إيتيان دينيه … منعطف جديد في الفن الاستشراقي

«إن كانت الجنة في السماء فهي فوق بوسعادة، وإن كانت تحت الأرض فهي تحت بوسعادة» الرسام ناصر الدين دينيه عني الفنان العالمي ألفونس إيتيان دينيه باريس (1861/1929) سليل العائلة البورجوازية، الذي اشتغل والده بالقضاء وآنس من ولده حب الفنون والموهبة فيها فأرسله إلى مدارس الفنون حتى تحصّل على منحة دراسية للجزائر، ومكث فيها خمس سنوات […]

إيتيان دينيه … منعطف جديد في الفن الاستشراقي

[wpcc-script type=”d0a1c458e603ea45d7b6627a-text/javascript”]

«إن كانت الجنة في السماء فهي فوق بوسعادة، وإن كانت تحت الأرض فهي تحت بوسعادة»
الرسام ناصر الدين دينيه

عني الفنان العالمي ألفونس إيتيان دينيه باريس (1861/1929) سليل العائلة البورجوازية، الذي اشتغل والده بالقضاء وآنس من ولده حب الفنون والموهبة فيها فأرسله إلى مدارس الفنون حتى تحصّل على منحة دراسية للجزائر، ومكث فيها خمس سنوات يتعرف على الصحراء، التي أولع بها ولعا لا حد له، وتكللت مسيرته الفنية بميداليات أولها عام 1884 من صالون الفنون لقصر الصناعة والميدالية الفضية عام 1889 من المعرض العالمي، حيث أطبقت شهرته كرسام مقتدر الآفاق.
كانت الجزائر منذ القرن التاسع عشر مهوى أفئدة الرسامين والشعراء وتردد عليها كثيرون ينشدون الراحة يستجيبون لنداء غريزي فيهم هو البحث عن الغرائبية والعجائبية، والتمدد بعفوية تحت شمس شمال افريقيا الحارقة يجوبون الأزقة والحارات، يختلسون النظرات إلى النسوة الملتفات في عباءاتهن وملاحفهن، أو يذهبون في رحلة صيد للغزال في الصحراء، أو التمتع بطقوس حفل زفاف أو ختان، ويمكن القول براحة إن معظمهم كان يحمل نظرة استشراقية للشرق، تلك النظرة التي أدانها إدوارد سعيد وعبد الله العروي وحسن حنفي، نظرة مهدت للاستعمار أو وطدت أركانه بتبريره من هوغو إلى ماركس وإنجلز، اللذين رأيا في الجزائر مجرد أرض جغرافية لا يمكنها المرور إلى الاشتراكية، إلا تحت مظلة الرأسمالية الفرنسية، فليس الشرقيون سوى همج يتكفل الغربي المتفوق والمتمدن بتمدينهم، فالشرق في عمومه ليس سوى شبكة صيد لأشعة الشمس الحارقة والكسل واقتناص المتعة، الشرق الذي أسلم عمره الفاني إلى الميتافيزيقا وإلى التقاليد التي أحكمت قبضتها على العقل والروح معا، يتجلى ذلك في النظرة الشرقية للمرأة، وإدانة الجسد وحجبه كممنوع في الفضاء العام، ولكن لا بأس من اختلاس المتعة بعيدا عن النظرة الرسمية ذات الخلفية الفقهية في الأساس، هذه هي النظرة الاستشراقية للشرق، التي كانت تأتي إلى شمال افريقيا لتأكيد هذه الأراء المسبقة في ملامح النساء وفي الأزقة وفي الأسواق، وفي السهرات الليلية في السراديب، حيث تختلط رائحة التبغ برائحة الأجساد المكدودة من الرقص والسمر، ولم يخرج عن ذلك أحد من الغربيين من دولاكروا إلى ماتيس إلى ألفونس دوديه إلى أندريه جيد في القرن العشرين تمثيلا لا حصرا.
وتلك كانت بداية إتيان دينيه الفنية فمعرفته بالعربية وبثقافتها مكنته من معرفة التابوهات والأعراف والتقاليد، فعرف متى يظفر باللحظة التي يقارب فيها الممنوع فيرسمه، وتجلى ذلك في لوحاته، حيث رسم أجواء التعري، حيث المتعة فراديس معلقة على حيطان الحذر والترصد، وكان في ذلك مثله مثل أي رسام غربي يهتم بالأجواء الغرائبية أو الشبقية، حيث المرأة ليست أكثر من مثير جنسي مقموع، أو مترصد للحظة أو جسد ناعم بض حالم، ينطوي على العالم الداخلي الخاص، كما في نساء الجزائر لدولاكروا وشمال افريقيا كلها، عالم أحمر تنز منه الشهوة والبهجة معا ودفء الحميمية كما في لوحات ماتيس، خاصة في لوحة «تحت شمس طنجة»، ولم ينس الرسامون أن يترصدوا المواضيع التي تؤكد تخلف الشرق فرسموا الإماء عاريات الصدور تتدلى أثداؤهن كما في سوق العبيد في مراكش في مطلع القرن، أو امرأة تطل بحذر من خصاص الباب على الزقاق، كأنها تتلصص وهذا لتأكيد حطة النظر إلى المرأة، وتأكيد رجعية الشرق، ولكنهم لم يبحثوا عن مواضيع للوحاتهم، حيث استبد الغربي الكولونيالي بالأرض والعرض والإنسان، فنهبهم معا بغير وجه حق، وظهر للعيان زيف دعوى التمدين. خضع دولاكروا للنظرة المركزية الأوروبية حول المرأة، فبحث عنها في عالم الحريم ولم يجدها في الحقول، حيث تعمل سخرة لفائدة المعمر، أو جسدا انتهكه الآخر الأبيض بالعسف واغتصبه، لم ينتبه دولاكروا لظاهرة الوشم على الوجه، الذي أتقنته المرأة الجزائرية حتى ينفر منها الجنود ولا يغتصبونها، فهم يعافون الوشم الأزرق على الوجه، بكل تأكيد غابت هذه المواضيع الحساسة عن الريشة الفرنسية، لأنها لا تغني صاحبها في المزادات العلنية في معارض الرسم العالمية.


لكن دينيه تعرف على الصديق الأبدي سليمان بن إبراهيم، الذي أحبه وتصافى الود بينهما فكان لقاء ومحبة روحية لا مثيل لها، تعرف من خلالها على الإسلام واعتنقه رسميا عام 1913 وفي هذه المرحلة الفارقة تخلى دينيه رسميا عن اسمه إيتيان، وأصبح ناصر الدين، وتخلى عن النظرة الغربية للحياة وللآخر المختلف، فلم تعد شمال افريقيا مسكن الهمج أو البرابرة، ولا هو عالم التابوهات ومرتع اللذات المختلسة تحت الشمس الحارقة، بل صار الشرق الحضاري والروحاني المختلف، ولكنه لا ينفك يمد الإنسان بأسباب الراحة النفسية والتوازن الوجودي، بين متطلبات الروح والجسد، وتجسد هذه الفكرة في لوحات تخلى فيها عن رسم النساء العاريات، وركز على مواضيع العفة والطهر والاحتشام، وركز على الجمال الروحي ورسم مشاهد رائعة بمقاربة فنية تتلمس المحاكاة وتجسيد الواقع الإثنوغرافي، وهي لوحات تدخل في نطاق الرسم الانطباعي والواقعي معا، حيث رسم الشيوخ ينتظرون هلال رمضان، وركز على الابتهاج بمقدمه من خلال رسم معبر للوجه وللعين الراصدة، والصلاة الجماعية ورحلة الحج، ومعلم الكُتّاب والحياة العربية البسيطة في البيت وفي الزقاق، ولعب الصبيان والفلقة (طريقة معاقبة في الكتاب على باطن القدم بالعصا) السقي، البيوت المساجد الواحات النخيل عالم فني يقترب من 500 عمل فني يختلف بالكلية عن الرسم الاستشراقي الذي مارسه الفنان الغربي، ومن قبل حيث النظرة الاستعلائية والمركزية الأوروبية ظاهرة في الأعمال، بخلاف أعمال دينيه، حيث تظهر روح الاحترام والندية والاعتراف بالآخر المختلف، بل الاندغام في روحانيته ونظرته واعتناقها.

ظل وفيا لواقعيته ولانطباعيته ناقلا للواقع، بمحاكاة كبيرة مع حسن استخدام للألوان والتعبير بواسطتها عن مختلف الحالات الشعورية، إن استخدام التأثيرات الضوئية وتوزيع الظل بمهارة فائقة.

في المرحلة الأولى قبل إسلام دينيه عام 1913، كان مثله مثل أي فنان غربي يبحث عن الغرائبية والأساطير الشرقية، وأجواء السحر والشعوذة ورحلات الصيد، وعالم النساء ذوات الأجساد البضة الناعمة، أو بائعات الهوى ورفاهية الطبقة المعمرة الجديدة وعملائها، وخلال هذه المرحلة أسس دينيه «جمعية الفنانين المستشرقين الفرنسيين» عام 1893 وهذه هي النظرة الاستشراقية التي صورت الاستعمارونقلته إلى العالم كحالة حضارية، إلى حد أن الناس سعداء باستعمارهم، كما نقلت تلك الأجواء اللوحات الفنية، ولكن المرحلة الثانية في حياة دينيه اختلفت بالكلية، فلا ننسى أنه حرر بيانا عنونه «ارفعوا أيديكم عن بوسعادة» للاحتجاج على ألوان الإبادة لمعالم المدينة وأشكال الحياة الفريدة، ولا يغيب عن أذهاننا أنه رسم البسطاء والكادحين وأجواء الفقر والمعاناة، وشظف العيش في لوحات مثل «الأرملة» و»العمياء» و»عهود الفقر» و»الأهالي المحتقرون»، وكانت طريقة ناعمة للاحتجاج على السياسة الاستعمارية، فلم يكن بوسع الفنان أن يحتج عاليا على سياسة فرنسا، فيتعرض للإقصاء، وربما التصفية، وهو الفنان الطامح إلى الحضور في المعارض العالمية، ولا ننسى أنه بمجرد إعلانه الإسلام وصفه مواطنوه الفرنسيون بالخائن، وتحمل تبعات ثقيلة جراء ذلك، وتعرض للتهميش بسبب نظرته المغايرة للنظرة الكولونيالية. على الرغم من أن لوحاته تزين كبريات المتاحف العالمية كباريس ولندن وفيينا وكذا معجم لاروس.
ظل وفيا لواقعيته ولانطباعيته ناقلا للواقع، بمحاكاة كبيرة مع حسن استخدام للألوان والتعبير بواسطتها عن مختلف الحالات الشعورية، إن استخدام التأثيرات الضوئية وتوزيع الظل بمهارة فائقة، ولكن لا يمكن أن تخطئ العين اللمسة الروحية في كل لوحة، وتوفيق الرسام في اقتناص اللحظة تلك الحالة من النشوة والفرح المغمور بالسكينة، التي هي أشبه بحالة النرفانا التي يعيشها العربي في لحظة تفاعله مع محيطه الخارجي، وفي أداء طقوسه الدينية وفي انخراطه في الحياة العامة، ويزيد دفء الجو وإشراق الشمس وانفتاح الأفق على المدى البعيد وتناثر الخضرة في الواحات على جعل اللوحة مغمورة بالضوء، ذلك الضوء الذي يعكس حالة الصفاء في النفس الإنسانية. إن ذلك الحرص منه على رسم أداء الناس للشعائر الدينية والأعياد كلوحة «سحور رمضان» و»المغادرة إلى مكة» والعناية باللباس وتقاليده، والانتصار للعفة والحياء في رسم المرأة، كانت تقول للعالم بصوت واضح، إن هذا الشعب الذي قدمه الاستعمار على أنه فرنسي يختلف بالكلية عنهم، وهو في الواقع دفاع فني عن الهوية الجزائرية وبطريقة ذكية لا تتماهى مع النظرة الاستشراقية النمطية، التي يصر بعضهم على إقحامه فيها، بدون مراعاة الشروط التاريخية التي عاش فيها الفنان.
بيت دينيه اليوم في مدينة بوسعادة – حيث ضريحه – التي خصها الفنان بـ 130 لوحة، التي تبعد عن العاصمة الجزائر بحوالي 260 كلم صار متحفا منذ عام 1993 وصار معلما من معالم المدينة، مثل طاحونة فيريرو والواحة والشلالات وزاوية الهامل، التي تبعد بحوالي 13 كلم والتي مرّ بها جاك بيرك ومالك بن نبي ومحمد البشير الإبراهيمي وكثيرون.
حوار حضاري هادئ مارسته هذه المدينة – بوابة الصحراء – بلا صخب إعلامي وألانت ما اشتد من جبروت الغرب وطوعته، وما زالت اليوم تستقبل عشاقها بلوحات دينيه الجميلة والمعروضة هناك.

٭ كاتب جزائري

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!