[wpcc-iframe src=”https://www.youtube.com/embed/kdHsksbiUY8″ width=”560″ height=”315″ frameborder=”0″]
منذ أن وطأت قدماه “بيت الفلك”.. تبدلت حياة “هاني”، من شخص منطوي يعاني من إعاقة ذهنية، لآخر أكثر انفتاحًا على الحياة، يعيش وسط مجتمع مناسب لقدراته يشارك اختلافه مع غيره دون الشعور بالغربة، بعد أن وجد ضالته في عائلته الجديدة “عائلة الفلك”.
بيت الفلك في المنيا هو نموذج محاكاة لآخر في فرنسا يدعى “الأرش”، قامت فكرته على الدمج بين أصحاب الإعاقات الذهنية وآخرين أصحاء، يعيشون تحت سقف واحد يتشاركون الحياة باختلافاتهم.
سبعة من أصحاب الإعاقات الذهنية وأربعة مساعدين، هم سكان بيت الفلك، مساحة آمنة في قلب الصعيد يعيش فيها هؤلاء كلًا في فلك واحد.. في جنبات عائلة الفلك نرصد كيف أثر الدمج والتعايش على أصحاب الإعاقات الذهنية.
تُعرف الإعاقة الذهنية بأنها حالة من تأخر أو عدم اكتمال نمو الدماغ، بدءً من مرحلة الوجود في الرحم وصولًا إلى ما بعد الولادة وبلوغ عمر الخمس سنوات، ما يؤدي إلى وجود اضطرابات معينة في الوظائف الطبيعية والحياتية للطفل.
حدوتة البيت
نشأ نشاط الإيمان والنور لرعاية أصحاب الإعاقات الخاصة في المنيا عام 1980، تواصل أعضاء الجمعية مع “جان فانييه” مؤسس الأرش في فرنسا كمحاولة للدعم، سافر اثنان من أعضاء الجمعية لنقل تجربة البيت وتطبيقه في قلب الصعيد وفق القواعد والأصول التي حددها مؤسس المنزل، السنة امتدت لثلاث عايش فيها “ممدوح” و”ماجدة” التجربة على الواقع، ثم عادوا أخيرًا لتطبيقها.
بحلول عام 2002 تم بناء بيت الفلك في شوشة، إحدى قرى المنيا المنعزلة، ونشأت الجماعة المكونة من أشخاص ذوي إعاقة ذهنية وآخرون أصحاء، حياة بدائية بسيطة عايشوها، صعوبات مادية وأخرى نفسية في مواجهة المجتمع لتلك الجماعة، خاصة في ظل ثقافة تُرهب الأشخاص المصابين بالإعاقات الذهنية، لكن التحدي الأكبر كان في الشروط التي وضعها “الأرش” الفرنسي لقبول البيت واعتماده، وهو أن يتم بنائه وسط المدينة لتدعيم فكرة الدمج والانخراط مع المجتمع.
منذ أربع سنوات نجحت عائلة الفلك في التواجد بقلب مدينة المنيا تحديدًا في مركز سمالوط، وسط العمار والحياة الريفية البسيطة، قوبلوا بالرفض من قبل المحيطين الذين بغضوا تقبل الفكرة ورفضوا التعامل معهم في البداية، إلى أن تفهموا اختلافهم واعتادوا على معايشتهم، بل وجلب الأهالي أبنائهم الذين يعانون من إعاقات ذهنية إلى المنزل الذي فتح الباب على مصراعيه لتقبل كل طارق يرحب بالفكرة ويشارك في توغلها بالمجتمع.
نزلاء الفلك
هاني “فنان العيلة”
هاني أقدم سكان البيت والذي لم يأت بمفرده، بل برفقة “نجاة” أخته، بعد عزلة عاشها الأخوان بحكم المجتمع الذي أقصاهم وحدد إقامتهما في غرفة صغيرة تحت السلم، يقتاتا من إحسان الجيران بطبق من الطعام.. مرحلة مظلمة أثرت عليهما، لكن هاني الذي لم يعرف متى وُلد، تخطى آثار العتمة بينما وجد النور على هيئة شعور بالتقبل وعدم الاختلاف داخل بيت الفلك.
في الطابق الثاني تطل غرفة هاني على الطبيعة البكر، قرص الشمس وهو يحتضن المروج مشهد ألهم موهبته، شرع يرسم كل ما تقع عليه عيناه ويحرك السكون الذي عاش فيه لسنوات، يلون لوحاته كما فعلت الجماعة في حياته بينما يستمع إلى الراديو ونيسه الذي يبدد وحشة الذكريات ويمده بالمعلومات، يعشق هاني الجغرافيا وحدود البلاد يسأل عنها ويحلم برؤياها.
معلومات تدور في ذهنه يسأل عنها رفاقه، ربما تراوده إحدى الدول في منامه فيفيق متعكر المزاج حتى يعرف عن تلك البلد ما يشفي جوعه للمعرفة.
رغم أن أصحاب الإعاقة الذهنية أقل حظًا من غيرهم فيما يخص الحالة الصحية والإنجازات التعليمية والفرص الاقتصادية، بسبب نقصان الخدمات المتاحة لهم والعقبات الكثيرة التي يواجهونها في حياتهم اليومية وقلة فرصهم التعليمية وتأخرها، فإن التدخل المبكر قد يؤدي إلى تطور الحالة والأداء الوظيفي، وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية.. لكن هاني لم يحظ بذلك.
الموسيقى أيضًا أخذت جانبًا من حياة هاني، مرافقته للراديو جعلته يحفظ بعض الأغنيات ويرددها، بل صنع لنفسه “ناي” يعزف عليه ويطرب رفاقه من أهل البيت، في حلقات السمر بعد تناول العشاء وتنظيف الأواني، حياة مثمرة ومواهب متعددة ساعدته على التغلب على آثار الماضي وخلق حياة جديدة هو قائدها.
أكثر ما يؤرق هاني هو بعده عن أهله، يحلم دائمًا بنفس الجو الأسرى الذي عرفه وسط عائلة الفلك ولكن مع من يشاركه الدم “أنا هبني بيت كبير وأعيش فيه مع عيلتي وأختى نجاة”.. كلمات هاني التي يرددها في الصباح والمساء ويحلم بتحقيقها.
نجاة “فتاة الكروشيه”
في العقد الرابع من عمرها تميل إلى الانطواء.. تتمتع بمزاج متقلب باستمرار، تشارك في المهام اليومية من الأعمال المنزلية وحتى العمل في الكروشيه، لكن بصورة بسيطة على عكس باقي المقيمين بالمنزل، حقيبة ذكرياتها ممتلئة بالأحداث الأليمة التي عاشتها من عزوف اجتماعي ووحدة فضلًا عن التأخر الذهني التي ولدت به.
مهارات نجاة الوظيفية أكثر تطورًا كونها تعاني من إعاقة ذهنية بسيطة.. رغم القانون الذي ينص على “توفير البيئة الآمنة للأشخاص ذوى الإعاقة، وعدم تعرضهم للاستغلال الاقتصادى أو السياسى أو التجاري أو العنف أو الاعتداء أو التعذيب أو الإيذاء أو الإهمال أو التقصير أو المعاملة المهينة أو التأثير على أى حق من حقوقهم”، فإن هناك كثيرين يتعرضون للاعتداء.
يتكون مشروع القانون من 8 أبواب، أهمها الباب الثامن الخاص بالعقوبات والذى تضمّن العديد من المواد أبرزها توقيع عقوبة بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة لا تقل عن 5 آلاف جنيه ولا تزيد عن 50 ألف جنيه لكل من يعتدى جنسيًا على معاق أو يقوم بتعذيبه داخل دور الرعاية أو يستغلهم فى أفعال مخالفة للقانون.
مارسا “الصديقة”
بوجهها البشوش وطلتها البهية التي تأخذ القلب، تطل بشعرها المجدول ونظرتها الهادئة التي تتوارى خلف نظارة طبية، انضمت للبيت منذ 14 عامًا بعد أن رأى أهلها أن تواجدها في تلك البيئة قد يكون أفضل لحالتها.. تعيش في كنف الجماعة وتزور أهلها حين يغلبها الشوق.
الإعاقة الذهنية البسيطة التي تعاني منها، لم تؤثر على شكلها فعندما تصادفها لا ترى إلا وجهها الجميل ورحابة قلبها التي تطول كل أفراد البيت، تسأل عن الجميع وتعرف أخبارهم وترعى من يمرض وتشمله بعطفها، وتتأثر كثيرًا بأخبار أهلها.
عندما تنكسر أشعة الشمس وتنتهي المهام والأعمال اليومية ويذهب الكل إلى غرفته، تتذكر مارسا والدها المريض فتبكي حتى تذهب في سبات عميق، في الصباح تشارك في إعداد الفطور وتذهب متحمسة لورشة الكروشيه، تغزل الخيوط الملونة وتصنع المشغولات اليدوية المختلفة، وفي منتصف نهار العمل تمسك بالجرس لتعلن عن بدء وقت الراحة من العمل.
تفضل مارسا وقت الراحة وتشعر بالبهجة عندما تجتمع مع رفاقها، ويعتبر ذلك الوقت هو المفضل بالنسبة لها.
[wpcc-iframe src=”https://www.youtube.com/embed/iHcV6vBLu5c” width=”560″ height=”315″ frameborder=”0″]
هبة وفتى أحلامها
أصغرهم سنًا.. تتمتع بمهارات اجتماعية جيدة، تحب التواصل وتجد ضالتها في الحديث وخلق الحكايات، بعضها من الواقع والآخر من خيالها الجامح الذي يرغب في حياة طبيعية مثل من يقاربها في العمر، تفكر مرارًا بفتى الأحلام وتطمح في مغامرات تُكلل بالزواج السعيد.
سبق لهبة الخطوبة التي لم تستمر سوى أيام معدودات، ولكنها حظيت بصورة جيدة تحتفظ بها في ألبوم الصور غنيمتها التي تسجل أسعد لحظاتها، بعدما عرف الخطيب بشأن إعاقتها التي أثرت على طريقة الكلام بصورة بسيطة ولكنها تظهر جليًا كلما همت بالحديث، ففر هاربًا وتركها أسيرة تلك التجربة.
في العطلات والإجازات تذهب هبة لزيارة أهلها، وتعود بالكثير من القصص والحكايات من مخيلتها عن خطيب أو حبيب وهمي انتشلها وتحكي عن قصة حب جديدة لرفقائها، هبة تتمتع بنشاط ويفوعة تتحرك في أرجاء المنزل باستمرار، منذ أن تدخل أشعة الشمس غرفتها تهم بالقيام حتى تنفذ قائمة مهامها اليومية.
تشمر عن ساعديها وتساعد في إعداد الطعام ومن ثم تقوم بغسل الأواني مسرعة حتى تلحق بدوام العمل اليومي ولا تتكاسل حتى لا يتم خصم جزء من راتبها الشهري الذي تشتري منه الهدايا لأهلها وطلاء الأظافر التي تهوى وضعه، بعد انتهاء العمل في الورش الملحقة بالمنزل تعود مسرعة حتى تشارك في إعداد الغداء.
لم تكل من العمل أو خلق القصص والحكايات والمزاح مع شركائها وفي نهاية اليوم تجلس مع أحد المساعدات تحكي لها عن يومها وتشاركها أفكارها وخططها لليوم الجديد كأن تعد الأرز في غذاء الغد، أو تحكي لها عن رغبتها في الحصول على شريك يرسما معًا ملامح حياتهم.
بدر “الأنيق”
عنيد يصر على مطلبه حتى يحققه رغمًا عن الظروف المواتية، يخطو في عقده الرابع ولكنه يحمل عند طفل لم يتجاوز الخامسة، يعاني من إعاقة ذهنية بدرجة متوسطة أثرت على النمو العقلي له كغيره من رفاق الدار، يتحدث بصوت مرتفع ولا يمل من مطلبه منذ أن يفيق وحتى عندما يغالبه النعاس.
يهتم بدر بمظهره الخارجي، لا يخرج من غرفته إلا وهو في كامل أناقته، يشغله الألوان وتناسقها وكذلك نظافة الملابس وكيها.. “الفتي المدلل” هو اللقب الذي أطلقه المساعدون عليه لأنه صاحب كلمة ورأي يرغم المحيطين على اتباعه وتنفيذ تعليماته، شخصيته القائدة لا يحجمها سوى عقله الذي يعاني من اضطراب ولكنه يتغلب عليه.
خفة ظله تجعله محط أنظار الجميع في وقت الراحة يتولى زمام الأمور، يمسك بالطبلة ويعزف عليها ما يخطر في باله من أغنيات، قد يدق لحن من أغنية بينما يغني مقطع من أخرى ولكنه قادر على رسم البهجة على قلوب الحاضرين.
أمير “المرح”
شاب في الثلاثينات من عمره لكنه يحمل قلب وعقل طفل صغير، الأكثر مرحًا في المنزل والوحيد المصاب بمتلازمة داون.. يعيش في المنزل منذ أربعة سنوات حظى بالسفر إلى فرنسا ومقابلة “جون فواني” مؤسس الأرش، رحلة لازال يتذكر القليل من تفاصيلها، يروي لرفاقه عنها، وتصدر صورته معه صالة المنزل.
بالرغم من صعوبة نطقه للكلمات فإنه يجيد التعبير عما بداخله بالحركات الإيمائية، حتى أصبح حديثه مألوفًا لجميع سكان البيت، يعمل في الورش ويفضل الخروج من المنزل وتفقد الطرقات والتعامل مع الناس، ويحب الذهاب إلى المخبز في الصباح الباكر ويعتبرها أفضل مهمة لديه.
متلازمة داون تعد اضطرابًا وراثيًا يسببه الانقسام غير الطبيعي في الخلايا، ما يؤدي إلى زيادة النسخ الكلي أو الجزئي في الكروموسوم، وتسبب هذه المادة الوراثية الزائدة تغيرات النمو والملامح الجسدية التي تتسم بها متلازمة داون.
مساعدين “الفلك”
أربعة شباب وقائدهم، عصب الحياة داخل عائلة الفلك، دخلوا أشخاص وخلقت منهم التجربة آخرين، وفقًا لحديث شاكر وجيه، المدير التنفيذي لعائلة الفلك والمسئول عن التعايش بين المساعدين وذوي الإعاقة.
ببشاشة وجهه وملامحه الهادئة يتعامل سامح نادي، أحد المساعدين في عائلة الفلك مع النزلاء دون كلل أو ملل، يحكي مع مارسا فيما يضايقها، ويساعد هاني، ويعلم أمير، ويتعلم من بدر، مزج غريب من المشاعر والأفكار التي تعرف عليها الشاب الذي لم يكمل عقده الثاني بعد، يقول: “في الأول كنت بخاف منهم.. دلوقتي حياتي اكتملت بيهم”.
سامح، دميانة، ديفيد، أماني.. أشخاص تعلموا وتأثروا وأثروا في تلك التجربة الفريدة، لكنكيف يحافظ هؤلاء على توازنهم النفسي بعد معايشة أصحاب ذوي الإعاقة الذهنية؟
هنا ظهر دور رندا رجائي، الأخصائية النفسية الملازمة للعائلة، والتي تعلم المساعدين كيفية التعامل مع ذوي الإعاقة، وكذلك التخلص من الضغوط النفسية التي يمكن أن يتعرض لها المساعدين بفعل المسئولية والضغط.
جلسات فردية وأخرى جماعية تعقدها رندا مع المساعدين، تسمع منهم وتفرغ طاقاتهم وتعلمهم أكثر عن هؤلاء الأطفال الكبار الذين يعيشون معهم، عن سمات الإعاقة، وتركيبة الشخصية، وحجم الإعاقة التي يعاني منها كل شخص، وتركيبتهم النفسية وحاجاتهم وغرائزهم.
تقول رندا، إن معايشة الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية على قدر الراحة والسكينة التي تنجم عنها إلا أنها تحتاج للكثير من الصبر والتركيز وسعة الصدر، لأنهم “الكبار الصغار”، والتعامل معهم لفترات طويلة والاختلاط بهم منذ الاستيقاظ وحتى الذهاب للنوم يتطلب ذهن خالٍ وهدوء وسلام داخلي، وذلك ما تحاول بثه في نفوس هؤلاء المساعدين الذين اختاروا تلك الحياة.
يعود المساعدون لمنازلهم كإجازة يومين في الأسبوع تتم بالتبادل بينهما، فذلك يتطلب منهم ومن رندا رفيقتهم ومستشارتهم الكثير من المجهود للمحافظة على سلامتهم النفسية، وراحة النزلاء الذين تبدلت حياتهم بذلك الدمج.
قرية “بردنوها”.. رحلة البحث عن معاق
في طريق متعرج يسير الأتوبيس الخاص ببيت الفلك والذي يقل مجموعة الاكتشاف المبكر والتدخل التي تطوف قرى المنيا تبحث عن الذين يعانون من إعاقات ذهنية لتقديم الدعم وتنوير الأهالي بالطرق المثلى للتعامل مع مثل هذه الحالات، بعد أن كشفت إحصائية الفريق عن وجود أكثر من 200 معاق ذهنيًا في المنيا.
البحث عن وسيط داخل كل قرية كان الخطوة الأولى للوصول إلى الهدف، ففكر عماد كمال، المسئول عن مشروع الاكتشاف المبكر، بالتواصل مع الجمعيات الخيرية الموجودة بالقرى لمساعدتهم لعمل حصر بعدد المعاقين ذهنيًا، وعمل فصل في كل قرية يكون ملتقى الباحثين عن الدعم، وبمجرد انتشار جماعة الحصر في قرية بردنوها تم الوصول إلى أكثر من 70 معاقًا ذهنيًا واستجاب لدعوة مركز “أيدام” الوسيط بين الأهالي وبيت الفلك 47 شخصًا يبحثون عن يد العون.
في بيت يكسوه الألوان الزاهية يخطف أنظار المارين في أحد الأزقة داخل قرية بردنوها، كان مركز أيدام، بمجرد الدلوف من باب المركز يأخذك صوت الأطفال الممتزجين باختلافهم، على رغم بساطة المكان إلا أنه كان ملاذ لسهى والدة نورهان التي قال لها الطبيب “ريحي دماغك اعتبري بنتك في تعداد الأموات”، منذ أن كانت صغيرتها في عمر الأربعة أشهر وهي تبحث عن علاج لها.
تشنجات تسري في بدن الرضيعة جعلت الأم تكتشف أن طفلتها مصابة بضمور في المخ سيؤثر على المشي والكلام لاحقًا، لم تيأس سهى وشرعت تبحث عن علاج لابنتها التي كانت طريحة الفراش لا تقوى على الحركة ولا الكلام ولا حتى الصراخ، وبدأت رحلتها في المحاولة لجعل طفلتها طبيعية مثل من في عمرها، وعندما وصلت الصغيرة لعمر الثلاث سنوات كان الوقت الذي تبحث فيه عن حضانة لتدمجها مع غيرها من الصغار.
أغلقت الأبواب في وجهها، حتى عثرت على مركز “أيدام” الذي خصص مكانًا لذوي الإعاقة الذهنية، وبعد شهور من انضمامها استطاعت نورهان الكلام وتطورت حالتها الصحية، بفضل التمرينات وجلسات التخاطب التي كانت تتلقاها، سهى لم تفارق صغيرتها بل كانت تحضر معها وتتعلم من المتطوعات كيف تتعامل معها وتلقنها وتطور من مهارتها وأدائها.
لم تكن سهى المحاربة الوحيدة، بل هناك الكثيرات ضحايا مثلث الفقر والجهل والإهمال، يعانين مع صغارهن في وسط مجتمع لم يتفهم الاختلاف ويزيد من ثقل الشخص الذي يعاني من إعاقة خاصة في ظل عدم توافر رعاية طبية ونفسية للشخص المصاب وأسرته.
الورش.. مشروع حياة داخل “الفلك”
ممر خلفي للبيت يفصل عن مكان المعيشة، تدب الحياة في كل ركن فيه، وتيرة عمل تسير بدقة، الكل في تلك السفينة التي حملت بين جنباتها جميع الأفراد بفرص متساوية، داخل ورشة الشمع يقف ابراهيم المشرف بجانب مريان وهي تضع الخيوط داخل القوالب المخصصة للشمع، بينما يقف أمير أمام الموقد ويذيب الشمع على حمام بخار مائي.
في الطابق العلوي حيث ورشة تشطيب الشمع، تحاول ماجدة إزالة الزوائد منه ووضع اللمسات الجمالية قبل تقفيله استعدادًا لتسليم الطلبية، وفي الغرفة المجاورة تجلس مرينا بضحكتها الآسرة وتحاول حياكة “الكوفية الحمراء” بينما تطلب المساعدة من نجاة التي تجلس جوارها وتتمتع بخبرة أكثر منها في ذلك المجال التي تهوى العمل به منذ انضمامها لعائلة الفلك.
في انتصاف يوم العمل يمسك أحدهم بجرس”البريك”، ليعلن بداية فترة الراحة في جميع الورش وينضم الجمع في إحدى الغرف لتناول الحلوى والشاي والاستراحة من العمل على أنغام مسجل الصوت أو فقرة غنائية استعراضية يبدأها بدر ويشاركه فيها الجميع، دقائق قليلة تضفي الحماس وتزيد من رباط المودة بين الأشقاء قبل مواصلة العمل من جديد.
تقول منظمة الصحة العالمية في تقريرها إن هناك مليار شخص، أي 15% من السكان في العالم تقريبًا، يعاني من إعاقة شديدة تحد من مشاركتهم في الحياة العائلية والمجتمعية والسياسية، ويعيش 80% منهم في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث يكون الحصول على الخدمات الصحية والاجتماعية الأساسية محدودًا في أغلب الأحيان لجميع المواطنين، ويكون ذلك أكثر وطأة على الأشخاص ذوي الإعاقة، لانعزالهم عن العالم، وهذا الحاجز تم كسره داخل عائلة الفلك التي كونت بيئة رحبة لهؤلاء، ساعدتهم على تحسن حالتهم الصحية والنفسية.
ثلاثة ورش داخل المنزل يعمل بهم 16 فردًا، سبعة من سكان البيت و9 من الخارج يعانون من إعاقات ذهنية مختلفة، يبدأ دوام العمل من التاسعة وحتى الثانية والنصف ظهرًا، قبل بداية العمل يجلس ريمون رمزي مسئول الورش مع الشباب العاملين لتأهيلهم للعمل عن طريق مشاركة الحديث حول موضوع ما أو ترك مساحة حرة لكل شخص يعبر فيها عن شعوره وعن ما يأمل في تحقيقه، وعلى أنغام الموسيقى يبدأ الجميع.
يهتم “ريمون” بلقاء أهل الأشخاص المعاقين ذهنيًا والجلوس معهم لتوعيتهم، وتعريفهم بالإنجازات التي تحدث للشخص داخل الورش والمنتجات التي تعرض في الأسواق، وجدوى الاندماج على الحالة الصحية والنفسية لكل شخص وذلك من أجل استخدام نفس طرق وسبل العلاج والدعم داخل المنزل وذلك من أجل الحصول على أفضل نتيجة ممكنة.
في “شوشة”.. تزرع حَب تطرح حُب
العودة إلى المنزل القديم، رحلة تخترق عدد من القرى حتى الوصول إلى قرية شوشة الواقعة على أطراف المنيا، مساحة واسعة تمتد لأكثر من فدان عليها بيت متهالك مكون من ثلاث طوابق وأرض زراعية، تحمل الخير والنماء الذي طرح بسواعد عائلة الفلك، الذين نزحوا إلى المدينة ولكن يأخذهم الحنين لموطنهم الأول، فيذهبون في رحلة قد تحتاج لساعتين ذهابًا وإيابًا، ليجددوا الوصال ويباشرون زراعة الأرض.
في موسم جني الموالح وقف إبراهيم، المسئول عن ورشة الزراعة، يقطف ثمار البرتقال بينما يجمعها هاني في القفة ويحملها بمساعدة مينا ويعود ثانية حتى يجمع باقي الثمار، دون كلل يعملون حتى إتمام المهمة المقرر عملها، ثم يتناولون ثمار تعبهم ويرشفون الشاي بصحبة أوراق النعنيع التي زرعوها بأيديهم، وقبل أن تودع الشمس كبد السماء يكون الجمع في رحلة العودة إلى المنزل.
ينتفع البيت بجزء من ثمار أرض شوشة والباقي يتم بيعه في السوق والعائد لخزينة المنزل للصرف على المرتبات واحتياجات البيت والمقيمين، يعمل في الزراعة كباقي أجزاء المنزل شباب من ذوي الإعاقة من داخل المنزل وخارجه، والمساعدين الذين وهبوا حياتهم ووقتهم من أجل تحقيق الدمج وتطبيقه على أرض الواقع.
تم استثمار تلك الرقعة النامية في عدد من المشروعات الأخرى من أجل إدرار الأموال، مثل تثمين الماشية وبيعها، وتربية الدواجن، وإقامة مزرعة سمكية صغيرة وغيرها من الأفكار الربحية التي تعود بالنفع على جميع الشركاء، الذين يكابحون التحديات من أجل نشر أفكارهم في المجتمع.
انخراط الأفراد أصحاب الإعاقات الذهنية في العمل، ساعدهم على التخلص من المشكلات الصحية التي يعانون منها وفقًا لحديث “شاكر وجيه” المدير التنفيذي لعائلة الفلك، مشيرًا إلى أن أمير والذي يعاني من الإصابة بمتلازمة داون استطاع أن يتطور في الكلام والحديث، بعد أن كان يعاني من عدم مقدرته مع التواصل مع غيره.
ويضيف أن هاني أحد أفراد عائلة الفلك استطاع أن يتخلص من الآثار النفسية الجسيمة التي سببها له المجتمع الذي لم يتفهم إعاقته، وذلك من خلال مشاركته في الأنشطة، وعمله في المزرعة الذي يفضله عن غيره.. “إحساسه انه فرد مسئول بيشتغل وليه أهمية وبيقبض كمان خلاه يكتشف أهمية نفسه وقيمه وجوده في الحياة”.