قال الأحنف بن قيس: ألا أخبركم بأدوأ الداء؟ قالوا بلى. قال الخلق الدني واللسان البذي. وقال بعض الحكماء: من ساء خلقه ضاق رزقه. وعلة هذا القول ظاهرة.
وقال بعض البلغاء: الحسن الخلق من نفسه في راحة، والناس منه في سلامة،والسيئ الخلق الناس منه في بلاء، وهو من نفسه في عناء.
وقال بعض الحكماء: عاشر أهلك بأحسن أخلاقك فإن الثواء فيهم قليل.
فإذا حسنت أخلاق الإنسان كثر مصافوه، وقل معادوه، فتسهلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب.
وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال «حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» أخرجه أحمد . وقال بعض الحكماء: من سعة الأخلاق كنوز الأرزاق. وسبب ذلك ما ذكرنا من كثرة الأصفياء المسعدين، وقلة الأعداء المجحفين، ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون»رواه الطبراني في الأوسط .
وحسن الخلق أن يكون سهل العريكة، ليِّن الجانب، طليق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة. وقد بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الأوصاف فقال: «أهل الجنة كل هين لين سهل ..» . ولِما ذكرنا من هذه الأوصاف حدود مقدرة ومواضع مستحقة، ما قال الشاعر:
أصفو وأكدر أحيانا لمختبري … وليس مستحسنا صفو بلا كدر
وليس يريد بالكدر الذي هو البذاء وشراسة الخلق، فإن ذلك ذم لا يستحسن وعيب لا يرتضي. وإنما يريد الكف والانقباض في موضع يلام فيه المساعد ويذم فيه الموافق، فإذا كانت لمحاسن الأخلاق حدود مقدرة ومواضع مستحقة فإن تجاوز بها الحد صارت ملقا وإن عدل بها عن مواضعها صارت نفاقا. والملق ذل، والنفاق لؤم، وليس لمن وسم بهما ود مبرور ولا أثر مشكور.
وقد روى حكيم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه»رواه البخاري .
وقال سعيد بن عروة: لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجز المخبر أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين وذا قولين مختلفين.
وقال الشاعر:
خل النفاق لأهله … وعليك فالتمس الطريقا
وارغب بنفسك أن ترى … إلا عدوا أو صديقا
وقال إبراهيم بن محمد:
وكم من صديق وده بلسانه … خؤون بظهر الغيب لا يتذمم
يضاحكني عجبا إذا ما لقيته … ويصدفني منه إذا غبت أسهم
كذلك ذو الوجهين يرضيك شاهدا … وفي غيبه إن غاب صاب وعلقم
أسباب تغير الخلق
وربما تغير حسن الخلق والوطاء إلى الشراسة والبذاء لأسباب عارضة، وأمور طارئة، تجعل اللين خشونة والوطاء غلظة والطلاقة عبوسا.
فمن أسباب ذلك:
– الولاية التي تحدث في الأخلاق تغيرا، وعلى الخلطاء تنكرا، إما من لؤم طبع، وإما من ضيق صدر. وقد قيل: من تاه في ولايته ذل في عزله. وقيل: ذل العزل يضحك من تيه الولاية.
– ومنها: العزل فقد يسوء به الخلق ويضيق به الصدر إما لشدة أسف أو لقلة صبر.
– ومنها: الغنى فقد تتغير به أخلاق اللئيم بطرا، وتسوء طرائقه أشرا. وقد قيل: من نال استطال.
وأنشد الرياشي:
غضبان يعلم أن المال ساق له … ما لم يسقه له دين ولا خلق
فمن يكن عن كرام الناس يسألني … فأكرم الناس من كانت له ورق
وقال بعض الشعراء:
فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة … فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر
لقد كشف الإثراء منك خلائقا … من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
وبحسب ما أفسده الغنى كذلك يصلحه الفقر، وكتب قتيبة بن مسلم إلى الحجاج أن أهل الشام قد التاثوا عليه فكتب إليه أن اقطع عنهم الأرزاق، ففعل فساءت حالهم فاجتمعوا إليه فقالوا: أقلنا. فكتب إلى الحجاج فيهم فكتب إليه: إن كنت آنست منهم رشدا فأجر عليهم ما كنت تجري. واعلم أن الفقر جند الله الأكبر يذل به كل جبار عنيد يتكبر.
– ومنها الفقر، قد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال -: «كاد الفقر أن يكون كفرا، وكاد الحسد أن يغلب القدر» . (ضعفه الألباني).
وقال أبو تمام الطائي:
وَأَعْجَبُ حَالَاتِ ابْنِ آدَمَ خَلْقُهُ … يَضِلُّ إذَا فَكَّرْتَ فِي كُنْهِهِ الْفِكْرُ
فَيَفْرَحُ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ بَقَاؤُهُ … وَيَجْزَعُ مِمَّا صَارَ وَهُوَ لَهُ ذُخْرُ
وَرُبَّمَا تَسَلَّى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْأَمَانِي، وَإِنْ قَلَّ صِدْقُهَا
فقد قيل: قلما تصدق الأمنية ولكن قد يعتاض بها سلوة من هم أو مسرة برجاء. وقد قال أبو العتاهية:
حَرِّكْ مُنَاك إذَا اغْتَمَمْت … فَإِنَّهُنَّ مَرَاوِحُ
وقال آخر:
إذَا تَمَنَّيْت بِتَّ اللَّيْلَ مُغْتَبِطًا … إنَّ الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ
– ومنها الهموم التي تذهل اللب، وتشغل القلب، فلا تتبع الاحتمال ولا تقوى على صبر. وقد قيل: الهم كالسم. وقال بعض الأدباء: الحزن كالداء المخزون في فؤاد المحزون.
وقال بعض الشعراء:
هُمُومُك بِالْعَيْشِ مَقْرُونَةٌ … فَمَا تَقْطَعُ الْعَيْشَ إلَّا بِهِمْ
إذَا تَمَّ أَمْرٌ بَدَا نَقْصُهُ … تَرَقَّبْ زَوَالًا إذَا قِيلَ تَمْ
إذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا … فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحَامِ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الْإِلَهِ … فَإِنَّ الْإِلَهَ سَرِيعُ النِّقَمْ
حَلَاوَةُ دُنْيَاك مَسْمُومَةٌ … فَمَا تَأْكُلُ الشَّهْدَ إلَّا بِسُمْ
فَكَمْ قَدَرٌ دَبَّ فِي مُهْلَةٍ … فَلَمْ يَعْلَمْ النَّاسُ حَتَّى هَجَمْ
– ومنها الأمراض التي يتغير بها الطبع ما يتغير بها الجسم، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال ولا يقدر معها على احتمال.
وقد قال المتنبي:
آلَةُ الْعَيْشِ صِحَّةٌ وَشَبَابُ … فَإِذَا وَلَّيَا عَنْ الْمَرْءِ وَلَّى
وَإِذَا الشَّيْخُ قَالَ أُفٍّ فَمَا مَلَّ … حَيَاةً وَإِنَّمَا الضَّعْفَ مَلَّا
وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ النَّاسِ كُفُئًا … ذَاتَ خِدْرٍ أَرَادَتْ الْمَوْتَ بَعْلَا
أَبَدًا تَسْتَرِدُّ مَا تَهَبُ الدُّنْيَا … فَيَا لَيْتَ جُودَهَا كَانَ بُخْلَا
– ومنها علو السن وحدوث الهرم لتأثيره في آلة الجسد كذلك يكون تأثيره في أخلاق النفس، فكما يضعف الجسد عن احتمال ما كان يطيقه من أثقال فكذلك تعجز النفس عن أثقال ما كانت تصبر عليه من مخالفة الوفاق، ومضيق الشقاق. وكذلك ما ضاهاه.
وقال منصور النمري:
مَا كُنْتُ أُوفِي شَبَابِي كُنْهَ عِزَّتِهِ … حَتَّى مَضَى فَإِذَا الدُّنْيَا لَهُ تَبَعُ
أَصْبَحْتُ لَمْ تُطْعِمِي ثُكْلَ الشَّبَابِ وَلَمْ … تَشْجَيْ لِغُصَّتِهِ فَالْعُذْرُ لَا يَقَعُ
مَا كَانَ أَقْصَرَ أَيَّامِ الشَّبَابِ وَمَا … أَبْقَى حَلَاوَةَ ذِكْرَاهُ الَّتِي تَدَعُ
مَا وَاجَهَ الشَّيْبُ مِنْ عَيْنٍ وَإِنْ رَمَقَتْ … إلَّا لَهَا نَبْوَةٌ عَنْهُ وَمُرْتَدَعُ
قَدْ كِدْت تَقْضِي عَلَى فَوْتِ الشَّبَابِ أَسًى … لَوْلَا يُعَزِّيك أَنَّ الْعُمْرَ مُنْقَطِعُ
فهذه سبعة أسباب أحدثت سوء خلق كان عاما. وها هنا سبب خاص يحدث سوء خلق خاص وهو البغض الذي تنفر منه النفس فتحدث نفورا على المبغض، فيؤول إلى سوء خلق يخصه دون غيره. فإذا كان سوء الخلق حادثا بسبب كان زواله مقرونا بزوال ذلك السبب، ثم بالضد.
ونسأل الله أن يرزقنا حسن الخلق.