لخلق واقع جيوسياسي جديد.. هل تستعد روسيا لحرب استنزاف في عمق أوكرانيا؟

يبدو أن روسيا باتت قريبة من “حرب استنزاف”، تتجاوز المناطق الشرقية والجنوبية إلى مواقع أكثر عمقا في أوكرانيا، ويرجَّح أن تبدأ بهجوم مباغت يضمن السيطرة السريعة على دونباس والشريط المطل على البحر الأسود.
Russian Forces Withdraw From Towns Around Kharkiv
جنديان روسيان في أحد المواقع بمنطقة خاركيف قرب حدود أوكرانيا مع روسيا (غيتي)

موسكو- استأنفت القوات الروسية عملياتها على أكثر من محور بالعمق الأوكراني وعلى خطوط التماس بين مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك شرقي البلاد، وركزت هذه المرة على توجيه ضربات مكثفة ودقيقة على مستودعات ذخيرة الأسلحة الأميركية والأوروبية التي زُوّدت أوكرانيا بها، وأهمها تلك القريبة من بلدة بيلينكييه بمحافظة أوديسا جنوب غربي أوكرانيا.

وشهدت جبهات القتال تقدما مهما للقوات التابعة لما يسمى “جمهوريتي” لوغانسك ودونيتسك المدعومتين من روسيا على محور ستارومايسكيه بمقاطعة دونيتسك، وأعلنت هذه القوات “تحرير” نحو 250 منطقة سكنية.

An Ukrainian Military Forces serviceman walk past a metal plate which reads as "Caution mines" on the frontline with Russia-backed separatists near Luganske village, in Donetsk region on January 11, 2022. - Ukraine said on January 11, 2022 it welcomes "efforts" by the West and Russia to ease tensions over Ukraine after a week of high-stakes diplomacy kicked-off in Geneva this week. (Photo by Anatolii STEPANOV / AFP)
جنديان أوكرانيان على خط المواجهة مع مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك (الفرنسية)

ما بعد دونباس؟

ورغم غياب الرد الرسمي الروسي على بيان الجيش الأوكراني الذي اتهم موسكو بإعادة تجميع وحداتها لشن هجوم على مدينة سلافيانسك في مقاطعة دونيتسك، وتعزيز مواقعها الدفاعية في المناطق التي تسيطر عليها بجنوب أوكرانيا، فإن تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بحصول تغيير في جغرافية العملية العسكرية الروسية بسبب تزويد كييف بأسلحة بعيدة المدى من قبل الغرب، لا يترك مجالًا للشك بأن مهمة القوات الروسية جيوسياسيًا لم تعد تقتصر على إقليم دونباس.

كما أن كلام ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، بأن أوكرانيا قد تختفي من الخريطة نتيجة الأحداث الجارية، يصبّ لصالح الرأي القائل إن روسيا تمهّد لتوسيع نطاق عملياتها ورفع سقف أهدافها هناك.

نقطة تحوّل نفسي

وفي كل الأحوال، ومنذ إعلان السيطرة على لوغانسك مطلع الشهر الحالي، بدأت الأنظار تتجه إلى دونيتسك التي تشكّل مع لوغانسك إقليم دونباس، ويجمع الخبراء العسكريون الروس على أنها ستكون المرحلة التالية من العملية العسكرية الروسية، والتي لا يمكن الحديث عن انتصار جيوسياسي دون تنفيذها.

وتكمن أهمية معركة دونيتسك المتوقعة والمعارك في جنوب أوكرانيا عموما، في أن السيطرة عليهما ستمكّن روسيا من تحقيق حلمها القديم الجديد بإنشاء ممر بري يصلها بشبه جزيرة القرم، فضلا عن محطات الطاقة الإستراتيجية الموجودة على أراضي الإقليم المتنازع عليه.

كل ذلك يأتي في وقت تؤكد فيه مصادر روسية مختلفة أن “نقطة التحول النفسي السلبية” على الجانب الأوكراني في سياق الحرب، قد حدثت بالفعل. ويعود ذلك برأيهم إلى مجموعة تصريحات صادرة من عدة عواصم غربية، وعلى لسان مسؤولين حاليين وسابقين، تعكس تراجعًا في حماسة دوائر صنع القرار هناك بشأن تقديم دعم لكييف يمكنها من إحداث انقلاب في موازين القوى العسكرية لصالحها.

وقد يكون المقصود من هذا الكلام تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في اجتماع لمجموعة الاتصال الدولية بشأن مساعدة كييف، بأن القتال على أراضي أوكرانيا دخل مرحلة حاسمة، أو ما قالته ضابطة المخابرات السابقة في وزارة الدفاع الأميركية ريبيكا كوفلر قبل أيام من أنه “لا يوجد ما يكفي من المال أو الأسلحة عند أوكرانيا للفوز في الحرب، لأن الجيش الروسي أقوى بما لا يقاس من الجيش الأوكراني”، مضيفة أن “تخصيص واشنطن 54 مليار دولار، وإفراغ مستودعات الأسلحة والذخيرة لديها، لم يؤدّ إلى أية نتيجة مهمة”.

Russian attacks on Ukraine
مركز تجاري دمّرته غارة روسية في مقاطعة دونيتسك (الأناضول)

حرب استنزاف

يقول الخبير في الشؤون العسكرية ألكسندر جيلين إن روسيا مستعدة لدخول المرحلة التالية من العملية العسكرية، بعكس أوكرانيا، وإن لدى موسكو ما يكفي من الوسائل لإجبار أوكرانيا على السلام.

لكنه يرى في حديث للجزيرة نت أن التصريحات الأخيرة لكبار المسؤولين الروس تشير إلى أن قواتهم باتت قاب قوسين أو أدنى من بدء “حرب استنزاف” تتجاوز المناطق الشرقية وجزءا من الجنوبية، لتصل إلى مناطق أكثر عمقا في أوكرانيا.

ويرجّح أن تبدأ العملية بهجوم محكم ومباغت وبتكتيكات قتالية جديدة، تضمن السيطرة السريعة والكاملة على إقليم دونباس والشريط المطل على البحر الأسود.

خطأ تكتيكي

ويعتقد الخبير العسكري جيلين أن الغرب ارتكب خطأ تكتيكيا بالتأخر في إمداد أوكرانيا بالأسلحة النوعية منذ الأسابيع الأولى للحرب التي بدأت في 24 فبراير/شباط 2022، مما أعطى القوات الروسية مبررا منطقيا لتوسيع سيطرتها على مزيد من الأراضي الأوكرانية، والتي يمكن لوجود هذه الأسلحة فيها أن يشكل خطرا على العسكريين الروس والمدنيين عموما هناك.

بموازاة ذلك، يشير جيلين إلى أن الأسطول البحري الأوكراني أصبح شبه محيّد ضمن قواعد الاشتباك الراهنة، وأن الحفاظ عليه في حالة جيدة يحتاج إلى تحديث وتكلفة باهظة، وبرأيه فإن أي قروض من الدول الغربية “لن تكون قادرة على إعادة الأسطول إلى الحياة”.

Ukrainian Armed Forces hold drills near the border with Russian-annexed Crimea in Kherson region
قوات أوكرانية تجري مناورات في منطقة خيرسون قرب الحدود مع شبه جزيرة القرم (رويترز)

واقع جديد

أما مدير المركز الدولي للتحليلات السياسية دينيس كركودينوف، فيرجح أن تتركز جغرافيا المعارك في المرحلة القادمة في دونيتسك وخيرسون (جنوب) وزاباروجيا (جنوب)، وليس في كامل الأراضي الأوكرانية، لأن روسيا ليست معنية بتصعيد إضافي مع الغرب ومنحه فرصة القتال ضدها حتى آخر أوكراني، بحسب تعبير كركودينوف.

لكن كركودينوف استدرك -في حديث للجزيرة نت- بأن كافة الخطط العسكرية اللاحقة ستكون محكومة بالحسابات السياسية، ومن بينها ارتدادات الحرب على أوكرانيا، ودعمها ماليا وعسكريا على الأوضاع والمصالح الأوروبية، مما سيستدعي -برأيه- ردة فعل عكسية في أوروبا، قد تشمل اضطرابات اجتماعية وسقوط حكومات.

وبخصوص فرضية حرب الاستنزاف، يعتقد كركودينوف أنها تتوقف على طبيعة الأسلحة التي تنوي واشنطن ولندن تسليمها إلى كييف، ومدى قدرتها على التأثير في سير المعارك، وعلى سلامة القوات الروسية التي ستكون في نطاق استهداف الأسلحة الغربية.

ويخلص الخبير إلى أن الهدف الروسي من الحرب في أوكرانيا لم يعد محصورا بنزع أسلحتها، والسيطرة على كامل مناطق دونباس أو مناطق أخرى بأوكرانيا، بقدر ما هو خلق واقع جيوسياسي جديد يفرض منظومة أمنية جديدة ومتوازنة في أوروبا والعالم، تراعي مصالح جميع القوى، وتنهي حقبة القطب الواحد.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *