لوحات آني كركديجيان: عالمٌ مشاكس صنعته امرأة واحدة

أحبُّ الفن عندما يكونُ قوياً مهيباً بمنكبين عريضين وكف واسعة كفاية لتصفع مجتمعاً بأكمله. أحبُّ الفن عندما يحمل نظرية البرناسية (الفن لأجل الفن) ويرمي بها أرضاً فتتشظى لمرايا صغيرة تعكس صورنا وقصصنا على أحرف الفن وتفاصيله. أحبّه عندما يصرخ جريئا وينادي بأخطائنا، يفضح العيوب علنا دون حشمة، مشاكس يسرق ورقة التوت لتبان سوأتنا ويهرول راكضاً نحو الأبدية مؤرشفاً واقعاً كئيباً يحكي للمارين بعدنا بأننا كنا هكذا عراة خائفين من ظلنا، هاربين منا نحو العدم الذي يسكننا. أحب الفن عندما ينطق بثقة عبر ريشة آني كركديجيان، الفنانة السّوريّة اللبنانيّة، مواليد 1972، التي درست الفنون الجميلة وعلم النفس في الجامعة اللبنانية، واللاهوت في جامعة القديس يوسف. آني ليست ساحرة بعصا برّاقة كما من الممكن أن يخطر لنا ونحن نغوص في أعماق لوحاتها، فجلُّ ما تفعله رمي المفتاح داخل اللوحة عندما ترسم، وتترك لنا أن نتقمص دور فرويد ونقوم بتحليلات نفسيّة عن طبيعة عوالمها وعن فلسفة شخصياتها، نخاف أن نشبههم ويشبهوننا وهم كذلك.

لوحات آني كركديجيان: عالمٌ مشاكس صنعته امرأة واحدة

[wpcc-script type=”5d96dca550ada5d54149399d-text/javascript”]

أحبُّ الفن عندما يكونُ قوياً مهيباً بمنكبين عريضين وكف واسعة كفاية لتصفع مجتمعاً بأكمله. أحبُّ الفن عندما يحمل نظرية البرناسية (الفن لأجل الفن) ويرمي بها أرضاً فتتشظى لمرايا صغيرة تعكس صورنا وقصصنا على أحرف الفن وتفاصيله. أحبّه عندما يصرخ جريئا وينادي بأخطائنا، يفضح العيوب علنا دون حشمة، مشاكس يسرق ورقة التوت لتبان سوأتنا ويهرول راكضاً نحو الأبدية مؤرشفاً واقعاً كئيباً يحكي للمارين بعدنا بأننا كنا هكذا عراة خائفين من ظلنا، هاربين منا نحو العدم الذي يسكننا. أحب الفن عندما ينطق بثقة عبر ريشة آني كركديجيان، الفنانة السّوريّة اللبنانيّة، مواليد 1972، التي درست الفنون الجميلة وعلم النفس في الجامعة اللبنانية، واللاهوت في جامعة القديس يوسف. آني ليست ساحرة بعصا برّاقة كما من الممكن أن يخطر لنا ونحن نغوص في أعماق لوحاتها، فجلُّ ما تفعله رمي المفتاح داخل اللوحة عندما ترسم، وتترك لنا أن نتقمص دور فرويد ونقوم بتحليلات نفسيّة عن طبيعة عوالمها وعن فلسفة شخصياتها، نخاف أن نشبههم ويشبهوننا وهم كذلك.
تقوم الفنانة بتطويع دراستها لعلم النفس مع الفن، ولا أحد أكثر من الفنانين يعي مدى تلاصق هذين المجالين، ولربما كانت نظرية «الغشتالت» من أهم النّظريات التي فسرت هذا الترابط، وصارت تبحث في الإيحاءات النفسية للخطوط التي تتنوع ما بين الأفقي والشاقولي، المنحني والمستقيم، الطويل والقصير، وما إلى ذلك، بالإضافة لتحليل للحجوم والأشكال والألوان أيضاً، حيث نجد أن في استخدام كركديجيان للألوان الباردة إضفاءً لعمق نفسي تحتاجه اللوحة، والاستخدام الحذر للألوان الحارة يحمل حركةً للشخوص ولمسرحها عامة. وآني، بالطبع، بين أفضل من ركّز على هذه التفاصيل، إلى أن استطاعت أن تخلق عوالماً خاصةً بها، لا بل خاصةً بنا. ففي لوحاتها تصوير لسيكولوجية المقهور، التي وصفها فرانز فانون، وسيكولوجية الخائف ذكراً كان أو أنثى، طفلاً أو أماً، فجميعنا سواسيةٌ كأسنان المشط أمام الألم والخوف، فها هي طفلةٌ تقف عاجزةً أمامنا مقطوعة الفم، هل هناك من يعيرها شفتيه؟ أو يهبها صوته؟
امرأةٌ لا تريد من رحابة الكون سوى صندوق، مساحةٌ صغيرة لا يشاركها أحدٌ بها، تدافع عنها بكل ما تملك: لسانها، يدها، أعضاؤها التناسليّة، حتى الأعضاء الحميمة موجودة في عددٍ من أعمال آني لأسبابٍ أعمق من المفهوم السطحي للإيروتيك في الفن. فالعري في لوحاتها صدمةٌ للعين وللنفس يظهر من خلاله تلاشي الخصوصيّة فيما بيننا في مجتمعٍ منفتح نحو الفراغ، العريّ هو عين البعض الذي يبصر البشر من خلاله، وكركديجيان في تصويره تريد أن تتخلص من بشاعتنا وهشاشتنا، تريد أن تتصدى لمشاكل اجتماعيّة بأعمالها، فحين يحمل رجلٌ بالغٌ على ظهره طفلة كأي غنيمة غنمها أو بضاعةٍ اشتراها، أي صوت أعلى من هذه اللوحة ليوقظ ضميراً نائماً ويصرخ: «لا لزواج القاصر».
الحروب لا تغيب عن أعمال كركديجيان، هي التي شهدت الحرب الأهليّة اللبنانية، فصاغت تلك الأعمال بناء على رؤية مستنبطة مما وصفته بـ «عربدة بيروت»، حيث أن التأثر بالحرب الأهلية يتحول هنا إلى إحياء الذكرى، وفعل الفَقد داخل الإطار يصبح بحثاً عن فاعل مسجلٍ كمفقود إلى الأبد. فالأمهات في لوحتها ينُحن بصمت عال يُسمع إله الموت وهن يسكبن أطفالهن بلفاتهم البيضاء في فم الأرض وكأنهم ذرات ملح ليحفظوها من التلف. المرايا مرعبة هنا بقدر قبحنا، والإنسان وجبةٌ شهيّة حتى لأضعف الكائنات، المرأة هي الأشهى على الدَّوام وعليها أن تتعلّم خلع أسنان من حولها لتأمن السلامة، فها هي تستنجد بشبكة واهنة لتنجو.
إن عرض هذا الخوف والاعتراف بالضعف هو السبيل الوحيد للخلاص، قال بيكاسو مرةً:»أريد أن أعيد اكتشاف شعور الحب دون خوف باتجاه الحياة وباتجاه نفسي وعاطفتي وإرادتي، إرادة أن أكون ضعيفًا وهشّاً، أريد أن أصل إلى أفضل التجارب في حياتي، أريد أن أطرد الخوف الذي أفسد حياتي، أريد استعادتها منه…لم أكن أجرؤ على الجلوس بهدوء في الفوضى. لم أكن أفهم أن الجمال ينمو بالتحديد بسبب الكسور والتشققات التي نجرّبها، نحن نرتكب الأخطاء بل حشودًا من الأخطاء.»
أظن أن كركديجيان تشارك بيكاسو الإرادة بطرد الخوف من حياتنا وبزراعة الجمال ضمن أحواض أخطائنا المكسورة. عبر رسم خطوطها وأشكالها المتمرّدة على قماش اللوحات، تقول:»القماش ليس مجرد شكل، بل علامة من المستحيلات البصرية». وبذلك تخلق عوالم فيها ضرب من السريالية بأسلوب تعبيري، تستكمل عناصر لوحتها ملبسةً إياهم رمزيّة مُربكةً بالمقارنة مع واقعية التفاصيل، يحتل كلُّ عنصر منها مكانه ضمن روايتها المرسومة بصورةٍ متوازنة بصرياً ولونياً.
الأشكال واضحة صريحة لا مجال لتأويلها، والألوان عند كركديجيان نقيّة تعطي سلاماً روحيّا يعدّل الضجيج التي تثيره أفكار الأعمال ومواضيعها، اللون الأبيض يمنح قداسةً لبعض الوجوه التي على الأغلب توحي برمزية دينية، وكأن الفنانة تشير إلى هدوء النفس عند تلك الرموز الدينية التي رسمتها بألوان رمادية محايدة وغلفتها بالأبيض. الألوان الباردة هي الأبرز في الأعمال لتعدل سخونة المواضيع ولتمنح جواً هادئاً، فالمسار اللوني هنا محكومٌ بالآثار النفسية بالإضافة إلى الجماليات التي يحملها للعمل الفني، الظّلال ملاصقةٌ للعناصر تظهر بشكل تدرجات أو خطوط سوداء أحياناً لتُبرز النور وتُحجّم الشّخوص أصحاب الوجوه الحياديّة، ممسوحة التعابير، بسيطة الملامح والتي يذكرنا بعضها بوجوه مودلياني.
نغادر أعمال كركديجيان وكأنها مرّت أمامنا كفيلم سينمائي، أبطاله نحن بكامل حقيقتنا، ونهايته مفتوحة، كل يصيغها على هواه بعد حوارات فاقعة الصّدق مع ذاته. فيلم باذخ صنعته امرأة واحدة، تقول دوما أن الحياة هي استعراض امرأة واحدة.

بسمة شيخو

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *