تمثلات الزمن في تشكيلات العراقي سنان حسين
[wpcc-script type=”161f06006fa9278e2adeda97-text/javascript”]

يطرح سنان حسين جملة من المتناقضات والمتضادات في أغلب أعماله تكمن في غرائبيتها الميتافيزيقية السحرية، فهو يجمع بين متناقضين في آن (الأسطورة والواقع، الوعي واللاوعي، الخرافة واليقين، الشك والاستسلام، الجحيم والجنة، الحرية والقيد، القدرة واللا قدرة، التنافر ما بين الزمان والمكان، اللازمان واللا مكان، الاستكانة والتمرد).
بين كل هذه المفاهيم والعناوين والفلسفات لابد للقارئ والمشاهد للوحات حسين أن يغوص في حيثياتها ومعانيها الوجودية بين المتخيل والواقعي والممكن وغير الممكن، لهذا تأتي أعماله الكثيرة والغزيرة حاملة لهذه المدلولات والقيم الجمالية والمعرفية المدهشة في شكلها وتكوينها الفني والثقافي والحياتي.
ثمة رسائل يبثها سنان من خلال أعماله للمتلقي، فتختلف في جوهرها وخصوصيتها وهويتها ومذهبها التشكيلي، الذي يميل من حيث الشكل والرمز الى المدرسة السيريالية السحرية (Magic Surrealism ) وممكن القول إن جاز التعبير، فهو يعبر عن فهمه الخاص للسيريالية (هدف السيريالية هو تحرير اللغة والأفكار والمعتقدات من قيود العقلانية)، فمنها تحمل شارات فنية بحتة وأخرى معرفية ذاتية محضة، والأهم من الاثنين هي مقارباته التشكيلية الثيمية في مادتها الثقافية الفلسفية العميقة للإنسان والوجود والنوع، المختلف والمتشابه، لكن يصعب تحديد ماهية هذا الإ|نسان وهويته وكينونته، كما يشير إلى ذلك أنطوان أرنولد ووبيير نيكول بعد أن نتصوَّر العالم بأفكارنا، نقارن هذه الأفكار ونجد أن بعضها ينتمي لبعض، والبعض الآخر لا ينتمي، فإما أن نجمعها معا أو نفصلها عن بعض. ويسمى هذا التأكيد أو الإنكار، وبشكل عام، الحُكم. ويسمى هذا الحُكم قضية، ومن السهل أن نرى أنها تتكون من شقين؛ الشق الأول يؤكد أو ينفي شيئًا ويسمى الموضوع، والشق الثاني هو ما يؤكَد أو يُنفى ويسمى المحمول.

يجمع الموضوع بالمحمول فعل الكينونة وهو في الإنكليزيّة فعل To Be فتصبح للقضية ثلاثة أجزاء، الموضوع والمحمول وفعل الكينونة .
تمكن الفنان من اللعب بالزمن ببراعة من خلال قدرته على التحليق في المتخيل (The visualizer) واستدعاء الذاكرة والتاريخ (Recall the memory) بروح الحاضر وإشراقاته وتطلعه لزمن المستقبل، ويبدو أن سنان له نظرته في فهمه وقناعاته لمدلولات الزمن وأنساقه، حيث استطاع أن يوهم المتلقي بأن الزمن له بداية، كما يصورها ويجسدها في بعض لوحاته، خاصة لوحتيه «غواية حواءط و»تناغم بشري»، وأخرى منذ بدء الخليقة في قصة «آدم وحواء» وتأريخها، التي ترسخت في ذهن الذاكرة الجمعية ولم يستطع الإفلات منها، سوى اليقين بها، لكن في حقيقة الفهم للشارات (( Signals التي احتوتها لوحاته يبدو الزمن متداخلا لديه، وقد لا تفرق بين لحظاته الأزلية والآنية، على حد سواء، أي أن الزمن لديه هو امتداد لذاته (For its own sake ) لا توجد فواصل وأيضا يولد الإنسان عاريا ويستمر في عريه الخلقي والوجودي والفكري، وهو في صيرورة دائمة وفي حلم دائم ويقظة دائمة، وإن تلاشى جسده فثمة خيال وظل إنسان أو شبح (a ghost) يلاحق سنان ويطارده في يقظته ونومه، يهيمن على ألوانه وفضاء عالمه التشكيلي بذاكرته الناصعة وبأشكال ورؤى متجددة في حيرتها ومعانيها، فتتزاحم أفكاره وبصيرته، لكي يلتقط بحسية، بدون لبس وشك، هذه الأشباح الآدمية الحيوانية الطائرة والسابحة في مسرحه التشكيلي، وفي وجدانه غدا ينطقها ويحاورها ليتقين من ماهيتها وهويتها وصفاتها وأزمانها، ووقت مجيئها ووقت غيابها، ليسألها من يشكل من؟ من هو ابن الحقيقة وابن لحظة الوجود؟ ومن هو الكائن المفترض الذي غزا لوحاته وتطريزاته وفسيفساء ألوانه وأضوائه الساطعة، وتمكن من أن يسلط عليها حزمه الضوئية بوهجها لكي يخضعها إلى مجهره (ذاكرته) لرؤية حيز الآدمية، في جسد الحيوان، ليسترح بعد عناء طويل من قلقه وصراعه مع الأسئلة التي تجول في خاطره عن أصل الأشياء (The origin of things ) وحركتها وسكونها وزوالها، أو غيبتها، ومن ثم ولادتها وانبعاثها من جديد، تُعرف الأنظمة الصريحة والضمنية للذاكرة على أنها أنظمة تصريحية وغير تصريحية. تتضمن هذه الأنظمة نوايا ذات معنى لاسترجاع وخزن الذاكرة، أو قلة ما إلى ذلك. الذاكرة الصريحة هي الخزين الإدراكي والبيانات المتعلقة بالذكريات، فما من سكون وهدأة له، إلا بعد انتهائه من لوحته، ومن ثم تأطيرها والإمضاء عليها وهي حاملة لنا دهشة في التشكيل، وحيرة في الأسئلة، وكيفية فك عقدها، وقد يلفنا الفنان بوعي أو بلا وعي في دائرة أسئلته وشكه، ونغدو جميعا في حيرة من هذا القلق الوجودي، وما مدى قدرتنا على الفهم للولوج إلى عالم سنان التشكيلي الصادم لذائقتنا ولوعينا، وقد يغدو من العسير علينا أن نفهم أحلامه وجنونه وخرافة أشكاله وألوانه ومسرحه ومن وجهة نظر هيغل عن الزمان والمكان والأزل مدينةٌ لفلاسفة اليونان القدماء، بقدر ما هي مدينة للفلاسفة المحدثين.
لوحة سنان حسين، مسرح حقيقي أبطاله كائنات من مخرجات خياله الخصب وفضاء مسرحه فهو مليء بالأيقونات والرموز ذات دلالات تعبيرية مختلفة، منها نفسية وفكرية ومعرفية ولاهوتية
والتفرقة بين الزمان والأزل ضمنيّةٌ عند بارمنيدس، الذي أنكر حدوث الصيرورة، ومن ثم أصبح الماضي والمستقبل، وكلّ شيءٍ متأنّيا في الحاضر، والزمان في محاورة طيماوس لأفلاطون، وعند الأفلاطونية المحدثة بصفةٍ عامةٍ، هو الصورة المتحركة للأزل، والأزل يسِم المثل بخصائصه فهي لازمانيّةٌ، ويستبعد استعمال الأفعال في صيغة الماضي والمستقبل. يشير أفلاطون إلى محيّرات الزمان مثلاً وضع (الآن)، اللحظة الدقيقة أو الماضي. ينظر هيغل إلى الزمان والمكان، لا على أنهما من اختصاص المنطق، بل فلسفة الطبيعة، فهو ينظر على أنهما صورتان للحساسيّة يتميزان عن تصورات الفهم، بل على أنّهما أعظم تجلٍّ أساسيٍّ للتصوّر (الفكرة الشاملة) في الطبيعة، أن سماتهما الرئيسية هي الأبعاد الثلاثة للمكان والزمان (الحاضر والماضي والمستقبل).
ومن هنا يشكل مخياله وأخيلته سنان حسين في تجسيد كائناته في غرابتها ومحيطها وبيئتها التكوينية، تفترض الفلسفة العقلانيّة/المثاليّة أن ما يوجد هو الأفكار فقط، وأن كل الأشياء تتكون من الفكر، وأن كل الأشياء تتطلب مجموعة من الأفكار المترابطة وكل الظواهر، بما في ذلك الوعي، تنتج من فهم تأثير العالم الإسميّ الذي يقبع بمعزل عن الشيء- في- ذاته. فقد تغدو في تصوره أثرا وقصة، وفي موضع أخرى لها رؤية حاضراتية تعيش في زمنه الذي هو زمننا وحاضرنا، وليس زمنا خرافيا أسطوريا، وكأنه يكتب تأريخا جديدا في خلق ماهية الأشياء والكائنات.
لوحة سنان حسين، مسرح حقيقي أبطاله كائنات من مخرجات خياله الخصب وفضاء مسرحه فهو مليء بالأيقونات والرموز ذات دلالات تعبيرية مختلفة، منها نفسية وفكرية ومعرفية ولاهوتية، ومنها ذات معان مجهولة وأزمانها متداخلة، والدراما، التي تشكلها هي حركة مفرطة وعنيفة ومنها ما هو ساكن كأنه جثة هامدة، وكل هذه وتلك تعبر عن انفعالات نفسية وفكرية له يجسده بكثافة ألوانه بشكل تأثيري، وتعبر كذلك عن فكر مفرط بقلق الوجود، وعن زحام الأسئلة وتراكمها التي تجول في خاطره عن هوية هذه الكائنات ومدى المسافة التي تفصلها عن بعضها لتشكل هويتها الخلقية، وما مدى قدرتهما على التعايش والتباعد في هذا المسرح المفترض العبثي ( The absurd virtual theater ) الذي تعبث به ألوان سنان حسين وأدواته واشتغالاته وتشكيلاته.
سنان حسين يعرض مجسماته التصويرية على مسرحه بإجادته تقنية الأبعاد (Dimensional technology ) والمسافات ما بين عناصره وأشكاله وبعدها وقربها من زوايا اللوحة، في ما بينها، وكيفية توزيع مواقعها على السطح التصويري، ومدى قدرة المكان في توظيف فكرته، إن كانت محلقة أم على الأرض، مقلوبة أم معتدلة، أم مائلة، هذا من جهة ومن جهة أخرى ما مدى قرب المسافة بينها وبين زوايا الرؤية المختلفة للمتلقي، كما تجد ذلك في أكثر من لوحة له (لوحة الماعز الذهبي ولوحة حوار الأجزاء) الذي احترف تقنية الأبعاد، البعد المكاني والبعد الفكري وترك ألوان الجسد وحركاتها وتعابيرها لتشكل أفقه الرؤيوي ومفاتيح مقولاته وفصوص فنه اللامع.
٭ كاتب من العراق
