سمعنا مؤخرا وشاهدنا على منصات التواصل الاجتماعي الحديث الدائر حول تنامي ثروات القلة الأكثر ثراءً في العالم والتي بلغت مئات المليارات في رصيد الشخص الواحد، ممّا حفَّز وسائل الإعلام المختلفة ومؤسسات أبحاث المال إلى التقصي والحديث عن الرجل (التريليونير)، وهذا يعني أن الفرد الواحد تبلغ ثروته مليون مليون دولار أو تزيد، وهذا الأمر يمثل تجسيداً للتطرف الرأسمالي المتواصل الذي نشهده في ظل الصعود الجامح للاقتصاد المستند إلى مكونات التكنولوجيا الأحدث.
وليس هناك ثمّة خلاف بأنّ هذه الفئة من الأشخاص الذين تتزايد ثرواتهم بسرعة مذهلة، كسرعة الصاروخ الحديث – والذي أصبح أحد مراكب ثروتهم أيضا- يتمتعون بأسباب النجاح، فهم يعملون تحت مظلة القانون، وفي حدود أصول قواعد اللعب الاحترافي في عالم الاقتصاد العالمي، وهم بلا شك يتمتعون بذكاء ألمعي، وهمة عالية، ورؤية اقتصادية فذّة، ويتميزون بالسرعة والجرأة في اتخاذ القرارات ولديهم القدرة على اقتناص الفرص. وبعد ذلك، من المتوقع أن تكتمل رحلة الثروة لبعضهم خارج الكرة الأرضية، باستنباط موارد لا تعود إلى أمّنا المشتركة “الأرض” وذلك من خلال الهيمنة على ” الصناعات الفضائية، واستكشاف عالم جديد هو الفضاء، واستخراج المعادن من الكويكبات الهائمة في المجرّة، وتحقيق حلم الاستيطان البشري المستقبلي على الكواكب الأخرى.
ومن المعروف أن (ايلون ماسك)، و(جيف بيزوس)، و(غيتس) وزملاءهم في نادي “من سيبلغ التريليون أولا”، قد صنعوا ثرواتهم الهائلة من خلال انجازات حقيقية في الصناعة والتكنولوجيا الفائقة: إن كان في صناعة السيارات، أو في تسويق التجارة الإلكترونية، أو في صناعة البرامج الذكية، وفي صناعة الفضاء وغيرها، وليس من خلال المضاربات وتجارة الحروب، فهم في هذا الجانب مثال يحتذى به. ومع ذلك فإن هذه المستويات الفائقة من الدخل، والمتراكمة الصاعقة للثروة تبدو مستفزة للكثير من البشر، وتثير السؤال الأممي حول العدالة في توزيع الدخل، وفي امتلاك الثروة.
إن نجوم العولمة والتقنيات الحديثة لم تسهم في تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء كما أمل الكثيرون، بل فاقمتها، وتسببت في ظهور مستويات عالية من الثراء الفاحش، ولم تتحقق الرؤيا التي تنادي: “بتجنب اتساع الفجوة في الدخل والثروة -بشكل مسبق – من خلال أنظمة التعليم وسياسات الاجور وغيرها”، وما يزال اللجوء إلى الضرائب -في ظل وجود الفجوة- يشكل الوسيلة الاساسية في إعادة توزيع الدخل، ولكن في ظل استعار تنافس الدول على استقطاب الاستثمار الخارجي المباشر، فلا يمكن لسياسات الضرائب المتصاعدة أن تحل هذه المعضلة.
وهنا ثمة مدخل أخلاقي وثقافي وقيمي لمعالجة ظاهرة الاتساع الشاسع في الفجوة في الثروة، حيث يجتهد الأثرياء عموماً في النأي بأنفسهم عن صورة الإنسان الجشع، وتحميله جزءا من المسؤولية عن وجود الفقر، أو تحميله أمانة مكافحته، كما ظهر في المساجلات بين مدير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، والملياردير (ايلون ماسك)، الذي وضع شروطا للتبرع ببعض ما يملك للبرنامج. وهي وسيلة جيدة تضغط على المحظوظين بالثروة الوافرة من أجل ترسيخ مبادئ انسانية تساهم في مكافحة الفقر والمرض، وتحسين الرعاية الاجتماعية.
والبعض ممن يتأمل في هذه الظواهر، يفضل أن يربطها بالفساد أو الحظ، وربما سعى إلى ايجاد طريق إلى النجاح والثروة من خلال قناة إعلامية ينشؤها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تطبيق هاتفي يعجز عن إكماله، أو عملات مشفرة لم يهتد إلى فكّ طلاسمها، وهذه الطرق عالية المخاطر، ولا يمكن أن تزهر إلاّ للقلة من المحاولين، بينما يظل امتلاك المعرفة الحديثة، والتدرب على ما هو جديد وواعد، وحسن الإدارة والمثابرة هي الوسائل المناسبة، والطرق الأقصر للنجاح للفرد وللمؤسسة والدولة.
هناك تبعات كثيرة متسارعة ترافق التقدم التقني والتحول الإلكتروني الحاد ينبغي التنبه لها، وقد شكّل الفرق الكبير في الدخل وبناء الثروات صورة لها، وترتكز على ان قلة قليلة من المتميزين والمدربين جيدا تنعم بالمزيد والمزيد، على حساب متوسطي التعليم، والعاملين على وسائل وتقنيات ليست الأحدث او الأفضل.