الحدائق السرية لأعمال التشكيلي المغربي بلقاسم الحو

عالم ولاوعي المنجز: يقودنا الفن دائما إلى العبور صوب آفاق مفتوحة ولامتناهية. فكل عمل فني، من حيث إنه تمظهر ماديٌّ ـ أو مفهوميٌّ- للفن، إن توقف عند عتبات القَصْديّة الـمُعْـتَمِد على الإشارة المباشرة، فهو يعدّ عملا محكوما عليه بأن يظل رَهْنَ لحظته وحبيس عصره أو في أقصى تقدير «إشارة تاريخية عابرة». لهذا تصير كل مفردة […]

الحدائق السرية لأعمال التشكيلي المغربي بلقاسم الحو

[wpcc-script type=”c37d055b6ef9577d8ed1de2f-text/javascript”]

عالم ولاوعي المنجز:

يقودنا الفن دائما إلى العبور صوب آفاق مفتوحة ولامتناهية. فكل عمل فني، من حيث إنه تمظهر ماديٌّ ـ أو مفهوميٌّ- للفن، إن توقف عند عتبات القَصْديّة الـمُعْـتَمِد على الإشارة المباشرة، فهو يعدّ عملا محكوما عليه بأن يظل رَهْنَ لحظته وحبيس عصره أو في أقصى تقدير «إشارة تاريخية عابرة». لهذا تصير كل مفردة (صباغية أو مادية أو فكرية) داخل المنجز لها دلالات لا تنضب ولا تتوقف عن التكاثر والتوالد. فالعمل الفني من حيث إنه «حقيقة» تنكشف في صيغ مختلفة، يمتطي صهوة التفكيك، ليكشف عن تعدد النُظم التي يحتوي عليها، ما يجعلنا نسميها «حياة المنجز المتعددة». وكل هذا مرتبط بلاوعي الفنان والمتلقي (فردا ومجتمعا)؛ إنه نوع من لعب «الاندفاع البَدْئِي»، كما يسميه العالم النفساني أنتون أهرنزفيغ. إذ بقدر ما يكشف المنجز عن نظامٍ معينٍ، فهو يحجب فوضى داخله، وبقدر ما يكشف عن فوضى فهو يحجب نُظما متعددة داخله.
من هذا المعطى الأوليّ «أقرأ» لوحات التشكيلي المغربي بلقاسم الحو، تلك الأعمال التي تنطوي على نُظم ضاجة بالحياة، لكل نظام فيها مواده ومفرداته الخاصة التي تهبه الحياة، إذ إن هذه الأخيرة ليست مكتسبة، بل هبة من وجود خفي، أسميه هنا الفن. وبالنسبة للعمل الفني، فهبة وجوده الخفي ليس مصدرها الفن أو الفنان وحسب، بل كل تلك الأمكنة والأشخاص والمجالات والأفكار والرؤى، التي استقى منها مواده وخاماته ومفرداته ونظراته ونظرياته… التي اعتمدها بشكل واع ولاواع بشكل خاص، ليُخرجها إلى حيز الوجود «هنا والآن». وكم علينا أن نغوص في حالة منجز بلقاسم عميقا في أنفاق لاوعي المنجز لديه، حتى تتسنى ملامسة تقاطعات الدلالات لا المعاني، فليس المطلوب من الفنان أن يخبرنا عن المعنى، بل أن يقودنا صوب تلك الأنفاق التي علينا أن نقطعها نحو شعاع ضوء بعيد، وعند كل خطوة تقدم لنا نحن «القارئ» نعدّل ما استبصرناه قبلا. فما الذي يقوم به الفنان في زمننا المعاصر؟ والحالة هنا بلقاسم الحو. إنه يحوّل الاعتيادي والبسيط: «الكرسي»، إلى مفردة أساسية في العمل الفني، أو يجعل منها هي نفسها العمل الفني. بمعنى، إن عملية «الخلق الفني» لا يمكنها اليوم، أن تمر إلا عبر الحياتي والمعاش، وحتى اليومي والعابر. وما استحضار بلقاسم «الكرسي» كمفردة أساسية في عمله، إلا تحقيق لهذه الرؤية؛ التي تأتي باعتبارها نظرية «عالم الفن» الراهن.

تحوير الخيالي:

أعمال بلقاسم تهرب من كونها لوحات صباغية توظف صباغة كمادة تشكل بها جسدها المرئي، إذ إننا أمام منجزات تتعدد فيها المواد المتراكبة والمتداخلة، الناتئة منها والمستوية والضامرة والغائرة، ما يمنحها «بدنا» بتضاريس وعرة. وما يجعلنا في الآن نفسه نلامس اشتغالات «الصباغة المعاصرة»، حيث بات العمل الصباغي حقلا شاسعا لطرح الأسئلة المرتبطة باليومي والعابر والمنفلت، بكل ما تستدعيه عملية الإنجاز من استحضار للدلالات والعلامات، لا بشكل مباشر وواضح، لكن عبر جعل تلك الخامات (من مواد مختلطة) تقوم مقام الأشكال والألوان. في محاولات لملاقاة الحاضر، الهارب والمتلاشي بسرعة، وتحوير الخيالي إلى واقعي مادي ملموس، لا نعني هنا الإشارة المباشرة، لكن إعطاء المواد الخام المدرجة في العمل، قوة تسليط الضوء على الخفي، إنه «شعاع الضوء في النفق»، وفي الوقت نفسه، إعطاء للخيالي بدنا/لحما ملموسا، نتحسسه ونلامسه ونتفاعل معه، من حيث إنه هو روح العمل، وقد تم تجسيده.
يدرك بلقاسم الحو جيدا هذه النظرية، وهو القادم من صفوف عالم السوسيولوجيا، حيث لا ينفصل – كما يعتقد منظرو الفن فيها- المجتمع (جماعة وأفرادا) عن عملية صنع العمل الفني. لهذا، ونحن نتعامل مع أعماله، علينا أن نفهمها في إطار الثقافة التي صنعت فيها أولا، ومن ثم ربطها بالبعد الفلسفي، الذي قد تتضمنه أو تحيل عليه، لهذا سنتطرق في قراءتنا لمنجزه لزاويتي نظر مختلفتين ظاهريا، لكنهما متداخلتان في عمله، إذ لا يمكن أبدا فصل العمل، بشكل قطعي، عن صاحبه، باعتباره الرائي والقارئ الأول له. وبالتالي فإن الخلفيات التي يراكمها تعرف طريقها بقوة إلى المنجز الفني. ومادام بلقاسم قادما من عالم السوسيولوجيا فلا محيد عن أن يكون لهذا البعد حضور بارز في اشتغاله، وبالتالي فالأثر الفني عنده لا ينفصل عن العلاقات القائمة بين الفن من جهة، والمجتمع من جهة أخرى، لكن أي مجتمع هو الحاضر ها هنا؟

الغابة السفلى التي لا تُرى:

لا يمكننا أن نتطرق للبعدين المشار إليهما في منجزات بلقاسم الحو، إلا انطلاقا من أهم مفردة فيها، التي تكاد لا تتوقف عن التكرار في جلها، ألا وهي «الكرسي». فهذا «الشيء» الذي يحتل مكانة مهمة في اشتغاله على لوحاته، بقدر ما يتخذ دلالات متعددة (سنأتي إليها لاحقا)، فهو يستمد أصله بشكل رئيس من ذاكرة هذا الفنان وطفولته، أو بالأحرى علاقة الطفل بلقاسم بوالده، والقرية التي انحدر من جبالها (قرية تايدة، منطقة جرسيف). فهذا الفنان الذي سمع «نداء الفن»، جاء محملا بخلفيات ثقافية تروم خرق كل جدران المركزية بشتى تمظهراتها. وما يساعدنا على الاقتراب من هذه التجربة هو محاولة اكتشاف – والتعرف على- تفاصيلها المكونة للأعمال الفنية، تلك التفاصيل التي تتخذ أصولها من بيئة الفنان الأصلية، أي من الجغرافيا القصية والقاسية، التي ترعرع فيها. وهنا يمكن ملامسة البعد السوسيولوجي المشار إليه، إذ لا يتوقف الفنان عن استرجاع ذاكرة مجتمعه المصغر وتوظيفها في منجزاته. والحالة هنا، عبر تلك التربة (تربة قرية تايدة) التي تعد مادته، التي تمنح العمل الفني بدنا خشنا ونتوءات بارزة. ما يهب لوحاته قلبا نابضا بالحياة. فالفنان لم يقطع بعدُ الحبل السري الذي يربطه بجذوره (أمه الأرض) التي كبر فيها، وإن فصل عنها لسنوات عدة. إنه انفصال لا يكاد يتحقق، ولكنه في الوقت ذاته التفافة حادة نحو الهامش، «مغرب اللامركز»… فاتحا بذلك أزرار الغطاء الحاجب، الذي يَطال مناطق شاسعة في هذا البلد. إلا أن الدلالة التي تتولد عن هذا التوظيف، لا تتوقف عند هذا التأويل الاجتماعي المباشر، فالتراب هنا بقدر ما هو أصل وحنين إليه، فهو نقل الوقع إلى حقل التخييل (نسيج اللوحة textuel)، فبقدر ما توجد الحقيقة في الركيزة الصباغية الأولى، التي يعتمد عليها الفنان في نسج فضائه وشخوصه وأشكاله ومواده… فإن الحقيقة توجد ـ أيضا- في النسيج الأولي (القماش، الخشب، الورق) الذي يسطح عليه الفنان ألوانه، تلك الغابة السفلى التي لا تُرى، التي يجعل تربتها هي تربة قريته. نوع من نقل الخيالي إلى الواقعي والواقعي إلى الخيالي.

إلى جانب جمالية ورمزية الكرسي والتراب، فإن بلقاسم يستخدم في اشتغاله حركية حية موظفا المادة (الحديد، الخشب، الرماد، الورق، الصدأ والفحم والصمغ) في كثافتها؛ في ما يمكن تسميته بـ«فراغ الكثافة»

عن الوجود الجالس:

بلقاسم الحو الذي لا يتعب من الرجوع إلى نفسه، لا يسعى إلى الكشف عن حقيقة ملقاة في مكان ما، بل إيضاح الداخل وعلاقته بالواقع وبذاته هو، ذلك الداخل الذي يتحد ونسيج العمل، الذي عينه هو امتداد للعالم الخارجي، أي العالم المُعاش. ومن هنا يتخذ الكرسي قوة حضوره. هذا «الشيء» الذي غيّر شكل الوجود الإنساني وغيّر حضارته… من «الإنسان الممتد» و»الإنسان الواقف»، بعد الانتقال من «الإنسان الزاحف على أربع»، إلى «الإنسان الجالس». إذ بقدر ما ترتبط الحضارة بمفهوم الاستقرار، فإن الكرسي هو رديف هذا المعنى، وأيضا هو دلالة على ممارسة القدرة على المادة، أي التحول من الوجود بالفعل إلى الوجود بالقوة، بالإضافة إلى أن هذه وسيلة تتوازن على أربعة أرجل: العائلة، المجتمع، المهنة، والحدائق السرية للجالس، ألم يوظف التحليل النفسي الكرسي للدخول عميقا إلى تلك الحدائق السرية، أي إلى حال نبض الفرد؟ إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة، لماذا الكرسي في أعمال بلقاسم؟ إنه بالمعنى الأولي، هو عودة أخرى للذاكرة، للجذور والأصول، لإعادة توطيد العلاقة المتينة مع الأب، إذ ذات يوم، سيلمح بلقاسم الحو ـ الطفل- أباه يُرمّقُ «كرسيا» بالمواد المتاحة، في الوقت الذي كان فيه امتلاك هذا «الأثاث» ترفا. سيعمل الأب إذن، بما استطاع من مواد أن ينقل إلى أسرته هذا الترف، ما شكّل بالنسبة لبلقاسم الحدث الأبرز في طفولته، إنه نوع من إعادة النظر إلى العلاقة التي تربطه بركائز التوازن الثلاث، وأيضا خلق لديه «فضاء الدخول إلى الحدائق السرية»، يكفي الجلوس فقط على الكرسي.
الكرسي الذي يرمز إلى معاناة الفقير ورغد الغني، وسلطة الحاكم وخنوع وخضوع المحكوم، والحضارة والاستقرار والعائلة (المجتمعة حول الطاولة) والمجتمع (بمؤسساته) والخيال والتخيل (الحدائق السرية)، كما الشُغل والمهنة بشكلها المعاصر، حيث لا كفّ الإنسان المعاصر عن الانتقال من حالة الجلوس وإليها، داخل المنزل في جل غرفه وحماماته، وداخل السيارة، وفي فضاء العمل وفي المقهى ودور السينما وأماكن الترفيه… فنكاد نكون محكومين بـ»الجلوس»، وبالتالي فالكرسي هو الذي يمارس قوته وسلطته علينا لا العكس. فنحن في هذه الحالة «نوجد بقوته وبفعله».

الخراب والتخريب:

إلى جانب جمالية ورمزية الكرسي والتراب، فإن بلقاسم يستخدم في اشتغاله حركية حية موظفا المادة (الحديد، الخشب، الرماد، الورق، الصدأ والفحم والصمغ) في كثافتها؛ في ما يمكن تسميته بـ»فراغ الكثافة»، حيث إن الكثافة اللونية المدمجة مع المادة البارزة لا تحضر باعتبارها ملئا بل فراغا يهيم فيه «الكرسي»، الذي هنا يحيل إلى أشخاص وأرواح، بل إلى أفراد لامتناهين تجمع بينهم الأخوة والعائلة أو المهنة أو الأيديولوجية أو المؤسسة… إنها «أخوة الكرسي» إن أردنا القول. غير أن الفنان لا يجعل للكرسي حضورا ماديا أو صباغيا محددا، ولا يُصوّره في مثالية. إنه دائما مُرَمَّقٌ bricolé ومُخرَّبٌ، في حالة تكاد تكون مهترئة؛ إنه كرسي الأب الذي لم يفارق قط مخيلة وذاكرة الفنان. لكنه لا يتوقف عن هذا الحد، فبلقاسم بقدر ما يرسم ويلوّن ويشكلّ مفرداته وخاماته، فهو يُخرّب موظفا يديه، يقشّر ويزيل ويمحو، ثائر هو على المثالية وسلطة الشيء واللون، بل كل السُلط؛ إذ يترك للمادة حرية البروز عبر لونها وحالتها الخام، أي في حيويتها الطبيعية، بعيدا عن أي تصنع واصطناع. إنه بالتالي يبني أشكالا ودلالات ويخرّبها ويدمّرها، نوع من «جمالية الخراب والتخريب»، إذ لا يستكين عند الشكل ويطمئن إليه. ما يجعل «قراءة» العمل لديه لا تتخذ منحى محددا ولا ترنو إلى معنى معطى وسابقٍ.
إننا ونحن إذن نقرأ دلالات الأعمال الفنية لبلقاسم الحو نقف عند إيقاعات اشتغال متعددة، من حيث إن «الإيقاع هو المعنى»، كما يقول ميشونيك، لكن أي إيقاع هنا؟ إنه إيقاع التجريب والتخريب: تجريب المادة وتخريبها وبناء الشكل والدلالة وتخريبهما، للكشف عن خبايا «الحدائق السرية» و»الغابة السفلى».

٭ شاعر وباحث جمالي مغربي

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!