الإشادة: العطر الذي يزين علاقة القادة مع الآخرين

يقول الفيلسوف الصيني "لاوتسو": " إنَّه لأمرٌ عبقريٌّ أن تتعرف على الشجرة عن طريق بذورها". إنَّ هذا ما نشير إليه الآن باسم "الذكاء التقديري" وهو مصطلحٌ صاغه "توجو ذاتشينكيري" ليصف قدرة أفرادٌ معينين على ملاحظة الجوانب الإيجابية الكامنة في الحالات أو عند الأشخاص. إنَّه القدرة على التعرف على منتجٍ مميز، أو شخصٍ ذو موهبةٍ بارزة، أو حلٍّ مستقبليٍّ ثمين بالرغم من عدم سهولة التعرف عليها في الوقت الحالي. باختصار إنَّها القدرة على رؤية شجرة البلوط الضخمة من خلال ثمارها

يعود أصل هذا المصطلح إلى الفترة التي بدأ فيها الكاتب دراسة النمو الهائل لريادة الأعمال في وادي السيليكون في أواخر تسعينيات القرن الماضي. ووفقاً للكاتب فإنَّ الذكاء التقديري هو من أتاح المجال جزئياً أمام هذا العدد من المهاجرين الموهوبين للغاية والقادمين من بلدانٍ مختلفة ليجتمعوا في هذه المنطقة ويزدهروا فيها. فقد كان أصحاب رأس المال الاستثماري الذين يتطلعون إلى تمويل الأفكار المناسبة كما يقول الكاتب يسألون: “كيف يمكنني أن أجعل هذا ينجح؟” بدلا من أن يسألوا: “ما هي فرص إخفاق هذه الفكرة؟”. لقد أسَّسوا بيئةً تتضمن قدرةً عالية على التنبؤ بالنتائج الإيجابية والتي أصبحت بدورها قدرةً على التعرف على الفرص، والإنجازات، والمرونة، والإمكانات انتشرت مثل حمى مُعدية (يجب ألَّا يتم الخلط بين الذكاء التقديري والاستعلام التقديري الذي هو أحدم مناهج ومنهجيات تحليل المنظمات).

إنَّ الذكاء التقديري هو قدرةٌ ذهنية يتمتع بها الأفراد البارعون في إعادة صياغة الحالات (نصف الكأس المليء/نصف الكأس الفارغ) والذين يمتلكون نظرةً ثاقبةً تُمكِّنهم من التعرُّف على الحالات الثمينة والإيجابية أو الأشخاص الثمينين والإيجابيين. بل إنَّ هؤلاء الأشخاص يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك، فهم قادرون على تخيل كيف من الممكن استخدام الجوانب الإيجابية لتأسيس مستقبلٍ أفضل. يؤسس الدمج بين تمتع القائد بالذكاء التقديري واستخدامه الاستعلام التقديري قوةً فعالة للتأثير في التغيير الإيجابي وإلهام الآخرين لتقديم أفضل ما عندهم. تخيل أنَّ جميع القادة في المنظمة كانوا يتمتعون بشكلٍ فعالٍ وواعٍ بالذكاء العاطفي. تخيل التأثير العميق والصحي الذي سيحدثه ذلك في ثقافة المنظمة.

تشعل مثل هذه الثقافة الحافز لدى الموظفين. لقد أظهرت الاستطلاعات التي أُجريت حول ما يرغب به الموظفون بشكلٍ دائم أنَّ “الحصول على التقدير عند إنجاز المهام بشكلٍ جيد” يحتل مرتبةً عالية من ضمن الأشياء التي تحفز الموظفين حتى أنَّه أهم من “الرواتب الجيدة” بالنسبة لهم. ومن المفارقات أنَّ يقدمون الرواتب الجيدة على التقدير في إجاباتهم عمَّا يرغب به الموظفون. وتُظهر استطلاعاتٌ أخرى أنَّ أحد الأسباب التي تدفع الموظفين إلى مغادرة شركاتهم هي افتقارهم إلى المديح والتقدير. يتحدث القادة غالباً عن صعوبة بناء الثقة في منظماتهم. حيث تُظهر الدراسة التي أجرتها “أديل ب. لين” (Adele B. Lynn) حول الثقة في العمل أنَّ 54% من الاشخاص الذين شملتهم هذه الدراسة سيعملون براتبٍ أقل إذا ما كانت عوامل بناء الثقة الآتية موجودة:

  1. الأهمية: وهي منح الأشخاص إحساساً بأهميتهم وأهمية الأدوار التي يؤدونها بالنسبة إلى المنظمة.
  2. التواصل: وهو الشعور بأنَّ القائد يهتم بهم بصدق وبأنَّهم مرتبطون به.
  3. الامتنان: وهو الحصول على التقدير على المساهمات والتضحيات التي قدموها والتعبير عن الامتنان لهم بشكلٍ صادق.
  4. العدل: وهي معرفة أنَّ القائد يضمن تحقيق المساواة والعدل في توزيع المكافآت.

إنَّ التقدير والثناء هما بمثابة الوقود للروح. فعندما نتلقى إشادةً من الآخرين فإنَّنا نشعر بنشوةٍ داخلية وهي عبارةٌ عن شعورٍ سحريٍّ دافئ يجعلك تبتسم. يجعلنا هذا الشعور نرغب في بذل مزيدٍ من الجهد في سبيل الشخص الذي منح هذه الإشادة الصادقة. لو لم يكن ذلك مهماً بالنسبة لنا لما احتفظنا بجميع الهدايا والدروع التذكارية، والملاحظات ورسائل البريد الإلكتروني التي تحتوي على التقدير وغيرها من رموز التقدير التي نتلقاها خلال سنوات حياتنا.

ولكنَّنا نعلم جميعاً بشكلٍ بديهي أنَّ الإشادة الصادقة هي عامل رئيسي في علاقتنا مع موظفينا، وأنَّ أي دورةٍ في الإدارة ستتطرق إلى قيمة الإشادة بإسهامات الموظفين. ولكنَّ العديد من القادة ذوي النوايا الحسنة الذين يتميزون باهتمامهم في الوقت ذاته يترددون في التعبير عن تقديرهم لمواهب الآخرين ومساهماتهم.

لقد عملت منذ عدة سنواتٍ مضت مع قائدٍ ذو مكانةٍ عالية يهتم بموظفيه بكل صدق حيث أسرَّ لي في أحد الأيام أنَّه يجد أنَّ تقديم الثناء هو أمرٌ في غاية الصعوبة سواءٌ أكان علانية أم في السر. فسألته لماذا هذا الشعور فقال: “لقد نشأت في منزلٍ لم يكن الثناء فيه جزءً من الأشياء التي نقوم بها”. ثمة معنىً ضمني في هذه الجملة. إنَّ عائلاتنا هي أولى منظماتنا وهي المكان الذي نتعلم فيه العديد من سلوكاتنا ومن الصعب في أغلب الأحيان التخلي عن تلك الأنماط السلوكية المتأصلة في داخلنا. ولكنَّ الامتناع عن تقديم الثناء هو نمطٌ سلوكيٌّ يتوجب علينا التخلص منه إذا ما أردنا أن يخرج الأشخاص أفضل ما لديهم. نحن نحتاج إلى تجاوز الشعور بالإحراج الذي يتملَّك بعضنا عندما يتوجب عليهم الثناء على شخصٍ ما.

إليك هذه النصائح لممارسة هذه المهارة المهمة:

  1. إذا كنت تواجه صعوبةً في الثناء على الآخرين حلل الاسباب الجذرية لذلك. إذا كان السبب هو الخوف من إحراج الآخرين فلتعلم أنَّه حتى أكثر الأشخاص انطوائيةً والذين يتجنبون الثناء العلني يستمتعون بقراءة رسالة بريدٍ إلكتروني موجهةٍ إلى جميع الموظفين تشكرهم على مساهماتهم التي قدموها. وإذا كان السبب شعوراً بعدم الارتياح لأنَّك لا تعلم كيف تقوم بذلك اقرأ القواعد المذكورة أدناه وفكر في العمل مع كوتش لجلسةٍ أو جلستين حول الجوانب الأبرز لعمليات التواصل لدى القائد. فالوعي الذاتي يسبق إدارة الذات.
  2. إنَّ الامتناع عن الثناء في بعض الأحيان سببه ببساطةٍ هو عدم وجود الوقت عند القادة الذين يتوجب عليهم التعامل مع عددٍ متزايد من القضايا خلال اليوم المليء بالمشاغل بشكلٍ دائم. إذا كانت هذه هي مشكلتك فأنا أشجعك على إعادة هيكلة نظرتك إلى هذه القضية بالتحديد. فإظهار اهتمامك بالأشخاص يجب أن يرتقي إلى مرتبةٍ أعلى ضمن قائمة مهامك. فقول: “إنَّني أقدر الوقت والتفكير الذين بذلتهما في هذا التقرير. لقد كان تقريراً استثنائياً” يستغرق أقل من 10 ثوانٍ.
  3. إنَّ للثناء فترة صلاحيةٍ محدودة. لا تؤجل تعبيرك عن الثناء ولا تنتظر حتى يحين وقت مراجعات الأداء. عندما ترى أمراً يستحق الثناء قم بذلك بسرعة.
  4. فلتكن كلماتك التي تقولها لموظفيك ذات أثرٍ عميق من خلال كونها تشير إلى الإنجاز بشكلٍ محدد. فقليلون منا هم الذين يتذكرون هذا التعليق السطحي: “لقد كان عملك جيداً”، ولكنَّنا جميعاً سنتذكر الشخص الذي يقول لنا: “لقد كان هذا عملاً عبقرياً خالصاً”، أو “إنَّني لم أكن لأتذكر ذلك لو لم تشر إليه”. فليس ضرورياً أن يكون الثناء منمقاً فهو يجب أن يكون صادقاً فقط.
  5. عندما تمر بمكتب أيِّ موظف لتثني عليه لا تتبع هذا الثناء بمحادثةٍ حول قضايا العمل أو غيرها من المشاريع. قدم ثناءك وانصرف. وإذا أردت مناقشة قضايا أخرى عُد في وقتٍ لاحق. يعطي القيام بذلك الثناء حقه ويرفع قيمته في نظر المتلقي.
  6. من بين الكتب التي تتحدث عن مكافأة الآخرين وتقديم الشكر لهم كتابٌ يحمل عنوان “تشجيع القلب: دليل القائد لمكافأة الآخرين وتشجيعهم” (Encouraging the Heart: A Leader’s Guide to Rewarding and Recognizing Others) لـ “جيم كوزز” (Jim Kouzes) و”باري بوزنر” (Barry Posner). يقدم الكتاب 150 طريقة لتشجيع القلب. ومن بين الكتب الأخرى المفيدة كتاب “ستيفين كير” (Steven Kerr) الذي يحمل عنوان “أبرز المكافآت: ما الذي يحفز الأشخاص بالفعل على الإنجاز” (Ultimate Rewards: What Really Motivates People to Achieve). يذكر الكتاب العديد من مصادر التحفيز المختلفة بما فيها المحاسبة، والمسؤولية، وثقافة المنظمة، والكوتشينغ، والعمل بروح الفريق، والحافز، ووضع الأهداف.
  7. أخيراً، كيف تستطيع تطبيق مفهوم الذكاء التقديري على نفسك؟ ما هي مواهبك؟ إنَّ الثناء على مواهبنا يتيح لنا فرصة على ما لدى الآخرين من مزايا رائعة.

ربما إنَّ أقصى درجةٍ من درجات التقدير هي إخبار الأشخاص بغض النظر عن موقعهم ضمن هرم المنظمة بأنَّ عملهم مهم بالنسبة إلى المنظمة. إنَّ الأمر يتعلق بالتدرب على رؤية المزيد من الأشخاص. فالتميز يشمل الجميع.

ثمة مثل صينيٌّ مميزٌ آخر يقول: “دائما ما يعلق القليل من العطر على اليد التي تمنح الزهور”. وبصفتنا قائدةً، فإنَّنا عندما نجعل الناس يشعرون بشعورٍ رائعٍ تجاه أنفسهم فإنَّنا نرتقي بأنفسنا أيضاً نحو ما هو رائع.

 

المصدر: هنا

Source: Annajah.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *