د.محمد نعمان

منذ إعلان الرئيس الأمريكي عن ما أسماه “صفقة القرن” بتاريخ 28 كانون الثاني 2020 والتي حملت في جعبتها التنكر لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس، وحرمان اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة وفقا للقرار الأممي 194 وإعطاء اسرائيل الضوء الأخضر لضم أجزاء من الضفة الغربية بما فيها البؤر الأستيطانية وغور الأردن وشمال البحر الميت.

والتي تعتبر انكارا لجميع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني التي كفلتها قرارات الشرعية الدولية في ظل موقف معيب من النظام الرسمي العربي ،الذي إكتفى ببعض البيانات الخجولة والتي لم ترتقي الى مستوى الكارثة التي تحضر للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بل للمنطقة العربية بأسرها ووطننا الأردن الذي لن ينجو من آثارها المدمرة.

وفور الإعلان عن هذه الصفعة خرجت علينا بعض الأصوات الإعلامية والسياسية العربية، والتي بدأت تروج لفكرة البحث المتأني في بنود “الصفقة”،وإلى التريث في موضوع الرفض ،بل ذهبت بعض الأنظمة العربية الى إعتبار الصفقة مقبولة،مطالبين القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني لعدم إضاعة هذه الفرصة .

كانت الفكرة أو الخدعة الجوهرية في صفقة القرن هي نزع الطابع الوطني التحرري عن القضية الفلسطينية وإحالتها الى محض قضية إنسانية تتكفل بعض المساعدات والمشروعات والأموال في انهائها، والفكرة أو الخدعة الثانية كانت قبول إسرائيل في العالم العربي كدولة طبيعية وتطبيع العلاقات معها بالكامل وتجاهل هويتها الحقيقية كدولة استعمار استيطاني كولونيالي قامت على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني،وفي سبيل ذلك وظفت إسرائيل والإدارة الأمريكية العديد من الادوات الرخيصة، ووجهت ضغوطها على جميع الأنظمة العربية من أجل إعادة صياغة الوعي في العالم العربي .

والأغلبية الساحقة في المجتمع الدولي ترفض التغول الأمريكي الإسرائيلي على المرجعيات الدولية ولا تراه مدخلا يساعد على أي نوع من السلام .

الأوروبيين والروس والصينيون يتبنون ممانعة ما، لكن لا يمكن لأحد في الحصاد الأخير أن يدافع عن قضايا وحقوق الأخرين بالنيابة.

حقيقة لا يمكن إنكارها بأن صفقة القرن “كخطة جهنمية منحازة بالكامل للرواية الإسرائيلية” جاءت تعبيرا عن نوع من الاستثمار الاستراتيجي في الأحوال العربية المتردية والواهنة ،وفي ظل غياب التوازن والقدرة على الردع بات كل شيء مستباحا ،وبالهرولة شبه الجماعية للتطبيع باتت الأثمان مجانية.

المؤرخ والناقد الاجتماعي والسياسي الأمريكي هوارد زين يقول: إن أكثر الأمور سوءا في التاريخ البشري من حروب وإبادات جماعية وعبودية،لم تكن نتيجة عدم الطاعة، بل على العكس كان سببها الطاعة العمياء.

إذا الخطير في قضية التطبيع مع كيان الإحتلال اليوم هو في تجنيد قوة وإمكانيات الولايات المتحدة لخدمة الهدف الإسرائيلي بإختراق المنظومة العربية الرسمية والشعبية على نطاق واسع،وهو ما بدى واضحا في حلقة التطبيع الأخيرة الممنهجة التي تمثلت ببث بعض المسلسلات التطبيعية “مسلسل أم هارون” “والمخرج رقم ٧” الذين يروجون لفكرة التطبيع الثقافي مع كيان الإحتلال الغاصب ويشوهون الحقائق التاريخية للرواية الفلسطينية الحقة التي تصب في النهاية في خدمة رؤية “ترامب_ نتنياهو” الهادفة الى تصفية القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة التي أقرتها القرارات الدولية وعمدتها دماء ألاف الشهداء الفلسطينين والاردنيين والعرب ومن أحراار العالم أيضا ودشنتها عذابات الأسرى والجرحى.

كما تهدف الى كي الوعي الشعبي العربي وأستبدال معادلة العدو والصديق من خلال خلق أعداء وهميين واستمراء لعبة كيس الفئران.

ورغم الرفض الأردني الرسمي المعلن وموقف جلالة الملك الرافض لصفقة القرن وتداعياتها إلا أن الضغوط السياسية والاقتصادية على الأردن لا تتوقف في محاولة لأختبار مدى قدرة الشعب الأردني وقيادته على الصمود في مواجهة هذه الضغوطات.

وبالرغم من الموقف الشعبي الأردني والعربي الرافض لجميع أشكال التطبيع مع هذا الكيان المحتل والغاصب للأرض العربية إلا ان كرة التطبيع الممنهج وعلى جميع المستويات أخذة بالتدحرج في ظل الصمت المخزي للأنظمة العربية الرسمية أزاء هذه الخطوات التطبيعية وهذه التلفيقات الهادفة لشرعنة الإحتلال وتشويه الحقائق والتي يمكن أن تشكل خرقا في الوعي العربي الشعبي وتحرف بوصلة الحقائق التاريخية الفلسطينية والعربية.

إن ما يحصل من إنحدار ثقافي وسياسي ممنهج يتطلب دورا مسؤولا وحازما من قبل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وتحمل مسئولياتها في إشهار الرفض المطلق لجميع هذه المحاولات التطبيعية والتي تبدأ بالضغط على الحكومات العربية لمواجهة الضغوط الأمريكية وإقرار قوانين تجرم التطبيع بكافة أشكاله والعمل على محاسبة كل من يعمل عليها ويروج لها ،بالاضافة الى نشر الوعي الثقافي والتحصين الفكري بين أوساط الجماهير العربية التي يمارس عليها عملية تضليل ممنهجة أصبحت على شاشات كل أسرة عربية وعلى هواتف كل مواطن عربي.