الفكر الإسلامي: سؤال النهضة وحوار الغرب

الفكر الإسلامي سؤال النهضة وحوار الغرب الدكتور محمود عكام المتخصص في الفكر الإسلامي والأستاذ في جامعة حلب هو أحد أبرز علماء حلب وشيوخها اشتهر منذ منتصف الثمانينيات القرن الماضي في مدينة حلب خطيبا لجامع التوحيد الكبير وخلال عقد ونصف استطاع أن يترك بصماته على وعي جيل بأكمله في هذه المدينة السورية العريقة..

الدكتور محمود عكام المتخصص في الفكر الإسلامي، والأستاذ في جامعة حلب هو أحد أبرز علماء حلب وشيوخها، اشتهر منذ منتصف الثمانينيات (القرن الماضي) في مدينة حلب خطيباً لجامع التوحيد الكبير، وخلال عقد ونصف استطاع أن يترك بصماته على وعي جيل بأكمله في هذه المدينة السورية العريقة، حتى إنه لينسب إليه كل التيار التجديدي، والذي يطلق عليه البعض أحياناً “العكاميُّون”. اتسم فكره بالانفتاح على كل التيارات، وسمحت له ثقافته المتنوعة ـ التي جمعت بين العلوم الإسلامية الأصيلة، والثقافة الغربية وخصوصاً الفرنسية ـ أن يكون وسطيَّ التوجُّه، ورغم ذلك عانى من قسوة المذهبيات والتحزبات، وتزمت كثيرٍ من الشيوخ.

في هذا الحوار نتناول بالمناقشة مشروع النهضة الإسلامي في ظل التنوع الكبير والاختلاف الواسع الحاصلين في الفكر الإسلامي، ومقتضيات ذلك في الحوار (الإسلامي ـ الإسلامي، الإسلامي ـ القومي والوطني، والإسلامي ـ الغربي) في ظل العلاقة مع الواقع، ومع التغيرات الراهنة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي والعالم برمته، نتحدث عن العوائق والمشكلات التي تواجه النهضة، والآفاق المفتوحة لها في ظل التطورات التقنية الجديدة، في محاولة لاستشراف دور الأمة ومستقبل الفكر الإسلامي في مشروعه.

ثمة تنوع كبير واختلاف واسع وتيارات عديدة في إطار الفكر الإسلامي الراهن، حدث ولا يزال يحدث مع التغيرات التاريخية، كيف تنظرون إلى المشهد الثقافي الفكري الإسلامي في ظل المتغيرات الفكرية القومية والعلمانية في العالم العربي والإسلامي؟

لعل المشهد الثقافي الفكري الإسلامي في ظل التغيرات الفكرية القومية والعلمانية في العالم العربي والإسلامي هو أيضاً في حالة تغيّر وتبدل، ومنحى التغيّر والتبدل يتجه إلى السعة والتنوير، فالسعة تعني تجاوز الحركة الحزبية الضيقة، والفكرة المذهبية، والبحث عن خطاب أشمل من ذي قبل، وأما التنوير فيعني محاولة رؤية التقاطعات بين الفكر الإسلامي والفكر القومي والعلماني ليصار إلى الاعتراف بضرورة الحوار بين الجميع اعتماداً على مرتكزات اللقاء التي أفرزتها تلك التقاطعات.

هناك حديث عن “فجوة” فاصلة بين متطلبات إيمان المسلم وظروف العصر الراهنة. تضيق كثيراً لدى بعضهم، وتتسع كثيراً لدى بعضهم الآخر وبعوامل مختلفة، كيف بإمكاننا أن نتجاوز تلك الفجوة أولاً؟ ثم كيف يمكن أمام هذه المحاولة تجاوز عقبة الحيرة التي تتملك الشباب لدى وقوفهم أمام هذا التنوع والاختلاف الواسعين في الفكر الإسلامي؟ وإلى أي حد تجد الفكر الإسلامي معزولاً عن الواقع؟

هذه الفجوة قائمة بين كل ذي مبدأ وبين الواقع بغض النظر عن طبيعة المبدأ، وذلك لأن المبدأ عادة أقرب إلى المثال، والواقع واقع، وهنا تبرز قضية “المجاهدة” في المنظور الإسلامي التي تعني السعي إلى تغيير الواقع بما يتناسب والمبدأ أو إلى استنباط دلالات من النصوص تتوافق والواقع الراهن الصعب؛ الذي لم يقبل إلى الآن تغييراً ولا تبديلاً.
وإذا ما أردنا تخفيف الفجوة ووطأتها فلابد من الاعتراف أولاً بقوة الواقع واستعصاء تغييره جذرياً، وثانياً: يجب البحث عن ثوابت المبدأ أو الإسلام التي لا تقبل التغيير، والبحث عن ثوابت الواقع التي لا تقبل التبديل، والتحرك بعدها في متغيرات الواقع ومتغيرات المبدأ بوعي وفهم ضمن خطة ترمي إلى خدمة الإنسان عقلاً وجسماً، صورة وحقيقة.
فالواقع غالباً ما يكون تراكم تجارب، والمبدأ غالباً ما يكون عقلانياً، والعلاقة بين التجارب والعقل علاقة بين المشخّص والمجرّد، والمشخّص والمجرّد أمران متلازمان؛ فقد يعايَر المجرد على المشخص إذا كان الثاني ينطوي على ثابتة من ثوابت الواقع، وقد يعايَر المشخص على المجرد إذا كان الثاني هنا ينطوي على ثابتة من ثوابت المبدأ.

وحيرة الشباب يا سائلي: لا يقضى عليها إلا بالإقناع العلمي والنمذجة الفعلية، والبرهنة الحالية، والبحث في خفايا وثنايا شخصيات محترمة وإراءة الشباب حركة هذه الشخصيات وواقعيتها وفق ما ذكرنا آنفاً.
وأما عزل الفكر الإسلامي عن الواقع، فأمر يتعلق بحامله، والإنسان حيث يضع نفسه، فإذا كان الذي يتبنى الفكر الإسلامي: يعزل نفسه ظناً أن لا علاقة للفكر بهذه الساحة المعزول عنها، فهذا ظنه وإن كان يعزل نفسه وهماً أن الإسلام لا يقر هذا المجال ولا صلة له به فهذا أيضاً وهمه وهلّم جراً.

هذا يجرنا إلى سؤال النهضة، فما قُدم من مشاريع إسلامية للنهضة منذ سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية وحتى اليوم يعاني من مشكلة عدم الوضوح والتبلور، وأحياناً كثيرة السقوط في دوامة العمل السياسي وحسب، برأيكم إلى ماذا تعود هذه المشكلة؟

وقع الفكر الإسلامي في مطبين بعد سقوط الخلافة العثمانية:

الأول: مطب ردة الفعل على المكانة السياسية الضائعة، بالرغم من أنها ـ في قيامها ـ لم تكن مُرضية ولا مقنعة لمن هم في عصرها من ذوي التنوير، وهذا المطب أفرز اجتراراً لماضٍ لا تتجلى فيه معالم السياسة الإسلامية المطلوبة فغدا الحديث عنها مجملاً غير مفصّل، إذ التفصيل ضار بنا نحن مَنْ نتحدث عن الأمجاد، فلو أطلعنا وأطلعنا على دقائق ما كان يجري في ردهات قصور أهل الخلافة، لأنكفأنا خجلاً مما وقع أمام مَنْ نحكي لهم حكاية المجد والعزة في الخلافة.
والمطب الثاني: التغريب الذي أخذ ببعضٍ منا فرماه في بيداء اللهث وراء الغرب والبحث عن سر تقدمه وتفاصيل تطوره مع نسيان مقومات تطورية إسلامية.

وغدا العود إلى الإسلام ثقافة ودراسة يمر من منعطف الغرب، وبدلاً من أن يشتغل المهتمون والمختصون بالفكر الإسلامي بالإسلام توضيحاً وتقديماً متماسكاً راحوا فاشتغلوا بالاجترار أو بالدفاع عن الإسلام أمام اتهامات الغرب والمستغربين.

والصحوة التي بدا طالعها هي إعادة تقديم الإسلام بمعزل عن المطبين السابقين، وصياغة أحكام هذا الدين وآرئه وفق إجراءات وأدوات إبداعية جديدة في مختلف سياقات العلوم.

في مشاريع النهضة الإسلامية كان القرآن دوماً أساساً للمشروع، بل إعادة تفسيره، وهكذا جاء القرن الماضي بعدد من التفاسير والدراسات التفسيرية الوفيرة نسبة لما قبلها في كل قرن، وفي كل مرة يستدعى فيها القرآن الكريم كان يستدعى مذهبيا ً(إيديولوجياً)، بحيث يتم التركيز فيه على بعض الآيات وبعض التأويلات حتى بدا لبعضهم أن القرآن يحتمل أي تفسير، بل إن بعض المحاولات العلمانية في ظل الصراع الإيديولوجي مع الفكر الإسلامي كانت تؤكد إمكانية قراءته “إيديولوجيا” قراءة معاصرة، كيف نتعامل مع القرآن الكريم؟ وهل تجدون أن هناك مشكلة في المنهج التفسيري؟ وهل علينا أن نطور منهجاً بالاستفادة من العلوم الغربية مثلاً باعتبار القرآن الكريم مركز المشروع الإسلامي؟
فعلاً القرآن الكريم سيبقى أساس المشروع النهضوي الإسلامي، بيد أن تفسيره واستنباط الأحكام منه يستدعي من كل المعنيين والمهتمين دراسة الوسائل المشروعة المستخدمة في الاستنباط والاستخراج والتفسير، من لغة عربية وسياقات قرآنية واصطلاحات إسلامية وأحاديث نبوية ذات صلة، وظروف حافّة زمنية ومكانية.

وإذا كان القرآن الكريم صالحاً لكل عصر كما هو معلوم في سجل مقولات الفكر الإسلامي فإنه يقتضي استنفاد وسائل كل عصر وتجييشها لعملية الاستنباط من القرآن الكريم، وها قد أفرز عصرنا اليوم ضوابط وقواعد للتعامل مع النص بشكل عام فلنسعَّ إلى امتلاكها لتكون من ضمن وسائلنا: الألسنيات والإناسيات وعلم الدلالة والمورفولوجيا، وسواها..

ماذا يعني لنا السلف في إطار مشروع النهضة؟

“السلف” في إطار مشروع النهضة هم أولئك الذين وعوا النصوص الأصلية لهذا الدين كما ينبغي، وجهدوا في البحث عن صحة الثبوت للنصوص غير القرآنية، كما اشتغلوا بأمانة العالم في الدلالات والأبعاد المعنوية، وتمسكوا بالتفكير ونتائجه وأعرضوا عن التبرير ووبالاته ، كان همهم العمل بما علموا، وليس بما اعتاد الناس.

“السلف” ـ أيها السائل الكريم ـ حالة علمية عملية واعية متثبتة صادقة شكلّت ـ في زمنها ـ تنزيلة صادقة لمصادر الإسلام الثابتة، فهي بالنصوص حركتها الصادقة الواعية، والنصوص بها أسّ ومركز لا غنى بها عنها.
* لا شك في أن لديكم رؤية للتغيير، نجدها في مؤلفاتكم، وفي إطار هذه الرؤية تركز كتاباتكم ومحاضراتكم على “إنسانية” الإسلام، نجد هذا على سبيل المثال في كتابكم “الإسلام والإنسان” و”الحوار من الإنسان إلى الإسلام” ما هو تفسير ذلك ؟
لا شك في أنني أدعو الإنسان كل الإنسان إلى حقيقة الإسلام، ومنطلق دعوتي هذا الإنسان إرادةٌ خيّرة صادقة له لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأما المنهاج الآتي بعد المنطلق فهو: النص الذي اشترط فيه شرطين لصلاحه وصلاحيته.

أما الشرط الأول فهو: التوصيف الدقيق الصادق للإنسان.
والثاني: التوظيف المناسب لهذا الإنسان، والإنسان إذ يرى وصفه بشكل صحيح يجدّ في استلهام مساره وطريقته من حيث رأي وصفه. وفي رأيي يجب تقديمُ القرآن على أنه كتاب الإنسان ونصه الذي لا ينفك عنه ولا يغادره، لأنه يمسه ويلامسه ويجليه ويحدّده.
وبعد المنهاج لابدّ من “غاية” ترتسم في نهاية المنهاج، والغاية شرطها قربها من الإنسان، وهي في القرآن عبادة الله الخالق صاحب الدينونة على العباد، ومن وراء الغاية يأتي الهدف الذي يرسمه الإسلام في الدنيا تمكيناً بعدل في الأرض، وفي الآخرة نجاحاً وفلاحاً وفوزاً.
بمعنى آخر: ملامح التغيير الذي أؤمن به تعني لدي:
إعادة الصياغة لهذا الدين وفق حاجات الإنسان وضروراته ومتطلباته، وهذا لا يكون إلا بدراسة الخطاب دراسة جادة ودراسة المخاطب كذلك، والمخاطب هو الإنسان، ومن ثَمّ الجرأة والاقتدار والمكنة على العرض بما يناسب الزمان والمكان الراهنين.

* هناك أيضاً تركيز على الغرب والدعوة الإسلامية فيه، ولديكم مثلاً: “رؤية أولية حول تفعيل دور الإسلامي في الغرب”. هل نملك فعلاً أن نؤدي دوراً فعالاً في الغرب ونحن نعيش الآن كل أنواع القهر والاستتباع والهيمنة الغربية الطاغية؟ أليس من الأجدى بنا أن نفكر كيف نفعّل دور الإسلام في بلاد المسلمين أنفسهم؟ وكيف نتعايش أولاً مع اختلافاتنا المذهبية والسياسية الحزبية؟
لا يتعارض ـ في رأيي ـ التفعيلان، ولعل بينهما جدلية بمعنى أن تفعيل الدور الإسلام في الغرب لا ينفي تفعيله في بلاد المسلمين، بل يمكن أن يقوي كل من التفعيلين الآخر إذا ما مورسا معاً.

والسياسة الخارجية لا يقال إنها أقل أهمية من السياسة الداخلية بل يجب القيام والتحضير لكلا السياستين، وكذلك الأمر بالنسبة للتفعيل.
فمن ملك قدرة مخاطبة الغرب من المسلمين فليخاطبه، ومن ملك قدرة مخاطبة المسلمين فليخاطبهم شريطة التكامل بين الخطابين، أو شريطة امتلاك رؤية عامة موحدة من قبل كلا الفريقين. وأعني بالغرب في هذا المجال الشعوب التي لا تزال تتقبل حواراً بل تطلب حديثاً تلبي من خلاله تطلعاتها وآمالها. وقد كانت لي تجربة خطاب مع الغرب إبان دراستي في فرنسا بين عام 1979-1984م حيث وجدت آذاناً صاغية لحديثي، وعيوناً صادقة التطلع إلى شرق إيماني ووجداني ولعل المجال لا يتسع لذكر الحوادث، لكنني نثرت كثيراًَ منها فيما كتبت من مقالات ونشرات وكتب…

* عندما نحاول مخاطبة الغربي بالإسلام وندعوه إليه وإلى الإيمان به باعتباره شرع الله الخاتم، ألن تستوقفه تلك الهوة بين ما ندعو إليه وبين واقع مجتمعاتنا الإسلامية؟
أجل ستستوقفه تلك الهوة وهذه الفجوة، ولعل تعليلنا الواعي للأسباب القابعة وراء هذه الهوة كفيل بردمها في منظور الغربي هذا، والتعليل الواعي يعني أموراً:
أولها: الاعتراف وعدم المكابرة.
وثانيها: التأكيد على أن مثل هذا المرض يصيب سائر المبادئ وأصحابها في فترات الانحطاط ، فالفجوة بين النظرية والتطبيق لابد أن تمر بها كل المبادئ والمذاهب، والإسلام واحد منها يصيبه ما يصيبها.
وثالثها: مصداقية التوصيف لهذه الفجوة، فلا نبالغ ولا نتغافل، لأنني أخشى من مبالغات تجعل الإسلام في واد والمسلمين في واد مغاير تماماً علماً أن الواقع لا يعني كل هذا ولا يفيد هاتيك المغايرة الكاملة.

ورابعها: إراءة الغربي الإسلام من خلال مصادره الأصيلة والأصلية، وإفهامه أننا حين ندعو إلى الإسلام ندعو إليه أنفسنا والآخرين، لأن العقل اقتنع به وما علينا جميعاً إلا إزالة العقبات من طريق التحويل إلى واقع ذي مصداقية متقاربة جداً مع الإسلام النظري.

في مهب “العولمة” أصبح مصيرنا مهدداً من خلال تعرض تراثنا وديننا لتهديد الغزو الثقافي الغربي، وللأمركة على وجه التحديد، وبالتالي أصبحنا في موقف دفاع وحماية، حتى العلمانيون أخذوا يدافعون عن التراث الإسلامي بصورة لا فتة للنظر، هل يمكن القول إن “الحوار” مع الغرب أصبح متعذراً في الظروف الجديدة؟ وكيف نقدّم له شيئا ًونحن مهددون في الثقافة والسياسة والاقتصاد؟

الحوار لن يكون متعذراً في ساعة من الساعات، ولكنه ربما أضحى صعباً وشاقاً، ولعل الخطوة الأولى التي إن خطوناها قاربنا الحوار وعززناه هي: السعي إلى حوار داخلي أي تثبيت هذا الخط الذي هو الحوار صلة واصلة بين المسلمين، واعتماده طريقاً ليس ثمة سواها تكتنف كل علاقات العرب والمسلمين فيما بينهم حتى إذا فعلنا هذا أقمنا سداً منيعاً يصعب اقتحامه من قبل الغربيين أو الأمريكيين لينفذوا منه ويؤلبوا بعضنا على بعض.
بمعنى آخر: فلنفرض الحوار بيننا ولنقمه، فإن فعلنا فقد فعلنا الحوار مع الجميع؛ وإلا فقد خرّبنا.

ثمة نقطة أخرى في هذا المجال وهي أن الشعوب الغربية ـ دون الحكومات والحركات ـ لا تزال تقبل الحوار منا معها، وهذا ما نلمسه عبر الجاليات الإسلامية والعربية المقيمة في ديار الغرب.
وفي النهاية فأنا مطالب نفسي وكل من يبتغي إعادة الحياة إلى الحوار أن يكون على مستواه علماً وثقافة وأخلاقاً ونبلاً وتحملاً وتمثلاً علمياً لمبادئ دينه الذي يحاور له من أجله، وعلينا أن نفهم أن الحوار لا يعني إلا الاجتهاد في إصابة الحق في كل أمر والسعي إلى تقديم هذا الحق المجتهد في الوصول إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والأساليب الإنسانية الواعية الواقية العالمة.

هل تقدم لنا التقنيات الجديدة شيئاً في ذلك؟
التقنيات الحديثة الجديدة وسيلة من وسائل الحوار العلمية فلنحسن استعمالها واستخدامها، وهي التي مهدت الطريق إلى حوارات لا يصيبها اللغط، وأعني بالوسائل:
ما أفرزه العصر الحديث من: “الانترنت” وكل المماثلات لها في عالم الحاسوب، وقد تبدّت بوادر هنا وهناك على رقعة هذه التقنيات بل ربما رأينا بعضاً من ثمارها، والانتفاضة الفلسطينية اليوم موضوع تجربة حوارية على شاشات “الإنترنت” بين مؤيديها ومعاديها، وقد تغيّرت كثيرمن وجهات النظر نتيجة الحوار على هذه الشبكة.

يفرّق بعضهم بين الغرب السياسي والغرب الثقافي والمعرفي، وفي حين يصف الغرب السياسي بالإجرام والعنصرية، يصف الغرب الثقافي والمعرفي بالفتوحات و التطورات المذهلة الإنسانية، وهو شأن معظم العلمانيين وبعض الإسلاميين الإصلاحيين، أما بعضهم الآخر فيطابق بين الغرب السياسي والغرب الثقافي والمعرفي بحيث إن ما يحدث الآن في القدس وفلسطين بمساعدة الغرب وانحيازه للصهيونية، لا ينفصل عن منظومته الفكرية، فلابد أن يكون هناك انسجام بينهما، وهو موقف معظم الإسلاميين، كيف تنظرون إلى هذه القضية، باعتبارنا لا يمكن أن نتجاهل الغرب؟
أنا أفرق بين الغرب السياسي والغرب الاجتماعي، لأن للغرب السياسي ثقافته ومعرفته، وللغرب الاجتماعي الشعبي ثقافته ومعرفته، وقد قلت في أثناء الإجابات السابقة إننا معنيون الآن بمخاطبة الغرب الاجتماعي أو الشعوب الغربية لأنها ربما كانت في بعض الأحيان إحدى ضحايا الغرب السياسي المستعدي من خلال وسائله الإعلامية وثقافته التي تنطبق عليها سمة التبرير.
وليس ثمة منظومة فكرية غربية عامة تحكم السياسي أو الحاكم أو الاجتماعي أي الشعب على خلاف بلاد الإسلام بشكل عام فهناك منظومة فكرية عامة تحكمها هي الإسلام.
والمنظومة الفكرية الغربية هي منظومة مصلحة أو مرجعية المصلحة، وليس بالضرورة على الإطلاق أن تكون مصلحة السياسي هي ذاتها مصلحة الشعب بل كثيراً ما نرى تظاهرات تعلنها الشعوب الغربية ضد حكوماتها بسبب اختلاف المصلحة، وما تلك التي حدثت في أمريكا حين عقدت منظمة التجارة العالمية عنا ببعيدة وسواها وسواها.

بعد انقضاء الصراع الإيديولوجي مع المنظومات الفكرية المتغرّبة كيف ترون مستقبل تطورات الفكر الإسلامي؟
بعد انقضاء الصراع “المؤدلج” مع المنظومات الفكرية العربية المتغربة لصالح الفكر الإسلامي الحر، فإني أرى أن الفكر الإسلامي ونجاحه على مستوى عالمي مرهون بما وصفته به وهو “الحرية”، والحرية تعني قدرة “الحوار”، وقوة في ميدان رسم ملامح صيغة تعايشية للعالم كله الذي غدا قرية صغيرة كما يقال، وعلى الفكر الإسلامي أن يحل مشكلاته الداخلية بصمت، “فالسنة والشيعة” وقضية التخالف والاختلاف بل والنزاع يجب أن تزول، و”الصوفية والسلفية” وأمر الصراع القائم بينهما يجب أن ينتهي لصالح الوحدةو التآلف والأمة الواحدة المتماسكة.
كما أن فهم مستجدات العلوم الوسائلية أمر في غاية الأهمية من أجل مستقبل حضاري للفكر الإسلامي، وإضافة إلى هذا: فالتنقية والتعرية لهذا الفكر الإسلامي حاجتان ملحتان، وأعني بها تخليص الدين الإسلامي من شوائب العادات الاجتماعية، وخبائث الجنايات السياسية التي قدمها الحكام الظلمة على هذا الدين وألحقوها به زوراً وبهتاناً وعدواناً.
وإلا ـ أي إن لم يكن هذا الذي ذكرت ـ فالفكر الإسلامي سيتطور نحو الأسوأ ـ والعياذ بالله ـ وسيعلن بحالِه حالة الطوارئ لقيام الساعة التي أبت إلا أن تقوم على لكع بن لكع.

من الملاحظ أن النخب الإسلامية وغير الإسلامية كانت تنظر إلى الجمهور وكأنها وصية عليه وبقيت الأمة طيلة القرن الماضي وحتى الذي قبله معزولة لا دور لها في التغيير، سوى دور الأداة أو حقل التجارب، فلم يكتب عن مفهوم الأمة ودورها وكيفية قيامها بهذا الدور خلال قرن كامل ما يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، لعل من بينها كتابًا لمحمد المبارك، وآخر للدكتور ماجد عرسان الكيلاني، كيف ترون إمكان إعادة أو استعادة الأمة لهذا الحق أو الدور ؟
أظن أنه كتب أكثر مما ذكرتَ عن الأمة وتحدث المهتمون عنها أوفر مما قررت، لكنني أتفق معك على أن الذي كتب قليل في حق كيان هو الأهم في حياة المسلمين، وأنا إذ أقول هذا أشير إلى عدد من خطب الجمعة، خصصتها للحديث عن الأمة الإسلامية، كما أنني وجهت عدداً من طلاب الدراسات العليا لتكون أبحاثهم حول هذا “الكيان” المطلوب.
“الأمة” في مقابل الفرد، وكما أن الفرد كلٌّ ليس فيه بعض مهمل وآخر يعتني به على حساب المهمل، فكذلك الأمة هي كلٌّ من الأفراد له دوره المهم فالمسلمون ذمة واحدة يجير عليهم أدناهم، كما ورد عن سيد الأمة والأمم محمد صلى الله عليه وسلم .

الأمة حالة منشودة للمسلم فهي صيغته الجماعية وهو اختزالها الفردي، والعالّم اليوم لا يقبل بواحد دون الآخر وإنما الذي يبتغيه الكيانان معاً.
ومقومات هذه الحالة المنشودة: مبدأ ناظم ولغة حاكمة سائدة تشكل أساس الخطاب والتخاطب، وتاريخ مشترك، ومستقبل واضح السمات والصفات مطلوب لها كلها.

والنخب إن استعلت على الأمة سقطت، فهي كمن يستعلي على نفسه، والنخبة في رأيي هي التي تشكل بالنسبة للأمة قاعدة الهرم فعليها يقوم رأسه الظاهر والرأس الظاهر هو الإعلام والمظاهر والحالة العامة العامة المتبدية لهذه الأمة.

وفي النهاية أشكرك أيها الأستاذ الباحث ودمت موفقاً ودامت تلك الشبكة التي وصلت بيننا في هذا الحديث، صلة طيبة بين كل الغيورين على الإنسان وما ينفعه.

Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *