الموسيقى بين العقل والقلب
[wpcc-script type=”c83e367f8f3220e6d057eb1e-text/javascript”]
دائما ما نتحدث عن الفنون بوصفها تحمل خطين متوازيين، خط العقل وخط القلب، وفي وصفنا للفنون عامة نستخدم تعبيرات مثل «موسيقى رومانسية»، أو «أغنية عاطفية» أو لوحة «كلاسيكية»، وعادة عندما نستخدم كلمة الكلاسيكية ننبه إلى وجود العقل كحاكم تجاه العمل الذي نطلق عليه هذه الصفة.
الكلاسيكية أيضا تعبير استخدم في وصف الموسيقى الأوروبية غالبا التي قامت على الأشكال الموسيقية السمفونية، الكونشرتات أو السوناتات أو الأعمال الأوبرالية، التي راجت في القرون الماضية، لكن في ذلك الحين كان الكلاسيك يرتبط بالمفهوم العقلاني للبناء الموسيقي أو الفني بوجه عام، فاللوحة الكلاسيكية تنبني من قوام محدد، وغالبا ما تتطابق مع الطبيعة وإن اختلفت عنها بألوان أو استخدامات ريشة الفنان، والموسيقى الكلاسيكية هي التي تسير على القالب نفسه مع إبداعات تخص الموسيقي، لكن في الغالب عرفت المذهب الكلاسيكي بأنه مذهب العقل، واحتفى القلب بالمذهب الرومانسي.
يبدو أن هذا التقسيم انعكس أيضا على المتلقي، فالكلاسيك له جمهوره المتعلم، الذي غالبا ما ينتمي لطبقات اجتماعية لها علاقة بالمتوسطة، أو ما فوق، بينما يتفق الجميع على منحى القلب بالموسيقى الرومانسية، ويرى البعض فيها «ضعفا» ويصفها بالرومانسية كنوع من الاستسهال أو التقليل من الشأن. هذان التياران ظلا يسيران بشكل متواز، يلتقيان أحيانا ويبتعدان أحيانا، لكنهما ظلا تماما كما موقعهما في جسد الإنسان في حالة اتفاق أحيانا وعلى تنافر في أحيان أخرى.
في ذاكرتي الفنية كانت لي أغنيات وموسيقى أميزها واستمع لها كثيرا وأحبها، ولأقل يحبها قلبي على وجه التحديد، لكن مع مرور السنوات ذهب الكثير من هذه الأغاني أو الموسيقى واحتفظت ذاكرتي بما اتفق عليه «الخصمان» العقل والقلب، أما عمل القلب وحده فلربما كان عملا آنيا ارتبط بسنوات الشباب والمراهقة، وعلى الرغم من أنني منذ طفولتي كنت أستمع دائما إلى أنواع مختلفة من الموسيقى، وأحب تلك التي تحمل ملامح بقائها منذ ولادتها، وأميل إلى التجريب والتأمل، إلا أن بعض ما كنت أستمع إليه كان يؤجج عواطفي كمراهق، وكنت أستمع إليه مرارا لتعبيره عن حالة «قلبي»، القلب نفسه لم يختلف، لكن العقل طبع بصماته عليه مع مرور السنوات، هكذا صار القلب والعقل يعملان معا ويستمعان معا ويصنفان ما يحبان معا.
في داخل كل منا صراع دائم بين العقل والقلب، أحيانا يصل الصراع إلى حد إلغاء طرف منهما للآخر، فالعقل يريد أن يفرض سطوته، وفي محاولاته لفرض السطوة يبدو ديكتاتورا لأنه ببساطة يحاول أن يضع قوانينه الخاصة، وقوانين العقل لها مسارات مضبوطة تحدد ما يمكن سماعه وما لا يمكن سماعه، بمعنى أنها ترى في الخيارات المختلفة خيارات لا ترقى لمرتبة العقل، وبالتالي خيالات مراهقة، هذا في تصنيف العقلاني للعاطفي.
أما القلب فهو أقل سطوة من الديكتاتور العقل، وأكثر مرونة، لأنه ببساطة ينشغل بنفسه، ولا يمانع من الدخول في «تعقيدات» العقل، بل أن مرونته تدفعه لتجريب كل شيء أو الاكتفاء بنفسه. الحياة كلها متضادات ومسارات مختلفة، وفي الفنون نجد البلورة الحقيقية لهذه المسارات، فالفنون كاشفة لأنها تتعاطى بحرية مع الجموع، ولأن الفنون أتت لتكون جسرا بين الأنا والآخر، ولأنها تشكلت من الأنا أولا قبل أن تمشي في مسار الآخر، تجد نفسها تتجه إلى من يشابهها في أناها، وتقتنص جمهورها بمفهوم المسارات نفسه، فالعقلاني يجتذب العقلاني فيما العاطفي يجتذب العاطفي.
لكن ما الذي يدفعنا أحيانا لنصنف مقطوعة موسيقية بأنها رومانسية؟ هل لهذا علاقة بأن القلب يتلقفها بسرعة مثلا؟ أم لأننا عندما نسمعها نصبح في حالات حالمة، أو لأنها تستدعي ذكرياتنا؟ وهل هذا لا يحدث عندما نستمع لعمل يخص موزارت أو كورساكوف أو الموسيقار عبد الوهاب؟ هل أننا نضفي صفة الرومانسية على مقطوعة موسيقية لأنها تشتغل على ميلودي معيّن؟
التسلسل النغمي للجملة أحيانا يسهل على المتلقي تتبع سير اللحن من دون انقلابات نغمية، أو مع انقلابات مألوفة للأذن، كما أن السلاسة في تدفق اللحن أحيانا قد يدفعنا لتصنيف المقطوعة، لكن أيضا قد يحدث هذا في مقطوعات مختلفة، فعندما نستمع إلى فيفالدي على سبيل المثال في فصوله الأربعة سيتنبه فينا المساران: مسار العقل ومسار القلب، بل ستكون هناك حركة سريعة من شد وجذب بين هذين المتنافرين المتقاربين، كذلك الأمر مع «بحيرة البجع» و»شهرزاد» لكورساكوف فعندما نستمع إلى أي من هذه المقطوعات سنجد أننا ننساق وراء العاطفة والعقل معا. ونحن نستمع لهذه الأعمال يشعر المتلقي بأن فيفالدي أو كورساكوف، مثالا، كأنهما يستميلان المتلقي بميلودي يستطيع أن يشكل ما يشبه «طعم الصنارة» للسمكة فيجتذبها لتصبح في قبضته، ومن ثم ينتقل إلى منطقة أخرى فيها، أي أن العقلاني هنا يخادع العاطفي ليجتذبه إلى أرضه، وأحيانا تنقلب الحكاية فيمارس العاطفي اللعبة نفسها على العقلاني.
الأعمال الموسيقية العظيمة بالنسبة لي هي تلك التي تستطيع الجمع بين هذين القطبين، وهذا الأمر ينسحب على كافة الفنون، بما فيها فن العمارة، فأعمال الراحلة زها حديد في العمارة لفتت الأنظار بقوة لأنها استطاعت أن تجمع بين ما تعشق العين رؤيته ويحبه القلب وبين ما يحتمه العقل في التشكيل، وهذا ما حدد هويّة اختلافها.
ويظل هذا الصراع الأبدي بين العقلاني والعاطفي قائما، وهو نفسه الصراع الجميل الذي يتبلور في الفنون فيمنحها بهجته حينا وحزنه أحيانا.
موسيقي عراقي
نصير شمه