فبحث الفرد آنذاك عن البديل، وكلما قل المتاح زاد البحث عن البديل، وبدأ القلق وتحتم توفير الماء بأي ثمن ومن خلال أية وسيلة، ذلك أمر مفروغ منه، لأن في توفيره حياة، وفي انقطاعه موت، وارتفاع الطلب ينشط التجار فيحاولون سد العجز، وقد تكون بداية التفكير في استعمال المياه المعبأة من هنا حتى رأينا المياه المعبأة تستورد إلى السعودية في طلائع التسعينيات الهجرية أوائل السبعينيات الميلادية،
ولعل أول ما استورد كان مياهاً لبنانية تسمى “صحة” وربما عزى اسم المياه الصحية إليها، ثم بعد ما يسمى بالطفرة صارت تستورد من عدة أماكن، وأُقيم أول مصنع سعودي في مكَّة المكرَّمة في منتصف التسعينيات، ثم ارتفع عدد المصانع ليبلغ 15 مصنعاً في عام 1994م ثم قفز العدد إلى 41 مصنعاً في عام 1999م بطاقة إنتاجية تقارب 35 مليون لتر في السنة. ثم ارتفع المنتج بشكل كبير جداً في السنوات الخمس الماضية حتى بلغت القدرة الإنتاجية قرابة خمسة مليارات لتر، وتراوح الإنتاج بين 2.5 ـ 3 مليار لتر ينتجها أكثر من 75 مصنعاً في المملكة. تلك هي المصانع التي تنتج القوارير المعبأة، أما بالنسبة للمحلات التجارية التي تشبه الحوانيت (الدكاكين)، فقد انتشرت انتشاراً كبيراً في مدن المملكة حتى غدت هذه الصناعة تجارة رائجة، وزاد عددها على 300 محل في مدينة جدة فقط. ويجدر التنويه إلى أن نصيب مدينة جدة من الإنتاج الكلي للمياه المعبأة بالمملكة يبلغ 55%، كما أن أكثر من نصف الإنتاج يستهلك في أشهر الصيـف، ومن اللافت للنظر أن إنتاج جمهورية مصر العربية يعادل 29% من إنتاج المملكة العربية السعودية، رغم أن عدد ســــــكانها يقارب ثلاثة أضعاف سكان المملكة.
استعمال المياه المعبأة
هناك عدة عوامل أدت إلى انتشار استعمال المياه المعبأة في مدن المملكة لعل من أهمها الاعتقاد السائد بين الكثير من المواطنين والضيوف العاملين في هذا البلد الكريم بأن مياه الشبكة العامة التي تصل المنازل والمؤسسات بها تلوث، وأنها لا تصلح للشرب هذا في الوقت الذي تعد فيه المياه المنتجة من محطات وزارة المياه والكهرباء في المملكة مياهاً فائقة الجودة وأنها مطابقة للمواصفات العالمية لمياه الشرب بل قد تفوق هذه المواصفات، لكن المشكلة تكمن في بناء خزانات المياه الأرضية قريباً من البيارات (حفر الامتصاص التي تصرف إليها المخلفات المنزلية السائلة) مما يعرضها للتلوث، كما أن عدم تنظيف وتطهير هذه الخزانات الأرضية والعلوية بشكل دوري يزيد من ذلك الاعتقاد، وكذلك حرارة الصيف الشديدة، حيث تصل درجات الحرارة في المملكة في الصيف إلى 50 درجة مئوية وقد تزيد، مما يتسبب في فقد الجسم لكثير من المياه، وحاجته إلى تعويض الماء المفقود، ومن الأسباب أيضاً موسما الحج ورمضان، فالحاج والمعتمر والزائر، منذ أن يغادر منزله إلى أن يرجع إليه يستسهل المياه المعبأة، خاصـــة وأن ســـــــعرها – ولو نسبياً- في متناول الكثير من الحجاج والمعتمرين خاصة الموسرين منهم، كما أن لأيام عرفة ومزدلفة ومنى وضعاً خاصاً في استعمال كميات كبيرة من المياه المعبأة، خاصة إذا صادف موسم الحج أحد أشهر الصيف، ومن الأسباب كذلك القدرة المالية على شراء المنتج، حيث أصبح ولله الحمد بمقدور الكثير من المواطنين والمقيمين والمعتمرين، وربما الحجاج ولو بدرجة أقل شراء هذه المياه المعبأة، ومن أسباب انتشار استعمال المياه المعبأة رخص المنتـج النسبي، لانخفاض سعر المياه المثلجة (ريال سعودي واحد)
نظرة مستقبلية للصناعة
يرتبط استعمال المياه المعبأة بعدة عوامل، لعل من أهمها عدد سكان المملكة، ومعـدل النمو، ونسبة السكان التي تستخدم المياه المعبأة، ومعدل استخدام الفرد، وعـدد الحجاج والمعتمرين، يبلغ سكان المملكة العربية السعودية حسب التعداد السكاني الأخير (ستة وعشرين مليون نسمة)، نسبة سكان الحضر منهم (سكان المدن) قرابة 70%، واختلفت تقديرات معدل نمو سكان المدن بين 3 ـ 7%، ولو أخذنا بمتوسط ذلك (5%) وحسبنا عدد سكان المدن لوجدنا أنهم سيبلغون الضعف في غضون 14 سنة، فبافتراض أن متوسط استعمال الفرد من مياه القوارير، وأن نسبة مستخدمي المياه المعبأة سيظلان ثابتين فإن الطلب على المياه من سكان المملكة سيتضاعف في غضون الفترة ذاتها.
كذلك بينت دراسة (للكاتب) أن عدد الحجاج سيصل في غضون نفس الفترة السابقة إلى 3.680.000 حاج، وبنفس فرضية ثبات معدل استعمال الحاج من المياه المعبأة فإن ما يستخدمه الحجاج سيقفز إلى ضعف ما يستخدم اليوم، وتخطط المملكة لتفسح الطريق أمام المعتمرين من خارج المملكة ليصبحوا قرابة 10 مليون معتمر أي أربعة أضعاف عددهم اليوم، وبنفس الفرضية في ثبوت كمية استعمال المياه المعبأة فإن الطلب على هذه النوعية من المياه من قبل المعتمرين سيبلغ أربعة أضعاف ما يستعمل الآن، وربما تزيد هذه التقديرات أو تقل قليلاً عن حساب الفقرة السابقة، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن تعداد السكان ونسبة من يستعملون المياه المعبأة وأعداد الحجاج والمعتمرين ستزداد في السنوات المقبلة، وحيث إن تقدير هذه القيم تقديراً دقيقاً مفصلاً خارج عن نطاق هـــدف هذه المقـــالة، فالغرض أصلا أن نبين الدلالات المشيرة إلى الازدياد الكبير المحتمل في استعمال المياه المعبأة.
مواصفات مياه الشرب
لمياه الشرب مواصفات وضعها علماء متخصصون في حقول مختلفة لحماية الفرد من أية آثار سلبية صحية، فمثلاً هناك مواصفات منظمة الصحة العالمية للشرب، وهناك مواصفات وزارة المياه، وبعبارة أخرى فإنه عند عدم تطابق مواصفات المياه المعبأة لمواصفات مياه الشرب القياسية، فإن استعمال هذه المياه قد يسبب أضراراً صحية، لذا وجب التأكد من مطابقة مواصفات مياه القوارير المعبأة لمواصفات مياه الشـرب المحليـة والعالمية، لأن هناك شروطاً يجب أن تتبع، ومواصفات قياسية يجب أن تتحقق، ابتداء من اختيار مصدر المياه والنقل والتعبئة ومواد الأوعية والتخزين والتوزيع، كل هذه الخطوات تحتاج إلى تقانة ومنهجية واضحة حتى نضمن سلامة هذه المياه، ونسمح باستعمالها للشرب، إن صناعة المياه المعبأة في المملكة تفتقر بصفة عامه ـ للأسف – إلى الدقة والمعرفة والمنهجية في جميع مراحلها، فينبغي أن نبدأ البحث في مصدر المياه ويتم ذلك وفق تحديد قيم ومعايير فيزيائية وكيميائية وبكترولوجية، يمكن من خلال معرفتها تحديد صلاحية أو عدم صلاحية المصدر، وإن ثبتت صلاحيته فيجب تحديد ما إن كانت هناك حاجـة إلى تنقيته أم لا؟ وإن كانت هناك حاجة للتنقية، فما درجة التنقية اللازمة حتى تكون مواصفات المنتج مطابقة لمواصفات مياه الشرب المحلية أو العالمية؟ حيث يجب تحديد معرفة الهدف من التنقية، هل هي لإزالة البورن مثلا؟، ما كفاءة المعدات والأجهزة التي تحقق الهدف الذي ينقى الماء من أجله؟، وما كفاءة العمالة التي تدير ذلك المصنع؟، ثم تأتي مرحلة نقل المياه من مصدرها إلى المصنع حيث يجب أن يتم النقل في صهاريج نظيفة ملائمة ومخصصة لذلك، وما مواد الأوعية من جوالين وقوارير وما مدى ملاءمتها للأجواء الحارة في المملكة؟، ثم يأتي دور النقل من المصدر إلى المصنع وإلى أماكن الاستعمال، وتخزين المنتج في أجواء من المفروض أنها لا تؤثر على نوعية المياه، ولعل آخر مراحله مرحلة توزيع المياه، والمشكلة واضحة في جميع مراحل صناعة المياه المعبأة، فالمصادر غير معروفة وغير مدروسة في الغالب والعمالة الفنية التي تدير الأجهزة ليست على كفاءة عالية، كما أن توزيع المياه التي يطلق عليها المياه الصحية يتم من خلال صهاريج (الوايتات) تلج الأحياء وتملأ الجوالين بطرق بدائية جداً تفتقر إلى أبسط قواعد الصحة العامـة، من ناحية نظافة الجوالين والصهاريج والعمال وطريقة ملء الجالون من الصهريج إلى الجالون.
استاذ دكتور :عمر سراج ابو رزيزة
المصدر: مجلة المياه
Source: Annajah.net