أمين معلوف: خلاص البشرية يمر عبر استعادة أيديولوجية

نشر الكاتب اللبناني أمين معلوف «غرق الحضارات»، وهو دراسة دقيقة وواضحة، يبدأ من غروب العالم العربي، ليصل إلى نهاية أيديولوجيات القرن العشرين والانزلاق المدمر الذي وصل إليه في كل جهات وثقافات الكوكب. بعد مرور كل عقد من الزمن، ولمدة 30 عامًا، يطل الكاتب والأكاديمي أمين معلوف (بيروت 1949) على هاوية الذاكرة وعلى المقاطع المأساوية للتاريخ […]

أمين معلوف: خلاص البشرية يمر عبر استعادة أيديولوجية

[wpcc-script type=”8a619d4f1017105ac935a2d3-text/javascript”]

نشر الكاتب اللبناني أمين معلوف «غرق الحضارات»، وهو دراسة دقيقة وواضحة، يبدأ من غروب العالم العربي، ليصل إلى نهاية أيديولوجيات القرن العشرين والانزلاق المدمر الذي وصل إليه في كل جهات وثقافات الكوكب. بعد مرور كل عقد من الزمن، ولمدة 30 عامًا، يطل الكاتب والأكاديمي أمين معلوف (بيروت 1949) على هاوية الذاكرة وعلى المقاطع المأساوية للتاريخ الحديث للخوض في قراءة مريرة للماضي، في محاولة لفهم التأسف على الحاضر وخصوصا تحديات المستقبل. إذا كان الكاتب اللبناني في عام 1998 توقّع في كتاب سابق «الهويات القاتلة» وجود قومية فاعلة سياسية بارزة اليوم، وفي عام 2009 توقف عند اضطراب العالم من خلال فقدان القيم اليوم بلا منازع، فهي الآن تعتبر مواضيع الساعة، مثل الآلية، الذكاء الاصطناعي، التدهور البيئي، التطرف الإسلامي والخطر الذي يتربص بالمشروع الأوروبي وهذا ما يملأ صفحات «غرق الحضارات» الصادر عن دار النشر (Alianza) 2019.
انطلاقًا من ذكريات طفولته وعائلته، التي تبدأ عند نهاية العالم العربي الاستعماري، والتي أثارها الأدب الإسكندري العالمي لقسطنطين كفافيس (أعظم شعراء اليونان المعاصرين) وأونغاريتي (الشاعر الإيطالي المولود بالإسكندرية 1888) ، يتتبع الحائز جائزة أمير أستورياس (2010) رحلة مثيرة وعاطفية عبر «التاريخ الكارثي للعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين». انطلاقا من حلم لبنان المجهض في شبابه، إلى الجهادية اليوم، مرورا عبر مصر العربية الناصرية أو الثورة الخمينية الإسلامية، التي كان شاهدا عليها، يحلل معلوف العواقب المأساوية للصدام الحضاري، الذي تنبأ به صموئيل هنتنغتون، الذي نشهده اليوم، بدون أن يغفل تحديات المستقبل، «رغم أن غرق مجتمعاتنا هو شيء واقع لا محالة، البشرية لن تسمح بزوال كل الإنجازات التي تحققت».

■ في منتصف القرن العشرين، تبنت العديد من الدول العربية، بقيادة مصر جمـــــال عبد الناصر قومية اشتراكية أو شيوعية، لماذا فشل هذا النموذج ومعه مفهوم العروبة؟
□ إنها قضية معقده، ولكن بشكل عام، فشلت النزعة القومية العربية من وجهتين. السبب الأول هو أنها بنت نفسها على المعركة ضد الغرب، وهذا شيء طبيعي تماما، لأن المستعمرين كانوا الغربيين، ولكن ذلك دمّر التعايش. السبب الثاني أنها اعتمدت على النموذج السوفييتي، الذي كما رأينا في وقت لاحق في U.R.S.S. نفسها، لا يمكن إلا أن تفشل. فقد أفلست سياسيا لأنها كانت تقوم على السلطوية وتقييد الحريات، واقتصاديا لأنها كانت تقوم على شكل مركزي وبيروقراطي للغاية على اشتراكية غير فعاله للغاية، واضطرت قوى التغيير في العالم العربي إلى اعتماد نموذج معطل، فعانت من عواقب هذا الاختيار.
■ ومع ذلك، فإن هذا النموذج لم يكن هو السبيل الوحيد، مثلا «لبنان»، الذي كان مثالا على تعايش متعدد الأعراق والطوائف، لماذا فشل هذا النموذج في وقت كان بإمكانه أن يكون منارا في المنطقة؟ هل كانت قوة هذا التكامل هي سبب ضعفه؟
□ إن فشل التجربة اللبنانية يرجع إلى عوامل مختلفة تماما، وكذلك مضادة. وما كان كارثيا بالنسبة للبلاد هو أنها أرادت تنظيم علاقات بين مجتمعاتها العديدة بطريقة مشروعة، فقط على الورق، ولكنها في الواقع كانت مضرة تماما. كان النموذج يريد الاعتراف بوجود مختلف المجتمعات المحلية، وأعتقد أن ذلك لا غنى عنه، ولكن الطريقة التي تمت بها، مع نظام التحصيص، في دولة مركزية ضعيفة عانت بشكل متزايد من ضغوط قوية من طرف كل الجماعات، كل ذلك أدّى إلى الفشل وعدم القدرة على بناء شعور حقيقي من الانتماء، والولاء الوطني. وبعد عقود من الحرب، نشهد اليوم ظاهره في شوارع بيروت، وهي ثورة ضد هذا الوضع الراهن. يحتج الناس على أنهم انقسموا إلى مجتمعات محلية وتم استغلالهم، وآملُ ان يؤدي ذلك إلى تغيير كان ينبغي ان يحدث قبل 40 سنة.

مشكلة العالم العربي هي اننا لم نقل في أي لحظة سنحرز تقدما وسنرى كيف نحل هذا الأمر. كان هناك هاجس مشلول للغاية ومُفقرٌ مستمر حتى اليوم.

■ في عام 1967، كانت بداية نهاية العالم العربي ذي الاتجاهات التحديثية، ماذا كان دور الحرب مع إسرائيل والهزيمة التي تلتها؟
□ كانت حرب 67 (التي يطلق عليها العرب حرب الأيام الستة) بداية لنهاية قومية عربية سعت، رغم انها ليست علمانية بحتة، إلى تحقيق المساواة بين جميع الطوائف، وفصل الدين عن الحياة السياسية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت النزعة القومية تستند أساسا إلى الدين، وكان الصراع بين العرب والإسرائيليين عاملا حاسما في هذا التطور، لأنه كان ذريعة لجميع أولئك الذين لا يريدون تغييرا حقيقيا. ولكن الأخطر من الصراع نفسه هو السبيل للرد عليه. في كتابي أتحدث عن حالات مثل كوريا الجنوبية، التي لما يقرب من 70 تواجِه تقسيم البلاد مع ديكتاتورية شيوعية محطمة في الشمال، والتي تجعلهم في خطر الحرب الدائمة. ولكن هذا لم يمنعهم من الحسم بأن الأولوية هي التنمية والتعليم والتقدم… مشكلة العالم العربي هي اننا لم نقل في أي لحظة سنحرز تقدما وسنرى كيف نحل هذا الأمر. كان هناك هاجس مشلول للغاية ومُفقرٌ مستمر حتى اليوم.
■ منذ تلك السنوات بدا العالم العربي ينجرف تدريجيا نحو الأصولية، ولكن كيف وصل مِن «زمن الخليفة الحكم» ـ تعبير لجمال عبد الناصر- إلى هذا العالم العربي التقليدي والراديكالي الذي نراه اليوم؟
□ حتى الستينيات من القرن العشرين، كانت الحركات الإسلامية تقريبا غير موجودة وبدون أدنى تأثير على الحياة السياسية والاجتماعية. كان النجم اللامع هو عبد الناصر والأيديولوجية المسيطرة هي القومية العربية. الحقيقة أن عبد الناصر كان ذا نفوذ كبير في المنطقة، ولقرون، عانت المنطقة من فشل يوازي هزيمة 67، كل ذلك أدى لتشويه العروبة كرد فعل، وعادت المصداقية للحركات التي عانت كثيرا من عبد الناصر.
وفي رأي معلوف، «منذ 1977/1978 الإسلاموية أضحت من الصعب إيقافها، عندما جاءت تلك الحركة إلى السلطة في بلد كبير وقوي مثل إيران، وعندما اندلعت الحرب الأفغانية الأولى، حيث ولدت الجهادية، التي كانت في ذلك الوقت ضد الاتحاد السوفييتي ومن ثم، قليلا قليلا، أصبحت ضد الغرب. دورة من الأحداث التي كان يمكن التنبؤ بها، والتي يوجه فيها الكاتب اللوم لجميع الأطراف على قدم المساواة. «ساهم السوفييت في تدخلهم الأخرق وغير المنتظم في أفغانستان، وكذلك الغربيون، وخاصه الأمريكيين، من خلال تشجيع الجهاد لمواجهة الاتحاد السوفييتي». حول الجهاد الحالي، يرى أمين معلوف أنه رغم هزيمة الدولة الإسلامية «يمكن بزوغ حركات جديدة من النوع نفسه، فهذه الجماعات المتطرفة، غالبا ما تكون مستعملة من أطراف أخرى لأهداف سياسية، لكن يعتقد الكاتب الأكاديمي أن الغرب أعطى أهمية مبالغا فيها لهذه المجموعة. «لقد سقط الغرب في فخ الوهم الذي أوجدته تلك الحركة، التي اتخذت اسما مزيّفا جدا، كما لو كانت خلافة أو دولة، وهذا أمر سخيف. إنها ببساطة جماعة راديكالية، شبيهة بتنظيم «القاعـــدة»، التي بســـبب عدم استقرار العراق وسوريا استقرت في أحــــد أقاليم البلدين. وأعتقد ان الغرب أعطاها الكثير من الأهمية لتكون قادرة على إعلان انتصار ما في يوم من الأيام».
■ سنة 1979، سنة لها أهمية داخل كتابك، السنة التي تُسمى بالثورة المُحافِظة. ماذا يمثل لك أشخاص كآية الله الخميني أو مارغريت ثاتشر؟ وأي عالَم ظهر حينئذ؟
□ ظهر العالم الذي ما زلنا نعيشه الآن، والذي تشكلت أحداثه منذ 40 سنة مضت، تزايد التطرف الإسلامي وادعاءات الهوية، كما تجلي منذ ذلك العام، خاصة بعد الثورة الإيرانية، أصبحت يوما بعد يوم عاملا رئيسيا في رأس المال السياسي. وعلاوة على ذلك، ننظر إلى ثاتشر، ومن ثم ريغان في الولايات المتحدة، وصعود الليبرالية اقتصاديا وسياسيا، والحركات المحافظة والقومية، التي بدأت منذ ذلك الحين، حيث لا يمكن وقفها، والآن الدور نفسه يظهر في الهند والبرازيل وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
■ كما تشير إلى ذلك، وخارج العالم العربي، فإن الغرب أيضا قلق، على سبيل المثال، كنتَ قد حذَرتَ منذ سنوات، مع الجبهة الوطنية، من أن الشعوبية السياسية الأوروبية ليست أمرا عابرا، لماذا تجذَّرَت إلى هذا الحد؟
□ أعتقد ان العامل الحاسم في ظهور الحركات الشعبوية وديمومتها هو تصور وجود تهديد. تهديد اقتصادي واجتماعي، خاصة خطرا مقبلا من العالم العربي. التهديد الذي يمكن ترجمته في أعمال العنف الإرهابية، والهجرة الجماعية، وهذا هو الشيء الأول الذي يغذي صعود السياسيين الشعبويين. وبما ان هذه ليست ظواهر عابرة، حيث ان الوضع في العالم العربي لا يبدو أنه سيستقر في العقود المقبلة، فإن غذاء الشعبوية الغربية سيظل موجودا لفتره طويلة.

سنمضي فترة صعبة للغاية، ولكننا سنستعيد عافيتنا وسنحاول بناء الأشياء على أسس أفضل. نحن بحاجه إلى البقاء هادئين، لأنه يتعين علينا بناء عالم قادر على العمل.

■ الوجه الأكثر مرارة لهذه المشكلة هو أزمه اللاجئين. كنتَ مهاجرا من دولة عربية كانت تعيش في حرب أهلية، هل خانت أوروبا قيّمَها؟
□ بمعنى آخر، صحيح أنه في هذا العصر الذي حققت فيه الإنجازات التقنية تحسينات لا يمكن تصورها، أصبح العالم أكثر انغلاقا مما مضى. وهذا نتيجة للشعور السالف الذكر بالتهديد، وأيضا لسقوط نعمة القيم التقليدية لليسار الغربي، خاصه الأوروبي، الذي هو بالتأكيد في أزمة. فكرة العالمية واحترام تنوع الثقافات التي جعلت من أوروبا بوتقة انصهار الأجناس، التي كانت في العقود الأخيرة، قد اختفت لصالح الرأسمالية، التي بعد اختفاء الشيوعية أبانت عن أسوأ وجه لها، والأكثر استغلالا للإنسانية، وهذا أمر يحتاج إلى تغيير، ولا يمكن ان يحصل إلا من خلال الضغط الداخلي للرأي العام.
■ الاتحاد الأوروبي نفسه، مفهوم أوروبا، معرض للخطر، كما نراه الآن بخـــــوج بريطانيــا من «البريكست»، لماذا يتجه العالم بأسره نحو التجزؤ، لماذا نعود إلى القبيلة؟
□ إن هذه ظاهرة عالمية، واعتقد أن السبب الرئيسي يكمن في اختفاء النقاش الفكري بين الرأسمالية والشيوعية، الذي حدد جزءا كبيرا من القرن العشرين. وقد اُستعيض عن ذلك بادعاءات الهوية الساخطة والعنيفة في كثير من الأحيان، التي تُجزِّئ جميع المجتمعات، وهذا تراجع أخلاقي وفكري. وفي أوروبا فإِن ما تحقق بعد الحرب العالمية الثانية، كان أكثر دراماتيكية، بحيث كان مشروع الاتحاد الأوروبي هو الأكثر جمالا الذي أنتجه العالم في القرن الماضي. ويجب أن ينتصر. من أجل ذلك ينبغي اتخاد قرارات حاسمة، مثل المدى الذي ستُدمج فيه البلدان ودورها في العالم. وقد يدرك الناس والقادة ذلك ويسعون إلى تحويل المؤسسات، لكنها ستكون عمليه طويلة ومعقدة.
■ تختتم الكتاب بالتحذير، وإن كان مع لهجة من الأمل، فالأخطار المختلفة هي أكثر في الحاضر من تلك المستقبلية، مثل الآلية، وتغير المناخ، والذكاء الاصطناعي… هل مازال ممكنا العودة إلى الطريق الصحيح؟
□ أرى أنه من المستحيل تجنب فترة من الاضطرابات، والتي اسميها غرقاً. سيحدث، نعم، ولكن بعدها يجب البناء، لن يكون ذلك نهاية العالم. إذا فكرتُ في شعوري العميق، أود ان أقول إننا سنمضي فترة صعبة للغاية، ولكننا سنستعيد عافيتنا وسنحاول بناء الأشياء على أسس أفضل. نحن بحاجه إلى البقاء هادئين، لأنه يتعين علينا بناء عالم قادر على العمل.
ليس ثمة حلول إعجازية، لكن ينبغي التفكير في طرق جديدة للتعايش، وهو أمر مُلزم لنا. ليست هناك عوالم أخرى من غير عالمنا هذا لنتقاسمها، لذا ينبغي تنظيم العيش بيننا. وهذا ليس سهلا، ذلك يتطلب الاحترام المتبادل ورؤية للإنسانية، والهوية تحتاج إلى عمل أكثر. كما يتوجب علينا أن نحاول استعادة أيديولوجية عالمية، شيء يضم جميع الحضارات كما فعلت في السابق الاشتراكية والشيوعية، بدون السقوط في مطباتهما. إنه عمل هائل ينتظرنا، وقبل كل شيء، مفتوح للأجيال الشابة، التي ستعيش في السنوات الأربعين أو الخمسين المقبلة.

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!