهر… عُبُورٌ بِلا أَثَر

[wpcc-script type=”a8fabdf059b9f459a266762d-text/javascript”]

زاوية النظر عند الفنان التشكيلي عبد الكريم الأزهر، هي ما يُوَجِّهُ رؤيته، ويضبط طبيعة الإيقاع والألوان والأشكال والمساحات الممكنة للعمل الفني. فهو في تجربته الفنية، التي تَمْتدُّ إلى أكثر من ثلاثين سنة، كان يحسب خطواته، بدون أن يُحْدِثَ قطيعة، مُطْلَقَةً، مع ماضيه، أو ما يمكن اعتباره ماضياً، من حيث الزمن فقط، بل إنَّه، دائماً، يترك صلة وَصْل بين السابق واللاحق، إمَّا تتجلَّى في أدوات الاشتغال، أو في عناصر محددة، أو في طبيعة الرؤية ذاتها، التي كانت، مثلاً، تذهبُ من قبل إلى الزمن، بمعناه الكرونولوجي الميقاتيّ، من خلال الساعات المُتَفاوِتَة في قياس الوقت، أي بما يعنيه الزمن من إيقاع، ليس هو نفسه، في انعكاسه على طبيعة الإنسان، وعلى وتيرة العمل، ومفهوم الصيرورة الذي يتَبَدَّى واضحاً في هذه التجربة التي سيخرج منها الأزهر إلى غيرها، بدون أن يَشِيحَ ببصره عنها. تعنيني هنا، تجربته الأخيرة التي كرَّسَها للوجوه، لأنَّها، في جوهرها، لا تختلف عن الساعات، من حيث الفكرة، رغم أنَّ أدوات الاشتغال، في الوجوه، اتَّخَذَتْ لنفسها أصباغا ومساحات وأشكالا، هي غير ما نجده في التجربة السابقة، رغم وجود رابط بينهما يُشْبِهُ خَيْط العنكبوت.


في معرضه الأخير الذي اختار أن يُسَمِّيه «النظر في الوجه العزيز»، السردية التشكيلية عند الأزهر، هذه المرة، هي سردية تعتمد المَحْكِيَّ اللَّوْنِيِّ، مَحْكِيَ الحَيِّز، وعناصر «التَّصْوِير» أو التَّشْكِيل. لا وَجْهَ يُشْبِهُ وَجْهَاً، ولا وَجْهَ يَسْتَقِرُّ عَلَى شكل وهَيْئَة وحَيِّز الوَجْه الآخر، ولا وَجْهَ، في حَقِيقَة الأمْر، «عَزِيز»، بل هِيَ وَجُوهٌ، بِقَدْرِ ما تتماهَى في ما بَيْنهَا وَتَتَصَادَى، بِقَدْرِ ما تَتَجَافَى وتَحْدُثُ بَيْنهَا الفُرُوق في بعض الجُزْئِياتِ الحاسِمَةِ في تَمْيِيز وجه عن آخر، وهذه الجزئيات، هي أهم ما يجعل المعرض سردية تشكيلية، لا تسير بشكل خَطِّيٍّ مُتَتَال، فهي تَعْكِسُ طَبِيعَة التَّشَظِّي والتَّفَتُّت اللذين تَشِي بهما المُلْصَقَات، حتَّى لا أقُول اللَّوَحات أو الأعمال، أوَّلاً، لأن المعرض بكامله، هو عمل واحد، أي سردية، وثانياً، لأنَّ هذه الملصقات، هي بدون إطار، من جهة، فهي موضوعة علَى الورق مباشرة، يَتَشَرَّبُهَا الجِدار، كَمَا تتشرَّبُه هي أيضاً، وهي تتنادَى في ما بينها، لا توجد مُلْصَقَة واحدة مُسْتَقِلَّة بذاتها، فدائما هناك متوالية سردية، ليس اللِّسانُ ما يتحكم في مَحْكِيَاتِهَا، بل العُيُون، فوجوه عبد الكريم الأزهر، ليست فيها أفواه، فهي خَرْساء، غير ناطقة، لكن عيونها جاحظة، مفتوحة على عواهنها، يقظة، بقدر ما تنظر إلينا، تتقَصَّانا وتتأمّلُ فينا، بقدر ما تدفعنا للنَّظر فيها، بحثاً عن المعاني التي تَشِي بها، أو الرُّموز الرسائل التي تَحْفَل بها، أو تريد أن تُدْلِيَ بها، أي أنها، تَسْتَعِيضُ عن الكلام بالنَّظَر، وهذا ما يُبَرِّرُ تسمية المعرض، ويجعل العين هي كلام، وخطاب، ورسالة، وهي لحظة العبور القوية لاستكناه ما تفضحه من وقائع وأحداث. لا وُجود لأجسام، ما يُواجهنا، هو الوجوه، بعضها وجوه بأعناق مُشْرَئِبَة، كأنَّها تسْعَى لبلوغ نقطة ما قد تكون نائية، أو هي نداء عن بَعِيدٍ ما لا نراه، وبعضها وجوه بدون أعناق، مُنْفَصِلَة عن الجسد، ما دامت الأعناق هي بعض صَدَى الأجسام على الوجوه. ثمة وجوه، تسرَّبَتْ إليها الساعة أو الزمن، وهي إحالة إلى ذلك الخيط الدقيق الذي لا يفتأ عبد الكريم الأزهر يحافظ عليه، لكنه، حضور، هذه المرة، بدال، له بعد دلالي آخر، مرتبط بسياق العمل الفني كاملا، لا بملصقة دون أخرى، ولا بوجه دون آخر. فيد الفنان لا تتنكَّر لماضيها، لذلك فماضي الكتابة والفن، وهو ماض لا يجري عليها الزمن، أو ماضٍ لا يمضي ولا يُسْتَنْفَد.


لا حامل لهذه الوجوه، فهي تحمل نفسها بنفسها، تحمل نفسها، باعتبارها رسما، إشارة وعلامة، أو إذا شئنا، باعتبارها أيقونة. من يتأمَّل هذه الوجوه مفردةً، سيُلاحظ أنها في أشكالها وأحجامها، وحتَّى في الألوان التي تلْتَبِسُ بها، لا يحدث فيها تكرار، وهذا ما يُؤَكِّد عنصر الصيرورة في هذا العمل الفني، كما يؤكد معنى السردية، أيضاً. نقطة التحوُّل في هذه الوجوه، هي إدخال عنصر القُصَاصات والكتابة المطبعية، أو الملصقات الانتخابية، ببعض رموزها وشعاراتها التي تتخذها أحزاب ما في حملاتها الانتخابية. وهذه المعطيات، تنقل الوجوه من الحِياد إلى الموقف الصَّرِيح، أو إلى ما يمكن اعتباره بارُودْيا، وسخرية سوداء، أي نقداً فنيا للسياسة، وهذه، في تصوُّرِي طَفْرَة، في علاقة الثقافة والفن بالسياسة، فالعمل الفني لم يعد صَدًى، كما كان من قبل، بل إنَّ العمل الفني هو الصَّوْت، وهو السياق، بل هو الإطار. إفراغ الأيديولوجي والسياسي من أبعاده المباشره، وتحميله سياقاً جمالياً، يُفْرِغُه من آنيته، ليُودِعَه في أبدية الجمال، وفي ما يَتَّسِم به من إدهاش، رغم حِدَّة النقد والسخرية والامتعاض الذي يبدو واضحا في هذه الطفرات. الحامل هنا، إذن، هو هذه العناصر الجديدة التي وظَّفَها الأزهر ليفضح السياسة بالفن والجمال.


من ينتبه إلى وجوه العمل كاملة، في شموليتها، سينتبه، لا محالة، إلى السواد الذي يتسرَّب إليها كاملةً، إمَّا في شكل ضربات أو لطخات، أو في شكل خلفية للوجه والإطار، أو في تحديد بعض الملامح، وهذا السواد، أو العتمة، هي ما يحتال به الأزهر على الألوان والأصباغ الأخرى لتظهر وتبرز، فالأسود يصير هنا، مثل النقيض الذي يُساعِد في إبراز نقيضه أو ضدِّه، من جهة، وفي الكشف عن التعتيم الذي يسود وجوها بلا كلام، وجوه تتقرَّى ناظريها، وما فيها من سواد، هو انعكاس لِما تراه في من تتقرَّاهُم وتراهُم.
ثمَّة الكثير مما يمكن اسْتِشْفَافُهُ في العمل الفني الأخير لعبد الكريم الأزهر، فعمله هذا غنيّ بالاحتمالات، مليء بممكنات القراءة والتأويل، لكن ما يمكن اعتباره «العزيز» في هذه الوجوه وبينها، يبقى هو العنصر الهارب، المُتَمَنِّع، المُنْفَلِت، ما لا يمكن القبض عليه، لأنَّ عبد الكريم الأزهر، عرف كيف يمحو آثار عبوره، رغم أنَّه كان يمشي في أرض لا يمكن عبورها بدون أثر.

٭ شاعر مغربي

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!