الخفافيش تتحدث في زمن العزلة و”العطلة الكونية”.. مثقفون ينعشون الخيال من الحجر الصحي

تتباين نظرة المثقفين للحجر الصحي حول العالم، ويقول كتاب عرب ولاتينيون إن "العطلة الكونية" الإجبارية كانت فرصة للخيال والإبداع، وكذلك للتأمل والتفكير بالمستقبل، وتحدث بعضهم عن تأثره البالغ بالمأساة العالمية.

Share your love

وجد مثقفون لاتينيون وعرب -مثل جورج كدر وسومارا إسبانيا (وسط) وورود الموسوي- في الحجر فرصة للخيال والكتابة (الجزيرة)

غدير أبو سنينة-نيكاراغوا

يتخيل الكاتب المكسيكي ميغيل مالدونادو مشهد انتقال فيروس كورونا من الخفاش للإنسان، عبر قصّة قصيرة كتبها عن الجائحة، نقتبس منها: “هو الواقعُ نفسه. انتقم فيروس كورونا للخفافيش. لن يجرؤ أحد على أكلها بعد ذلك. انتهى زمن الصيادين الأوغاد. ستعيش الخفافيش أخيرا بسعادة في خنادقها. وبعد قرون عديدة من معاناة قطع الرؤوس، ها قد وجدت طريقة الخلاص وإنقاذ أنفسها، هذا ما أكّده شانغ تاي لأخته: فيروس كورونا هو انتقامها، تنتقم منِّي، منَّا، من المعاناة التي سبَّبناها لجنسها”. 

قبل أن يلجأ للقصة القصيرة، دأب مالدونادو على كتابة الشعر، لكن كثيرا من الأمور تغيرت خلال هذه الفترة، منها أنه هو نفسه فكّر في تغيير النوع الأدبي الذي لطالما انتمى إليه. لم تجد الخفافيش مكانا لها في قصائده، احتاجت مساحة أوسع لتشرح وجهة نظرها -كما فسّرها الكاتب- فهي الضحية لا الجلّاد، وقد حلّت نقمتها على من طاردها قرونا. 

فرصة للخيال
هكذا ينظر مالدونادو للأمر.. “لنجرّب أن نكون مكان المخلوقات الأخرى” و”لنتخيّل شخصا سيكمل حياته وهو يعتقد أنه سبّب كارثة للعالم”. ولأن أزمة الفيروس استثائنية ولا تحدث إلا قليلا في تاريخ البشرية، فهي فرصة للخيال، على حدّ قول مالدونادو. 

كان كثيرون قد كتبوا عن نهاية العالم قبل أن يشعر العالم أنه قريبٌ منها، يقول “ماذا لو اعتقدنا أن الفيروس سيقضي علينا خلال فترة معينة، شهر يونيو/حزيران مثلا، ثم وجدنا أنفسنا أحياء بعد ذلك التاريخ. هكذا نكون قد وُلدنا من جديد”. 

الشاعر المكسيكي ميغيل مالدونادو كتب قصة قصيرة عن انتقام الخفافيش (الجزيرة)

وجّه مالدونادو سؤالا طريفا لأصدقائه في سياق التخيّلات التي تراوده خلال فترة أزمة الفيروس: “ماذا تريدون أن يُكتَب على شواهد قبوركم إن قتلكم الفيروس؟”، ويقول إن الإجابات الجدية مملّة بعكس التي تحمل معنى ساخرا. أحد أصدقائه كسولٌ وميّال للراحة، أجاب: “هنا، يستكمل مشوار الراحة”. أسئلةٌ كثيرة قادت مالدونادو للتأمّل.. “إنّها المرة الأولى التي تفكّر فيها البشريّة كلّها في أمر واحد في وقتٍ واحد”.

مأساة مدينة
اختلف الأمر بالنسبة للشاعرة الإكوادورية سومارا إسبانيا مونيوس، فقد امتلأت مدينتها “غواياكيل” بالجثث الملقاة في الشوارع، وأصبحت المدينة -التي أسمتها الصحافة “ووهان الإكوادور”- تضيق بموتى الوباء الذين لم يجد لهم أقرباؤهم مدافن. مرّت المدينة بأيام عصيبة حتى أن الناس دفنت أمواتها في حدائق البيوت، بل وُضع بعض الموتى في توابيت من كرتون مقوّى. 

مرّت الكاتبة نفسها بتجربة فقد الأحبّة بسبب الفيروس حين مات من تصفه بـ”المعلم الأول”، الكاتب ردوريغو بيسانتس دوداس، إذ ظلّ أسبوعا يبحث عن مشفى لاستقباله، وهو في سنّ 82 عاما، ولم يجد. كلّ الأسرِّة كانت مشغولة. 

الشاعرة الإكوادورية سومارا إسبانيا وهي تقرأ شعرا على بث إلكتروني مباشر خلال فترة الحجر (الجزيرة)

وفي طابور طويل أمام صيدلية، انضمّت سومارا لتشتري له الدواء، لكن ذلك لم يساعد في شيء، فقد مات بعد يومين. تقول سومارا ذلك وتكمل حديثها عن قصيدة بدأت كتابتها دون أن تنهيها، ورواية كتبت منها صفحة واحدةً فقط، “ما يحدث في مدينتي مأساوي يشتّت الانتباه عن العمل الإبداعي”.   

عطلة كونية
على الضفة الأخرى من العالم، يرى الكاتب السوري جورج كدر أن الحجر الصحي أعاد التوازن لذات الإنسان التي مزّقتها سرعة الحياة وصخبها، كما أعاد للطبيعة توازنها، وأنه مع توقف العالم عن اللهاث، بات بإمكانه إعادة طرح الأسئلة الجوهرية حول الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وهي “أسئلة سترسم الإجابة عليها خارطة لعالم جديد بعد العطالة الكونية التي أوقفت الكوكب عن الضجيج بكبسة زر”. 

منحت “العطالة الكونية” -كما وصفها كدر- وقتا كافيا له ليعيد التصالح مع ذاته ويكمل أعمالا مؤجلة منذ سنوات، بسبب الإنهاك اليومي. 

أنجز كدر كتابا كان قد بدأه قبل أربع سنوات وانشغل عنه كثير، وهو كتاب “معجم لغة الطفولة، اللهو مع تاريخ الكلمات”، وقد وثّق فيه أول كلمات ينطقها الأطفال في مرحلة الرضاعة والطفولة المبكرة، ورتّبها حسب حروف المعجم.

وعن إصداره الذي يمكن اعتباره ثمرة الحجر الصحي، يقول “أكَّدتُ خلال البحث أنا ما يسمى ثرثرة الأطفال هي لغة متكاملة لها مفرداتها وقواعدها، لا بل هي لغة عالمية يشترك فيها أطفال الأرض، مخالفا كثيرا من النظريات التي تقول بمحلية أغلب كلماتها باستثناءات قليلة”. 

وجد الكاتب السوري جورج كدر في الحجر الصحي فرصة لإنجاز كتابه “معجم لغة الطفولة” (الجزيرة)

وعن أجواء إنهاء هذا القاموس في زحمة أخبار فيروس كورونا، يقول كدر إنه انغمس في العمل عليه، بل شعر بمتعة في إنجازه، فالكتاب حيوي ويلامس مرحلة جميلة من عمر الإنسان وهي الطفولة، سواء طفولته هو أو طفولة أبنائه. 

فرصة للإبداع
وعلى نفس النهج سارت الشاعرة العراقية ورود الموسوي المقيمة في لندن، فلا استياء لديها من الجلوس في المنزل طالما هي قادرة على العمل. وفي حديثها للجزيرة نت، قالت “ازداد معدّل إنتاجي الفكري والثقافي واستطعتُ أن اُكمل عددا لا بأس به من الكتب المؤجّلة، فقد تمخّض عن الحجر الصحي التزامي بالرياضة البيتية بمعدل 10-20 دقيقة يوميا، وليست محددة بوقت”. 

أما بالنسبة للعمل الإبداعي، فقد أنهت كتابة ديوانها “مقامُ البنتِ والعاشق”، وهو ديوان موزون بين العمود والتفعيلة. كما أكملتْ ديوان “سِفْرُ النّداء”، وهو ديوان نثري. 

منح الحجر الصحي الشاعرة ورود الموسوي وقتا لكتابة جزءٍ من أطروحة الدكتوراه التي تناقش فيها التفسير الفلسفي للقرآن لدى ابن رشد (الجزيرة)

ورغم استغلالها الجيد لهذه المرحلة فإن نظرتها للعالم اختلفت وأصبحت مشوبة بالخوف والريبة. تغير لديها مفهوم الداخل (البيت) والخارج (الشارع)، إذ أصبح الداخل يعني الأمان والخارج يشكل الخطر، بعدما كان المفهومان متشابهين قبل انتشار الفيروس. وتساؤلاتها المطروحة تدور حول الثقة بين الناس أنفسهم بعد رفع الحظر، فالآخر قد يكون خطرا واستعادة الثقة لن تكون أمرا سهلا.

وتعبر ورود عن قلقها من تغيّر العادات الإنسانية بين المجتمعات، كالمصافحة والتقبيل والحضن، فـ”كلها أمور نفسية مهمة يحتاجها الإنسان للتعبير عن نفسه وعن حبه وامتنانه لمن حوله”، وتكمل تساؤلها: “هل سنشهد أجيالا جديدة لا تعرف شيئا عن البعد الإنساني بالعلاقات الاجتماعية عمّا كان قبل كورونا؟ أم أنه مجرد وباء سينتهي حاله حال الأوبئة التي مرت بتواريخ الشعوب عامة، وسينتهي ويظل ظِلا موجودا في الكتب فقط؟

العزلة المنشودة
الروائي السوري المقيم في بلجيكا عبد الله مكسور يقارن بين العزلة التي يحلم بها أيّ كاتب والحجر الصحي، فالعزلة هي هدفٌ منشود للكتّاب عادة، لكنها في وسط أزمة الفيروس مركّبة، ولا سيّما في حالته، كما أنها عزلةٌ مبنية على عنصر المفاجأة.

كان مكسور قد أنهى كتابة روايته الأخيرة قبل انتشار الفيروس، وهكذا صارت هذه العزلة المركّبة فرصة لاكتشاف الأبناء، “لكنه اكتشاف مسلوب نتيجة الحصار في البيت”، بحسب قوله للجزيرة نت.

الروائي السوري عبد الله مكسور يقول إن الحجر الصحي يذكره بالحصار الذي عاشه السوريون في الحرب (الجزيرة)

وكان مكسور قد جرّب مرارة الاعتقال قبل خروجه من سوريا، وهو يعرف تماما معنى ألا يملك المرء رفاهية الانتقال من مكان لآخر. 

وبعد أن سمّى الحجر الصحي “عزلة مركبّة” وصفه بـ”الحصار”، فكأن هذا الحجر يذكّره بكل ما مرّ به السوريون من أهوال خلال السنوات الماضية. أفكارٌ مرتبكة تحاصره لم يتمكّن إزاءها من إنهاء برنامج القراءة الذي أعدّه لهذه الفترة، لكنه يعيد قراءة بعض الإصدارات التي قرأها سابقا، في محاولة لاكتشاف متعة جديدة بها.

من جانب آخر، كانت فرصة لمشاهدة كثير من الأفلام السينمائية والوثائقية التي تتيحها منصات مختلفة، غير آبه بالسؤال المتداول: كيف سيكون العالم بعد كورونا؟

 

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!