يعلم أنّ الاستثمار الحقيقي هو الاستثمار في الإنسان، فيُعامِل موّظفيه بطريقةٍ راقية، واثقاً بأنّهم سيقدمون أفضل ما لديهم بحبٍّ وشغفٍ ورغبة. نعم، هو شخصٌ محتوٍ، يحترف احتواء المواقف السلبيّة، واستخلاص الرسائل الحقيقيّة منها، ويواجه بالمرونة والابتسامة كلَّ جديد. إنّه القائد المتواضع.
فما هي سمات القائد المتواضع، وما نظرتنا عن القادة المتواضعين، وكيف نطوّر من مهاراتنا لنصبح قادةً متواضعين؟ هذا ما سنتعرّف عليه من خلال هذا المقال.
بين نجوم هوليوود، والقادة المتواضعين:
لطالما ارتسمت في مخيّلتنا صورةٌ للقائد شبيهةٌ بصور نجوم السينما، صورةٌ برّاقةٌ مليئةٌ بالأضواء، ومُفعَمةٌ بالحركة والكاريزما والكلام المُنمّق المدروس بعناية.
تخبرنا الأبحاث أنّ الحقيقة أكثر دقةً من ذلك، فأفضل القادة وفقاً للكاتب جيمس كولينز (James C. Collins) في كتابه “من الجيد إلى العظيم – Good To Great”، هم مَن يمتلكون مزيجاً من التواضع والتصميم القوي.
إنّهم متواضعون ومعتدلون ومُتفهِّمون، وساعون إلى تحقيق ذواتهم من خلال منظمّتهم، وملتزمون بتحقيق أفضل النتائج. كما وجدت الثقافة التنظيمية أنّ جيل الألفيّة ذكر التواضع كواحدٍ من أهمّ ثلاث سماتٍ في القائد، إلى جانب الاستراتيجيّة والأخلاق.
صفات القائد المتواضع:
يتميّز القادة المتواضعون عن غيرهم من القادة بالكثير من السمات، منها:
1. مشاركة الآخرين والاستماع لآرائهم:
يجد القادة المتواضعون لذّةً حقيقيةً في العمل ضمن مجموعة، على عكس القادة المتغطرسين الذين يميلون إلى العمل بمفردهم.
لدى القادة المتواضعين سعة صدرٍ رهيبةٌ وقدرةٌ عاليةٌ على الاحتواء، ممّا يُمكّنهم من استخلاص أفضل المواهب لدى الآخرين؛ فطاقتهم التّحفيزيّة عالية، الأمر الذي يجعل من الآخرين عاملين مُحبِّين وشغوفين.
لا يتردّد القادة المتواضعون في مشاركة أفكارهم ومواردهم للمساعدة في حلّ مشكلات الآخرين؛ وذلك لأنّ نظرتهم إلى الأمور نظرةٌ شموليّةٌ تكامليّة، وليست نظرةً محدودةً أو شخصيّة.
كما يحترمون أفكار الآخرين ويُرحِّبون بمشاركاتهم مهما كانت بسيطة، ومهما صَغُر منصب مُقترِحها؛ فهم مقتنعون أنّ النجاح الحقيقي يكمن في التعاون، وأنّ فكرةً بسيطة قد تُحدِث الفارق الكبير. بينما يميل القادة المتغطرسون إلى تخزين مواردهم وعدم مشاركتها مع أيّ أحدٍّ، إلّا بوجود مقابلٍ ما.
2. تحمّل المسؤولية والاعتراف بالأخطاء:
يتبنّى الإنسان القويّ مقولة: “أنا السبب”. فالقادة المتواضعون يتحمّلون مسؤولية وجود الأخطاء عوضاً عن إلقاء اللّوم على الآخرين، ويعترفون بها، ومن ثم يسعون إلى تحليل أسبابها، والعمل بجديّة على تلافيها؛ وذلك بالتعاون مع الموظفين في ثنايا جوٍّ إيجابي مُفعمٍ بالتّقبّل والرضا والوعي.
تفسيرهم للأخطاء تفسيرٌ واعٍ؛ إذ إنّهم يبحثون عن الغاية الحقيقيّة المفيدة الكامنة وراءها. فالأخطاء ما هي إلّا وسيلةٌ تخبرنا أنَّ ثمّة شيءٌ ما بحاجةٍ إلى تغيير.
هم مُدركون لنقاط ضعفهم ونقاط قوّتهم، فيعملون على تعزيز النقاط الإيجابية، والحدّ من النقاط السلبيّة؛ كأن يتّبعوا دوراتٍ تدريبيةً مساعدةً في ذلك.
بينما نجد أنَّ القادة المتغطرسون يميلون إلى الإلقاء باللائمة على الآخرين، مُظهِرين أنفسهم بمظهر القادة الكاملين والمعصومين عن الخطأ، شاعرين بتفوّقهم على الآخرين، غير معترفين بمآثرهم. فهم يعتبرون الخطأ ضعف؛ لأنّهم غير متصالحين مع ذواتهم، ورافضون حالة الانصهار مع الآخرين والتعلّم منهم وتعليمهم.
3. مديح الآخرين والاحتفال بإنجازاتهم:
لا يُضيّع القادة المتواضعون أيّ فرصةٍ لمديح موظّفيهم، فيَسعدون بإنجازاتهم ويقدّرونها؛ لمعرفتهم العميقة أنّها ستصبّ في مصلحة العمل ككل.
إنّهم محترفون في رؤية النجاح من خلال فريق عملٍ متكاملٍ يتمتّع بروحٍ واحدةٍ، وهدفٍ واحدٍ تنتفي فيه المصالح الشخصية.
يميل القادة المتغطرسون إلى تجاهل إنجازات الآخرين، فنظرتهم السلبية وأناهم العالية تقفان عائقاً أمام احتوائهم الآخرين.
4. تقبُّل الملاحظات البنّاءة:
يتّصف القادة المتواضعون بالنيّة الحسنة والمرونة الخلّاقة للتغيير الإيجابي، مما يجعل استجابتهم للملاحظات استجابةً ديناميكيّةً هادفة. فهدفهم الأساسي خلق قيمةٍ مُضافةٍ للشركة، فأيّ ملاحظةٍ تدعم هذا الهدف سيتبنّونها ويسعون جاهدين إلى العمل عليها.
تُساعد مرونتهم في الانفتاح على الآخرين، والاستفادة القصوى من ملاحظاتهم وخبراتهم الهامّة، ورؤية الموضوعات من زوايا مختلفة.
بينما يكون للقادة المتغطرسين مرونةٌ ضعيفةٌ وانفتاحٌ قليلٌ على الآخرين، ممّا يجعل نظرتهم للموضوع قاصرةً وأحادية الجانب، فهم لا يستطيعون تقبّل وجهات النظر المعاكسة لوجهة نظرهم.
5. التّحدي والعزم الشديدان:
يعشقُ القادة المتواضعون التحديات والمهمّات الصّعبة، ولا يحققون ذواتهم إلّا بالوصول إلى أهدافهم التي تكون نابعةً من مصلحة الشّركة وفريق العمل المتكامل.
نعم، هم قادرون على التغلّب على أيّ عقباتٍ تعترض طريقهم؛ لأنّهم يدٌ واحدةٌ مع الموظفين، وملتزمون بقوةٍ تجاه الشركة.
6. امتلاكهم لمعايير عالية:
يميل القادة المتواضعون إلى التعامل الراقي، فيتجاهلون القيل والقال؛ ذلك لأنّ لديهم ما يكفي من حكمة لمعرفة أنّ هناك دائماً جانبٌ آخر من القصة.
وفي المقابل، يميل القادة المتغطرسون إلى نشر القيل والقال، فهم يريدون أن يكون الجوّ بين الموظفين سلبياً ودون المستوى؛ فذلك يُشعرهم بالتّفوق والراحة.
7. الالتزام بالقوانين والقواعد:
يُدرك القائد المتواضع أهمية الإلتزام بالقواعد والقوانين المفروضة في المجتمع الذي تنتمي إليهِ الشركة التي يتولى قيادتها، لهذا فهو يحرص على حسن الإلتزام بكل القوانين المفروضة مثله مثل أي شخص آخر بعيداً عن التعالي والفوضى.
8. حبّ الاستطلاع:
القادة المتواضعون توّاقون إلى التعّلم، وإلى التّحسين المستمر في أدائهم وأداء فريق العمل المتكامل، فهم لا يوفّرون جهداً في تطوير مهاراتهم وطرائق إدارتهم لشركتهم. كما ويهتمون بالعنصر البشري، فيخضعون إلى دوراتٍ مكثّفةً تُغنِي مهارات التواصل لديهم وترفع من قدراتهم القياديّة.
النظرة عن التواضع، واختبارات القيادة المتواضعة:
يتعرّض مفهوم القائد المتواضع إلى الكثير من المغالطات والاتهامات؛ بحيث تُفهَم مشاركته الرّائعة للآخرين وقدرته العاليّة على احتوائهم، على أنّها ضعفٌ وخنوعٌ وقلّة حيلة. في حين يُعبِّر القادة المتواضعون عن الثقة والطموح الكبيرين لكن بطرائقهم المختلفة.
ففكرة تفضيلهم لمصالح الشركة على مصالحهم الشخصيّة لن تُفهَم بسهولة، خاصةً في وسط مجتمعٍ عاشقٍ للأنا والمصالح الشخصية؛ حيث يحتاج القائد المتواضع إلى الكثير من الوعي لتفهُّم تميّزه.
ولابدّ أن يكون هناك تغييرٌ في طريقة إدارة المواهب في شركاتنا، بحيث تُشّجِع الأدواتُ والتكتيكاتُ الجديدةُ القيادةَ المتواضعة، وتقاوم التّحيّز الثقافيّ إلى القيادة البرّاقة (الهوليوديّة).
يعدّ تغيير منظور الشركات التقليدي للقيادة هامّاً جداً، فالابتعاد عن اعتبار التواضع سمة أساسيّة، وتبنِّي سِمَتَي الكاريزما والترويج؛ سينعكس سلباً على إنتاجيّة الشركة.
فقد وجد “جيمس كولينز” (James C. Collins) في كتابه “من الجيد إلى العظيم – Good To Great” أنّ السمتان الشّائعتان للرؤساء التنفيذيين في الشركات التي انتقلت من الأداء المتوسط إلى الأداء المتفوّق، هما: التواضع، والإرادة الحديديّة الساعية لتقدّم المنظمة.
وعلى المستوى الإداري: يُولِّد الاعتماد على التواضع، كصفةٍ أساسية، القدرة على خلق قيمةٍ مضافةٍ إلى العمل والأداء الأفضل والالتزام الأقوى تجاه الشركة، والمشاركة العميقة الفعّالة بين عناصر الشركة ككل؛ ممّا يعّزز ثقافة الابتكار في المؤسسات ويزيد من إنتاجيّتها وتميّزها.
لذلك على الشركات التعامل مع التواضع كقضيةٍ ذات بعدين: داخليّ وخارجيّ.
إنّ البعد الداخليّ للتواضع يوجب تعزيز هذه الخصلة لدى الموّظفين الموجودين داخل الشركة، وذلك من خلال: تطوير مهاراتهم في التواصل، ورفع سويّة الوعيّ الإيجابيّ للقيادة الحقيقيّة لا التسويقيّة، وتحفيز العمل الجماعيّ البنّاء.
أمّا البعد الخارجي للتواضع فيوجب إعادة النظر في معايير اختيار الأشخاص الإداريين، بحيث يُقاس التواضع كغيره من السمات الشخصية الأخرى.
على سبيل المثال: تستخدم طريقة طرح الأسئلة السريعة الفجائية كإحدى تقنيات المقابلات الشخصية، وذلك لقياس مقدار الثقة الاجتماعية والمرونة التي يجب أن يتمتع بها الأشخاص المتقدمون لشغل الوظائف الإدارية العليا. في حين أنّ التواضع لم تُرصَد له تقنيّةٌ قياسية.
شاهد: أهم الصفات التي تجعل منك قائدًا ناجحًا
[wpcc-iframe class=”embed-responsive-item lazyload” src=”https://www.annajah.net/fe/images/annajah_large.jpg” width=”640″ height=”385″ frameborder=”0″ allowfullscreen=”” data-src=”https://www.youtube.com/embed/Q-eohqtPfFE?rel=0&hd=0″]
طوّر ذاتك لتصل إلى مصافِ القائد المتواضع:
إن كنت متمّتعاً بسمة التواضع فيمكنك اتخاذ خطواتٍ لتطوير هويّتك وتأسيس طرائق مفيدةٍ وحقيقية، مثل:
- تحفيز نفسك من خلال تحقيق أهدافٍ شاملةٍ ورائعة -بدلاً من العمل على نجاحك الشخصي المحدود- والاعتراف بإنجازاتك كجزءٍ من عمل فريقك المتكامل.
- التركيز على التصرّف كقائدٍ متكاملٍ من خلال تعزيز قيمك النبيلة كالصدق والوضوح والنزاهة، مما يساعدك على المشاركة الفعّالة للآخرين.
- إطلاق العنان لطموحك وشغفك، بحيث يُسلَّط الضوء عليك من خلال مهاراتك القياديّة وحيويّتك.
- تغيير أفكارك وسلوكاتك، وزيادة وعيك؛ إذ يحتاج تطوير التواضع إلى تغيير السلوكات والأفكار الموروثة الخاطئة في خصوصه، وذلك يتمّ عن طريق الوعي الذاتي عالي المستوى.
- جعلُ سقف طموحاتك عالٍ؛ ليزداد دافعك على العمل جراء ذلك. فعندما تزداد، القيمة يزداد الحافز.
الخلاصة:
يتمتّعُ الإنسان المتواضع باكتفاءٍ ذاتي، وإشباعٍ روحي يفيض حبّاً وصدقاً واحتواءً ليشملَ الجميع، بالإضافة إلى وجود نية صافية لخلق قيمةٍ مضافةٍ شاملةٍ وليست شخصية. نعم، هو يمتلك قدرةً عاليةً على الاندماج والانصهار في الآخر لإخراج أسمى ما لديه؛ فهو يُخاطب الجانب المُضيء من كلّ شخص.
يستحقّ الشخص المتواضع أعلى التقديرات وأهمّها، وعلى كلّ منظّمةٍ إعطاء فرصةٍ حقيقيّةٍ ومدروسةٍ لهؤلاء؛ لأنّهم الأغنياء الحقيقيون، والمنتجون المثاليون، والمُحفّزون الإيجابيون للابتكار والتميّز والإبداع.
شاهد: 15 نصيحة في الإدارة و القيادة الحكيمة
[wpcc-iframe class=”embed-responsive-item lazyload” src=”https://www.annajah.net/fe/images/annajah_large.jpg” width=”640″ height=”385″ frameborder=”0″ allowfullscreen=”” data-src=”https://www.youtube.com/embed/ytvDPZjbVzo?rel=0&hd=0″]
المصادر: 1 ، 2 ، 3