الخزف العراقي… يقظة الطين الرافديني

اتجهت تطلعات الفنانين التشكيليين العراقيين نحو البحث عن آفاق جديدة في الانشغالات الفنية، ولعل هذا القول يصدق إلى حدٍ كبير على بدايات فن السيراميك الحديث في العراق، وحين بدأت الحركة التشكيلية في مطلع الخمسينيات، تتلمس طريقها في التعبير عن ذاتها خارج إطارات الفنون التقليدية المعروفة، لنتوقف عند تلك السنوات التي حملت لهذه الحركة تجربة جديدة […]

الخزف العراقي… يقظة الطين الرافديني

[wpcc-script type=”03d98f4d3a654c4dd1efab23-text/javascript”]

اتجهت تطلعات الفنانين التشكيليين العراقيين نحو البحث عن آفاق جديدة في الانشغالات الفنية، ولعل هذا القول يصدق إلى حدٍ كبير على بدايات فن السيراميك الحديث في العراق، وحين بدأت الحركة التشكيلية في مطلع الخمسينيات، تتلمس طريقها في التعبير عن ذاتها خارج إطارات الفنون التقليدية المعروفة، لنتوقف عند تلك السنوات التي حملت لهذه الحركة تجربة جديدة وفريدة لم تلمسها يد الفنان العراقي من قبل.
كشفت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، عن مدى أهمية اتصال الفكر العراقي بكل أصوله الحضارية العميقة، بالفكر العالمي، كما يذكر ذلك شاكر حسن آل سعيد، في توثيقه لحركة التشكيل العراقية، وكانت الحرب قد مهدت لهذا الاتصال، إذ ليس عبثاً أن تنمو الأساليب الأوروبية الحديثة في العراق، لو لم تجد لها قبولاً لدى الفنانين العراقيين الشباب، واستعداداً للتأثر بها، تجربة (الطين، الشكل واللون) وحدها كانت اكتشافاً، كما أنها تؤلف خط العودة إلى منابع حضارة العراق الأولى. وتعد دراسة (فخار عصر الوركاء) لاستاذ مادة التاريخ القديم بهنام أبو الصوف، إحدى المراجع المهمة الرائدة في الخزف العراقي القديم، التي أشّر فيها إلى البدايات العملية الأولى لهذا الفن.
لأول مرة في تاريخ الحركة التشكيلية يقوم فرن ناري بسيط لإنتاج السيراميك في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1954، وحملت تلك العمارة الطابوقية الصغيرة، كل وعود المستقبل وتوقعاته، حين تأسس فرع السيراميك في المعهد عام 1955، وقبل هذا التاريخ قامت زوجة الآثاري البريطاني ستيفن لويد بتدريس فن الخزف، وانتدب لتدريس هذه المادة الجديدة التي أضيفت إلى الرسم والنحت، أستاذ إنكليزي هو (إيان أولد) كان أحد أشهر خزافي إنكلترا، وأبرز فناني السيراميك في العالم، وامتدت خدمته لمدة عامين فقط، لتدريس فن الخزف في المعهد، الذي يعتمد مادة الطين المزجج المفخور، وجاءت الانعطافة الأهم على يد الأستاذ القبرصي المولد فالنتنيوس كارالامبوس، (حصل على الجنسية العراقية عام1980) والذي يعد أهم المراجع لفن الخزف في العراق، والموجّه له، إذ امتدت خدمته لأكثر من أربعين عاماً، وكلاهما وضعا الأسس الأولى لمشروع فن السيراميك في أبعاده التقنية الحديثة، وفي عام 1962 تأسست أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، وانتهت إليها أصول ذلك الفرع الذي تسلّم مهمة التدريس فيه الخزاف العراقي الراحل سعد شاكر، يساعده النحات العراقي الراحل إسماعيل فتاح الترك، في الوقت ذاته، الذي استمر فيه معهد الفنون الجميلة رعاية هذا الفن بتوجيه أساتذة آخرين. خلال هذه الحقبة الزمنية، يلاحظ المتابع لتاريخ الخزف العراقي الحديث، أن المادة قطعت صلتها بما يوقظه الذهن من استرجاعات صورية للأدوات اليومية، وتطلعت لاكتشاف القيم الفنية والجمالية الخالصة التي تتركز في البحث عن الأشكال الفضائية بتجسيد مبتكر، وعن الألوان التي تختمر في محيط التجربة الطويلة، وعن الضوء الذي تتصل ألوانه بسطوح الأشكال وملامسها.

هنا لابد من السؤال: ما لغة الفن الآن، وما قواعده، وقوانينه الخاصة؟ وكيف يستطيع الفنان العراقي أن ينهض بها فيجعلها في مستوى لغة عصرية متميزة؟ بدون التضحية بالنبض الحضاري الرافديني الذي يوصله حياتيا بهويته المعاصرة.
البحث عن الأصول كما نعتقد، قاد الفنان العراقي إلى العالم الغريب الزاخر من حوله، وبالأخص استلهام الحضارات المتراكمة على أرضه، كما قادته التيارات العالمية المعاصرة إلى تمثل تلك التجارب، واستطاع الفنان العراقي في حدود تجربته الذاتية والعامة، بدون الخضوع للتقليد، فيسقط في هاوية المماثلة الرديئة، فاتجه نحو الخروج من الأطر التقليدية لفن السيراميك، لصالح القيم الشكلية والفكرية معاً، التي تحملها الأعمال الخزفية.
إن جيلاً من الخزافين ظهر بعد ذلك، مؤكداً حضوره الفني النوعي والجمالي، على مستوى الأساليب والتقنيات، والمشاركات المحلية والعالمية، تمثل بسعد شاكر، وغازي السعودي، وسهام السعودي، وطارق إبراهيم وشنيار عبد الله، وماهر السامرائي، وأكرم ناجي، وعبلة العزاوي، ونهى الراضي، وتركي حسين، ومؤيد نعمة، وقاسم حمزة، وثامر الخفاجي، وحيدر رؤوف الطاهر، وعلي الرواف، وغيرهم أمثال: ساجدة المشايخي، محمد عريبي. إن الأصالة والابتكار في فن السيراميك العراقي، يعود في تقديرنا، إلى الأرض التي يغور فيها الفنان الخزاف اليوم، باحثاً في أعماقها عن الصلصال العجيب، ليبني من مادتها تشكيلاته الفنية، خزفاً عراقياً رائعاً، كانت الحركة التشكيلية العراقية بحاجة إلى يقظة جديدة من لون ما، تستطيع أن تحقق من خلالها تدفقها الوليد بعض التوازن بين الإرث الحضاري، والضرورات الحياتية الجديدة، وهكذا بدأت الأعمال الخزفية، تفلت من نيران الأفران لتواجه الجمهور بتلك الطاقة الخبيئة في مادة الطين الصماء التي أحياها الفنان العراقي بأشكال ورموز جديدة.

كاتب عراقي

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!