المؤرخ العربي ابن خلدون ربط الحروب بمبدأ العصبية ثم بصراع العصبيات وصولاً إلى أطوار الملك. أما توازن القوى فلا يخرج عن إطار سياسة تهدف إلى الحيلولة دون الإخلال بالوضع الدولي الراهن وهي تقوم على أساس مساندة الدولة الثانية من حيث القوة العسكرية ضد الدولة الأولى إذا سمحت هذه الدولة الأخيرة لنفسها بمحاولة الإخلال بالتوازن القائم والوضع الراهن.
ويجيء كتاب (الحروب وتوازن القوى) للكاتب العربي الليبي الدكتور إبراهيم أبو خزام ليقدم دراسة شاملة لنظرية القوى وعلاقتها الجدلية بالحرب والسلام ومنذ البداية يشير الباحث إلى أن كتابه هذا يعد امتداداً لكتاب له صادر تحت عنوان (العرب وتوازن القوى في القرن الحادي والعشرين).
ولا يمكن أن نرجع الحروب إلى الوعي الديمقراطي بل إلى طراز معين يتخذ من هذا المفهوم البراق سبيلاً لشن الحروب فالديمقراطية معاناة الشرق الوسط وهي التي تفخر المذابح في إفريقيا وهي التي حرضت على حروب البلقان وصنعت مجازر الناس والتصفيات العرقية في كل مكان وهي التي ستقود عالم الغد إذا انعقد لها اللواء نحو المجاهل المظلمة كما يوضح تشومسكي جرائم هذه الديمقراطية في كتابيه (قراصنة وأباطرة) و (وردع الديمقراطية) والتي يرجع إليها د. أبو خزام أن الخطأ لا يكمن في الديمقراطية كأسلوب لحياة عادلة آمنة مستقرة بل في كيفية اتخاذ هذه الأسلوب أو الفكرة الدالة والعميقة واستخدامها استخدامات سلبية شأنها شأن من يتخذ من (الاشتراكية) أو (الدين الحنيف) أو (الحرية) أو سواها من الأفكار النيرة ويكشف الباحث حقيقة الجرائم التي ارتكبها دعاة زائفون لديمقراطية مزعومة فترومان وليس هتلر هو من أمر بالقصف الذري وريغان وليس بريجينيف هو من أمر ببرنامج حرب النجوم ونقل الحروب إلى السماء بعد أن ضاقت به الأرض على ما اتسعت.
وفي الحاضر نجد (فوكوياما) يرى أن التاريخ قد توقف عند النموذج الديمقراطي العربي بوصفه تعميم سيؤدي إلى عالم أكثر استقراراً لكن فوكاياما كما يشير د. أبو خزام يشير إلى أن : “الحرب ليست دائماً جهاد من أجل قضية عادلة فالسلام والرخاء أيضاً يولدان الملل” فهل نعد الحرب سبيلاً يخرج أصحابه من حالة الملل وينقلهم إلى عالم الفرج والانشراح والبهجة والتسلية؟! إن فوكوياما يعتقد بغريزة الصراع الكامنة في أعماق الفرد وأن الناس قد يجاهدون ضد القضية العادلة، ومن هنا يتفق فوكوياما مع نظرية (هانتغتون) القاضية بصراع الحضارات وليس الحوار والتطور من خلالها كما يعمم هذا الصراع اللاإنساني حتى في مجالات السلم والعدل والقيم النبيلة!
وهذا يعني أننا كنا وسنبقى في عالم غير مستقر يبحث عن شتى السبل من أجل شن الحروب وتطوير الأسلحة حتى تسهم بقتل أكبر عدد ممكن من البشر ومع أن الباحث يقف إلى جانب (الفن توفلر) الذي يشير إلى أهمية المعرفة في تحقيق السلام كما أن الحروب اعتمدت على المعرفة إلا أنه لا يفيد بكيفية ترجيح كفة المعرفة السلمية على المعرفة الحربية وإمكانية أن تصب الأفكار في تحسين حياة البشر وعيشهم بسلام بل هو يجد في الحروب الحديثة ما يسميه بحروب الرفاهية فقد تمت من قبل دول هي الأوفر حظاً في درجات التقدم الاقتصادي وعلى العكس فإن موضوع هذه الحروب كأن الشعوب الفقيرة التي بدأت بالكاد تتلمس طريقها نحو النمو ويضيف د. أبو خزام قائلاً شاع في أدب الغرب وفكره السياسي تمجيد الحرب فمجد (رودكيبلنغ) الاستعمار والحروب وأثنى (هيجل) على الحرب التي بدونها يصبح الإنسان لين العريكة مستغرقاً في ذاته وسيتدهور المجتمع فيصبح مستدفعاً لإشباع الملذات الأنانية وتنحل الجماعة نتيجة ذلك فعلى الدولة أن تفرض الخدمة العسكرية وأن تستمر في خوض الحروب.
وليس بوسعنا أن نطلق على قصص (كيبلنغ) (1865_1936) الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1907 كونها تمجد ذلك أن قصصه المترجمة إلى العربية بعنوان (حرب أصحاب) (4) لا تحمل مثل هذا التوجه بل هو على العكس من ذلك تدين الحروب كذلك نجد في الكتب الجمالية والنظرية المثالية التي دعا إليها (هيجل) مناهضة للحروب ونعتقد أن القوى السياسية هي الأكثر ميلاً نحو الحروب بهدف توسيع قاعدة نفوذها وبسطه على شكل إمبراطوريات وعلى وفق شعارات زاهية كما تظهر راهناً باسم نشر (الديمقراطية) و(العولمة) في وقت نجدها قمعية وأحادية وداعية إلى صهر البشرية تحت لواء دولة أمريكية امتلكت قوتها من دول أخرى عمدت على تفتيتها وشن الحروب عليها!
وإذا كانت حالة التوازن تعني “الحالة المعتادة المستقرة كما يشير الباحث، إلا أن هذه الحالة ليست دائمة إلى أمد زمني طويل وإنما ترتبط بمرحلة مشروطة بالمصالح التي قد تطول أو تقصر وقد تتحول إلى خصومات وحروب إذا ما تعرضت مصلحة احد الطرفين للخطر أو الابتزاز من الطرف الأخر أو الأطراف الأخرى.
وينقل الباحث رأي عدد من المفكرين لم يحددهم من أن توازن القوى غالباً ما يكون مدعاة لعدم الاستقرار ونشوب الحروب وقد استنتج هؤلاء أن الفترات التي نعمت فيها أوربا بالهدوء والاستقرار هي فترات الهيمنة لبعض القوى الأوروبية أما الفترات التي شهدت توازن القوى فقد اتسمت بعدم الاستقرار وكثرة الحروب. والهيمنة بمعنى القوى لا يمكن أن نعدها استقرار حقيقياً لأن مثل هذا الاستقرار خاضع لعامل التهديد وليس لمنطق السلام بدليل أن معظم الدول الأوروبية التي قامت استعمارية فقد واجهت العديد من الثورات وعمليات العنف الرافضة لتلك الهيمنة. وليس بوسعنا تعريف توازن القوى على أنه نظام العلاقات الدولية المبني على أساس فرضية أن حفظ السلام يشترط عدم رجحان أو تحالف دولي على كفة الدول أو التحالفات الأخرى المقابلة. إننا ننظر إلى العلاقات الدولية بوصفها علاقات دبلوماسية بينما توازن القوى يمثل تماثلاً في القوى العسكرية أو الاقتصادية وأحيانا الأيديولوجية وقد تكون جميع هذه القوى مجتمعة.
أما ما أطلق عليه مصطلح (النظام العالمي الجديد) والذي ظهر بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج فهو كما يؤكد الباحث تبرير سياسات بعينها ولا يعكس من الناحية العلمية وجود نظام دولي بالمعنى المعروف لكن هذا الاستخدام يخدم مصلحة الدولية فهو محاولة للإيحاء بأن هذه الهيمنة من شرعية دولية أرساها هذا النظام الدولي والواقع أنه لا يشكل مثل هذا النظام رؤية دولية شاملة بل هو منظور دولة واحدة تفرض دعوتها بحكم ما تمتلكه من قوة وسلطة وهيمنة، وفي تحليله غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان عام 1979 يعتمد وجهة نظر الغرب القائلة إن هذا الغزو كان جزءاً من إستراتيجية توسعية، في ما يرى الباحث في هامشه أن الاتحاد السوفييتي غزا أفغانستان بدافع الخوف وليس بدافع الطمع فقد خشي الاتحاد السوفييتي قيام جمهورية إسلامية أخرى موالية لأمريكا معتمداً في هذا التحليل على د. بشرى القيسي وموسى مخول الوارد في كتابهما: (الحروب والأزمات الإقليمية في القرن العشرين). في حين تكشف الوقائع على أن أفغانستان كانت خاضعة أصلاً للنفوذ السوفييتي وقد عمدت أمريكا على تشجيع المتطرفين للتمرد على هذا النفوذ سواء بتقديم السلاح إليهم أو بدعاوي فكرية زائفة وقد خسرت أفغانستان في ولائها المتناقض ووجدت نفسها ضحية للسوفيت كما لأمريكا ولم تجد طريقها المستقل حتى الآن!
ويرى الباحث في كتاب (السياسة بين الأمم) للعالم والسياسي الألماني الأصل الأمريكي الجنسية (هانز. جي مورجنتاو) أفضل من كتب عن التوازن الدولي وذلك في ضوء تحليل للحربين العالميتين الأولى والثانية واللتين أرجعهما إلى توازن القوى الذي سبقهما نظراً لافتقار هذه التوازنات إلى اليقين والواقعية والكفاية المذهبية فلو توفر لهذه التوازنات العناصر المشار إليها لما اندلعت الحروب. وهو ما ذهبنا إليه من قبل إلى أن توازن القوى مرحلي، ومصلحي يمكن أن ينحل ويذوب عند غياب المصالح أو انتهاء مرحلتها. إلا أننا في هذه الرؤية لا تتفق مع ما ذهب إليه (زيغينيو برجنسكي) في كتابه (أوهام توازن القوى) والذي يدعو فيه إلى الهيمنة طريقاً للاستقرار ذلك إن الهيمنة كما أسلفنا وليدة القوة والقمع وهما موقفان مرفوضان من قبل كل الشعوب التي تبحث عن طريقها الحر المستقل. وقد عمدت السياسة الأمريكية على دفع السوفييت إلى ملاحقتها في تطوير الأسلحة الأمر الذي شغل السوفييت بإنتاج السلاح وانهيار اقتصاديات البلاد وبالتالي تفكك الجمهوريات السوفييتية وانهيارها فضلاً عن أحادية الايديلوجيا التي حكم على وفقها السوفيت.
من هنا نجد أن سياسة الهيمنة والقوة ليست سبيلاً للاستقرار وأن تم لأمد زمني إلا أنه محدود ومن شأن الجمرة أن تشتعل في أية لحظة وإن كان الرماد قد علا سطحها.
ويؤكد د. أبو خزام إن خطيئة نابليون جاءت من محاولته فرض أفكار الثورة بالقوة وعوضاً عن غزو العقول فقد اختار غزو الشعوب والأوطان ليحطم مبادئ الثورة بسنابك خيله نفسها ونحن لا نعد التأثير وإقناع العقل على وفق المعرفة والوعي والمنطق على أنه (غزو) أو حتى (غسل الدماغ) بل هو إرادة الفكر وهي إرادة تفرض وجودها سلمياً.
وإذا كان قد ظهر إلى الوجود مبدأ يهدف إلى منع انتشار الأسلحة النووية ليدل في مظهره على هدف أخلاقي إلا أنه غير ذلك في مضمونه فهو مبدأ يهدف إلى احتفاظ الدول بتفوقها ومنع الآخرين من مزايا الحصول على هذا السلاح ومثل هذه المبدأ قائم على القوة ولكنها قوة خفية خداعة تريد بسط نفوذ دولة أو بضع دول محدودة متفوقة في سلاحها وليس من حق دول أخرى السير بموازاتها.
من هنا حاصرت أمريكا كوبا اقتصادياً وكانت دعوتها للديمقراطية زائفة عندما وقفت ضد حكومة الزعيم التشيلي المنتخب سلفادور اللندي وعمدت إلى إسقاطه عام 1974 بدعم وتمويل الجنرال بينوشت وهو دكتاتور فاشي لأن ذلك يلاءم مصلحتها وبررت إطاحتها باللندي بالقول أن الانتخابات أنتجت حكومة ليست مسؤولة دون أن تحدد طبيعة هذه المسؤولية وما علاقتها بهذه المسؤولية أصلاً.
ويكشف المؤلف عن طبيعة سياسة المكافأة والإغراء التي تتخذ من فكرة (مارشال) مشروع عمل للولايات المتحدة الأمريكية وتقديمها (المساعدات) للدول التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منهارة اقتصادياً وعمدت إلى ابتكار مؤسسات وآليات جديدة لجعل هذه السياسة غير مكلفة لها ولا يقع عبء تنفيذها على اقتصادها الوطني فقد استحدثت المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي وجعلتها أداتين دوليتين مغالتين لتنفيذ هذه السياسة محققة بذلك مزايا مالية وسياسية مهمة فضلاً عن عدم تحمل الأعباء فأنها بذلك لا تظهر بصورة مباشرة كدولة ساعية للحماية وبسط النفوذ وهي بذلك ترفع الحرج عن الكثير من النظم إزاء شعوبها ومثل هذه الحقيقة في السياسة الأمريكية كان لابدّ من توضيحها وجعلها أمام بصيرة من يجهلونها بوصفها سياسة هيمنة واحتواء.
وهكذا تنجز إستراتيجية ما يسمى (حافظ الميزان) اعتماداً على قول رئيس وزراء بريطانيا الراحل (ونستون تشرشل) أنه ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون ولكن لها مصالح دائمة. وقد اتخذت أمريكا وغيرها من الدول الاستعمارية هذه السياسة في تعاملها مع دول العالم. ويخلص د. إبراهيم أو خزام إلى أن الصدام الحضاري بين الغرب والآخرين محتوم وهو الصدام الذي سيخيم على القرن الواحد والعشرين ومبعث هذا الصراع هو الشعور بالتفوق الساحق من قبل الغرب وعدم استسلام الآخرين لما يعتقدون أنه حضارة فاسدة. وهذا الرأي يقود د. أبو خزام إلى أن (صمويل هانتنغتون) قد كشف المستور في الوجدان الغربي عبر كتابه (صدام / صراع الحضارات).
والواقع أن ما ذكره هانتنغتون ما هو إلا حقيقة مكشوفة إلى اكتساب الغرب من حضارات الشعوب في كل مراحل التاريخ ثم الدخول معها في صراع يتعلق بالمصالح والإخلال بموازين القوى الدولية لصالح قوة دولية أحادية الجانب ومن هنا كان الاستقرار والسلام الغربي يدفع ثمنه الآخرون دائماً فسلام المائة عام الذي به أوروبا وازدهرت كان قرن الشقاء في العالم الثالث ذلك أن حضارة الغرب ليست معنية إلا بشعوبها ومخطط قادتها هو تصدير التوترات نحو الأطراف خارج العالم الغربي. إن كتاب (الحروب وتوازن القوى) للدكتور إبراهيم أبو خزام كتاب عميق مثير للجدل ينبه إلى عقلية تدرس الفكر السياسي على وفق رؤية موضوعية جديرة بالانتباه والاحترام أو إقامة الحوار المتأني معها وصولاً إلى عقول عربية نيرة.