الأحاسيس والفوضى في أعمال البيروفية ماريتا فونتانا

أعمـال الفــــنانة التشكــــيلية ماريتا فونتانا Marita Fontana عامرة بالعواطف والأحاسيس الفيّاضة والجيّاشة؛ أعمال تختلط فيها المشاعر في بعدها الإنساني واليومي الهش والمعقد. لوحات تتعدد فيها الهويات والثقافات بين الأمريكية اللاتينية (بيرو) والغربية (إيطاليا) والافريقية، بتعدد جذورها الضاربة في القدم، هي عينها الهويات التي تشبّعت بها فونتانا؛ ما يجعل منها فنانة متعددة من حيث مزاولتها، إلى […]

الأحاسيس والفوضى في أعمال البيروفية ماريتا فونتانا

[wpcc-script type=”c63eda15e87b3a56e4930f78-text/javascript”]

أعمـال الفــــنانة التشكــــيلية ماريتا فونتانا Marita Fontana عامرة بالعواطف والأحاسيس الفيّاضة والجيّاشة؛ أعمال تختلط فيها المشاعر في بعدها الإنساني واليومي الهش والمعقد. لوحات تتعدد فيها الهويات والثقافات بين الأمريكية اللاتينية (بيرو) والغربية (إيطاليا) والافريقية، بتعدد جذورها الضاربة في القدم، هي عينها الهويات التي تشبّعت بها فونتانا؛ ما يجعل منها فنانة متعددة من حيث مزاولتها، إلى جانب الصباغة والتشكيل فن الغناء والموسيقى. هذا التعدد هو الذي يعطي لهذه المنجزات الصباغية والفنية قوتها وحيويتها التي تتمتع بها.

الفوضى الخلاقة:

تستقي ماريتا فونتانا مواضيع لوحاتها من الحياة البشرية اليومية بكل تعقيداتها، جاعلة إياها ثيمتها الرئيسية؛ «ملهمتي هي الحياة نفسها وكيف عشت وكيف أتذكرها»، تقول الفنانة، إذ عبر انفجار الألوان وتدفقها وتعدد طبقاتها تخرج شخوصها إلى الوجود، في حالات من المشاعر المختلفة والمتباينة، حيث إن هذه الفنانة العاشقة للتعقيد تنتصر للفوضى العارمة، التي تتحول عبر الفن إلى «فوضى خلاّقة» تنبعث منها الشخوص داخل حيزها البصري والصباغي، لتجسد حالات إنسانية تتنوع من عمل فني إلى آخر.


تطمح فونتانا إلى إعادة تشكيل تفاصيل العالم، عبر مرآتها الخاصة. من دون أن تسعى إلى نقله ومحاكاته، بل إعادة تشكيله وتركيبه في مرآة متشظية تعكس الأحاسيس والعواطف، هنا أحيل إلى لوحتيْها: «I see myself in you »، و«The Mirror». لهذا فماريتا فونتانا لا تقلّد أحدا، بل تجعل من ذاتها وحياتها مدرستها الخاصة. فغالبًا ما يعكس فنها ـ بعدده- تلك اللحظة التي تتحول فيها المشاعر السلبية إلى فرح أو سلام، أو تحول كل تلك المشاعر إلى رموز مجسدة في بورتريهات ومشاهد. لهذا فهي تسعى لملامسة «روح» المتلقي، وتحريك عواطفه نحو إعادة التفكير في العلاقة البشرية التي تجمعنا، والتي بدأت تفقد حرارتها بفعل التقدم التكنولوجي، الذي بقدر ما يقربنا فهو يُبعدنا عن بعضنا بعضا. مُلغيا كل تلك الحميمية وذلك الدفء الإنساني الذي كانت تتمتع به البشرية قبل عصر «الأصبع الصغير « (بلغة ميشيل سير).

تعمل فونتانا من خلال نسق فني منفتح على الحياة، بكل ما تحمله من تقلبات وتحولات مرتبطة بتقلب وتحول العلاقات الإنسانية، المتسمة بنوع من الفوضى

رسم الأحاسيس:
شخوص هذه الفنانة وإن كانت قادمة من عالم الواقع فهي معكوسة عبر مرآة عالمها الداخلي، فتتحول تلك الشخوص إلى «رموز» صباغية تعبّر عن الحالات الإنسانية بكل تنوعها، يُغذيها التنوع الثقافي الذي تتمتع به ماريتا فونتانا، وهو التنوع نفسه، الذي يَهِبُ اللوحات قوتها. هذه اللوحات التي تتخذ لنفسها حضورا مشهديا متنوعا، بين بورتريهات ومشاهد تبرز شخوصا في مواضع يومية اعتيادية (خلف المرآة، فوق الأريكة، في علاقات حميمية، في المقهى أو الحانة)؛ شخوص في أغلبيتها لنساء، إذ للجسد الأنثوي حضور دائم في لوحات الفنانة فونتانا، من حيث إن الأنثى تعدّ الموضوع الأهم الذي اهتمت به الفنون التشكيلية منذ العصر الكلاسيكي وما قبله، باعتبارها رمزا وعلامة للحياة ونشأة الكون والعالم، بل إنها رمز للخصوبة والعطاء في حضارات عديدة (عشتار، إنانا، نيروز، شاكتي، أفروديت، فينوس، إيزيس، مريم العذراء، إميشيل، تانيت، يَت…). لهذا تجعل الفنانة تلك الأجساد تنبثق من حالة الفوضى، في عملية تشبه عملية «انبثاق» الكون ونشأته.
تعمل فونتانا من خلال نسق فني منفتح على الحياة، بكل ما تحمله من تقلبات وتحولات مرتبطة بتقلب وتحول العلاقات الإنسانية، المتسمة بنوع من الفوضى، التي يصفها جيل دولوز بالفوضى الخلاقة، أو الفوضى البناءة، التي تستعين بالدمار لتبني وتخلق وتنشئ عالما جديدا أكثر حيوية وحياةً. وإنْ كانت مهمة الفيلسوف – كما حددها دولوز- هي «إبداع المفاهيم»، فمهمة الفنان ـ بالمقابل – هي «إبداع العوالم»، أي إعادة تشكيل العالم عبر مرآته الدخلية، التي تتنافر مع المحاكاة من أجل المحاكاة. لهذا أجدني وأنا أمام أعمال ماريتا فونتانا أستحضر تلك الشبكة المفاهيمية التي وضعها (الجذمور Rhizome، السيمولاكر، الاختلاف والتكرار)، كما أستحضر التقاءها المدهش مع كل من بول سيزان وفرانسيس بيكون في «رسم الأحاسيس»، إذ وعلى حد تعبير بول فاليري ـ كما يخبرنا دولوز «الإحساس هو ما ينتقل مباشرة بدون لفّة أو ملل إلى رواية أو حكاية».

من اللوحة إلى المنجز:

 لا يمكننا إلا أن نصف أعمال ماريتا فونتانا الصباغية بأنها حكايات صغيرة تشكّل الرواية الأكبر (هذا المعرض الذي نحن إزاءه)، رواية تنتمي إلى عالم «الواقعية السحرية» التي خرجت من أعالي جبال الأنديز، ومن أوروبا (ألمانيا خاصة) كردة فعل على فن الحركة التعبيرية التي استهلكت واستنزفت نفسها إلى أقصى مدى، حيث يسعى فنانو هذا التوجه إلى «إعادة صياغة الواقع المرئي الملموس، عبر التركيز على خفاياه المستعصية وجوهره المستتر»، في قالب فني يعتمد على الخيال والتخييل. وهذا ما نلمسه في أعمال فونتانا التي لا تبحث أبدا عن إعادة تصوير الواقع الملموس، بل التعبير عن جوهره الرمزي والساحري، ذلك الجانب الذي يحركه من دون أن نراه. جوهر يتخذ حضوره وقوته من الثقافات المتعددة والهويات المتشابكة (غير الظاهرة)، التي تكون الإنسان الفرد داخل الجماعة، لهذا تعمد هذه الفنانة في مجمل أعمالها إلى رسم «الكائن» في حالات فردية، تحاول إبراز «الجوهر الخفي». لهذا ونحن إزاء معرضها المقام في مدينة مراكش، نقف أمام منجزات تصويرية حكائية، تكوّن مشاهد صغيرة في «روايتها» الكبرى، رواية «الحياة» التي تستقي منها مواضيعها، لتُسقطها على مرآتها الداخلية المتشظية، لتعكس منجزا حكائيا سحريا، يتنقل المتلقي بين تفاصيله من عمل إلى آخر. إذ إن ماريتا فونتانا لا تؤمن إلا بالمنجز الكامل لا باللوحة الواحدة، هو عينه الاشتغال الذي تتوجه له الصباغة المعاصرة، التي تخلصت من سلطة اللوحة لتعبر إلى مفهوم الحدث /العرض /المنجز، من حيث إن هذا الأخير هو تأجيل دائم للمعنى والدلالة، إنه في أزمة دائما وعدم اكتمال، أزمة «حميدة» تستدعي البحث الدائم وعدم السكون عند العمل. شاعر وباحث

٭ شاعر وباحث جمالي مغربي

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!