العود والطريق!
[wpcc-script type=”308492b91dc6bb530a874106-text/javascript”]
لحظة الموسيقى هي أجمل اللحظات التي تطالنا، هي خلاصة وعينا الروحي والفكري معاً، فالخبرة الموسيقية تحتاج إلى وعي أقصى، تحتاج إلى كلنا مجتمعين، وأعني بكلنا هو نحن بما جبلنا عليه من وعي تراثي وحضاري وإنساني وتاريخي وحياتي، وفي المحصلة وعي تجربتنا بالكامل. فنحن نتلقى الموسيقى ونتذوقها تبعاً لملكاتنا الفكرية الأعمق، وإذا امتلأنا بالموسيقى نصبح قادرين على الطيران بعيداً في أرض هي الأجمل، أرض أحلامنا التي تنمو في دواخلنا وتسطع كشمس نلمح بريقها في عيوننا.
كنت أعايش من خلال الموسيقى والعزف لحظات مختلفة من الألم والحنين والحب والموت، أرى صورا متعددة، وأشتاق وأحن إلى أرض أجمل، أنحني وأمشي ممشوق القامة، أقف وأميل. منذ أول مقطوعة ألفتها، كنتُ أرى الموسيقى، لهذا عندما قرأت ذات مرة قصيدة لشيمبورسكا تقول فيها: كي يرى الموسيقى/ صنع لنفسه كماناً من زجاج. لفتتني العبارة، ولا أعرف لماذا شعرت بأن هذه الكلمة تقصدني أنا تحديدا، فقد صنعت لنفسي عودا من روح، وصار عودي شفيفا، وصرت أرى من خلاله وكنت بلا زجاج أرى الموسيقى تخرج متقطرة من كل شيء، ومنذ تلك اللحظة أيضا عرفتُ أنني أريد أن يرى الناس معي الموسيقى ولا يكتفون بسماعها، أريدهم أن يعيشوا معي لحظة بلحظة، يعايشون لحظتي ولحظتهم في آن، يرتفعون عندما أرتفع وينخفضون عندما أنخفض، يتأملون، يدمعون، يبتسمون، كنتُ أريد أن يأخذ مســــتمعي مني أقصى حالاته، أن يرى الصورة أمامه كما لو أنه أمام شاشة عرض كبيرة ونقية.
عملتُ على موسيقى الصورة، كنتُ أرى وأحاول أن أجسد ما أرى، بينما تجري أصابعي بسرعة وبخفة أحيانا، وببطء أحياناً أخرى. كنتُ أرى الصور كلها. رحلة طويلة وجميلة، هي رحلة حياة، جبت خلالها أرجاء كثيرة من هذا العالم حاملا عودي، ومؤمنا أن الفن يحمل رسالة حضارية إلى الأمم، ويجعل وجودنا أقل قسوة في عالم متناحر.
مع الموسيقى كان طريقي جميلا وصعبا، اكتسبت خبرات كثيرة، وتعلمت أن الحزن الذي يقهرنا به الزمن يجعلنا أقوى وأكثر قدرة على العطاء، وها أنني اليوم أنظر إلى الموسيقى التي أعطيتها الكثير فمنحتني الكثير، بأنها سلم موسيقي بسبع درجات منحني طاقة كبيرة وبأجنحة لا متناهية، ومنحته طيراني في كل مرة أمسك بها عودي.
لم يكن مشواري مع العود سهلا، كان طريقا طويلا ما زال أمامي الكثير لأبلغ نهايته، بل أنني لن أبلغها أبدا، غير أنني عرفت أن من يريد أن يحفر اسمه هو من يضيف لا من يسير على منوال السابقين فقط، فاهتممت بالثقافة والشعر والأدب، وكان زادي من الفنون التشكيلية كبيرا، فأنا تقريبا لدي مجموعة من الأصدقاء التشكيليين أكثر بكثيرمن الموسيقيين، كما أن جل أصدقائي من الشعراء والكتاب عموما، فالموسيقي بلا ثقافة سيـــظل مجـــــرد عازف يحرك الأوتار بطريقة ميكانيــــكية، من دون أدنى شعور بالرغبة في التغيير أو النظر صوب المستقبل في مقطــــوعاتي الموسيقية كنت أحاول طوال الوقت أن أوفق بين حبي للفن التشكيلي وعشقي للسينما، وحاولت أن أكون شاعرا بالألحان، كنت أريد طوال الوقت أن أرى الموســــيقى، أن أجسدها أمامي وأراها تتراقص من دون جسد، كنت أرى ألوانها وحيــــاتها، أراها ككائن آخر يجالسني دائما ويمنحني الطاقة على العيش ومغالبة الصعاب.
نصير شمه