الشعر العربي وأثره في حفظ الظواهر الصوتية للغة العربية

الشعر العربي وأثره في حفظ الظواهر الصوتية للغة العربية قام الشعر العربي بدور كبير في حفظ اللغة العربية من ناحية الظواهر الصوتية ومن ناحية التراكيب والمفردات خصوصا النادر منها وغير الشائع في الاستخدام وقد برز استخدام الشعر كمصدر رئيس من مصادر الاستشهاد والاحتجاج في فترة مبكرة من تاريخ التصنيف والتقعيد..

الشعر العربي وأثره في حفظ الظواهر الصوتية للغة العربية

قام الشعر العربي بدور كبير في حفظ اللغة العربية من ناحية الظواهر الصوتية ومن ناحية التراكيب والمفردات، خصوصا النادر منها وغير الشائع في الاستخدام، وقد برز استخدام الشعر كمصدر رئيس من مصادر الاستشهاد والاحتجاج في فترة مبكرة من تاريخ التصنيف والتقعيد لقواعد اللغة العربية.

وقد أسرف الأولون في الاستدلال بالأبيات الشعرية على قواعد اللغة النحوية منها والصرفية، حتى إنهم ربما تتبعوا واستقصوا كل الأبيات الشعرية التي شذت وخالفت القواعد المضطردة مقابل شح كبير في الشواهد النثرية من الكلام المنثور؛ المرسلِ منه والمسجوعِ، واستخدموا الشعر – كذلك – بغزارة في قواميس ومعاجم اللغة وخصوصا عند سرد المفردات نادرة الاستخدام، وثمت مجال ثالث – وإن كان أقل من المجالين المذكورين آنفا – ساهم الشعر بدور كبير في حفظه والتأريخ له وهو مجال أصوات اللغة والظواهر اللغوية المتعددة لنطق الحرف العربي والتي تختلف تبعا لاختلاف القبائل والجهات والمناطق؛ فالحرف العربي – وإن كان محصورا من حيث الكتابة في التسع والعشرين حرفا المعروفة – إلا إنه من حيث النطق به ربما يصل إلى نحو أربعين حرفا صوتيا؛ منها: القاف الحضرمية: والتي تنطق على نحو ما ينطق أهل اليمن الشمالي القاف اليوم، ومنها الصاد المشموم صوت الزاي، والجيم المصرية، والكاف المعقودة، والفاء المتفشية، وجيم السودان … وغيرها.

ولعل من خصائص العربية التي مازالت تدهش الباحثين انفرادها بثبات أصولها وضبط أصواتها بدقة متناهية، إذ لم يطرأ عليها أدنى تغيير في نطق حروفها، مثلما طرأ على سائر اللغات السامية في العالم، وربما يرجع ذلك لسعة مدرج اللغة العربية الفصحى من ناحية، ومن ناحية أخرى دور الرواية في الحفاظ على نقل أصوات اللغة من جيل إلى جيل، وفي الواقع فإن الدور الأبرز في هذا المجال إنما يعزى للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة اللذين نقلا إلينا بأعلى مقاييس جودة النقل وأدق معايير الالتزام بالنظام الصوتي المحكي والتقيد فيه بحدود الرواية، ومن فرط الحرص على الاهتمام بدقة الأداء في النظام الصوتي المحكي دونت القواعد الصوتية لكيفية النطق الصحيح وجرى تنقيحها وتمحيصها حتى وصلت إلى توصيف شامل ودقيق لأصوات اللغة وكيفيات النطق.

وقد حفظ لنا الشعر العربي ظواهر متعددة من اللهجات العربية التي كانت سائدة في المنطقة مثل: عجعجة قضاعة الذين يبدلون الياء جيما في آخر الكلمات مثل قول الشاعر:
خالي عويف وأبو علجِّ   المُطعمَان اللحم بالعشجِّ
يريد: أبا علي، والعشي، وهذه اللهجة ما زالت آثارها باقية إلى اليوم في بعض كلام أهل البادية في أرض الخليج العربي .
ومثل الكشكشة في لغة ربيعة ومضر؛ وهي إبدال كاف المؤنث في الوقف شينا، مثل قول مجنون ليلى؛ قيس بن الملوح:

ف(عيناش) عيناها و(جيدش) جيدها  سوى أن عظم الساق (منش) دقيق
يقصد: عيناك، جيدك، منك .

إضافة إلى عدد كبير من اللهجات القديمة نقلها لنا الشعر العربي تشتمل على مجموعة من الظواهر التي كانت ستندثر لو لم تحفظها بعض النصوص الشعرية؛ مثل: الفحفحة في لغة هُذَيل؛ وهي: جعل الحاء عَيْناً، ومثل العَنْعَنَة في لغة تميمٍ؛ وهي قلب الهمزة في أوّل الكلمة عيناً، فيقولون: (عِنَّكَ) و(عَسْلَمَ) في: إنّك وأَسْلَم، ومثل: الوَتْم في اليمن؛ كقولهم: النّات والأَكْيَات؛ يريدون: النّاس والأكياس، ومثل: الكسكسة، والطمطمانية … وغيرها، وبعض أشكال هذه اللهجات لا تزال مسموعة في اللهجات البدوية الحالية، لكن الملاحظ أيضا أن الشواهد التي يذكرها علماء اللغة لهذه الظواهر الصوتية المحلية شواهد شعرية محدودة العدد تتكرر في كل الكتب، وكأن اللغة الفصحى وفق ما تعارف عليه القوم آنذاك كان ينبغي لها أن تخلو من مثل هذه الظواهر الشاذة، ولذا كان من الطبيعي أن يتجنب الشعراء استخدام هذه السمات المغرقة في المحلية.
 
والظاهر أنهم كانو يستخدمون لغة الشعر لتصفية الكلام وتنقيته من شوائب العجمة كذلك؛ بدليل نقد سيبويه لبعض أصوات اللهجات التي شاعت في البيئة العربية في القرن الثاني الهجري؛ فقد سمَّى سيبويه بعض هذه الأصوات بالأجنبية، ووصف استخدامها بأنه: ” غير مستحسن ولا كثير في لغة من ترضى عربيته، ولا يستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر” [الكتاب]، وأمر آخر يمكن أن يستنبط من هذه الظوارهر اللغوية التي أثبت الشعر وجودها في كلام العرب وهو أن تعدد اللهجات واللكنات ليس بجديد ولا طاريء على العربية، فقد عرفت العربية في تاريخها المديد التعدد اللغوي واللساني .

ويبدو أن في تعدّد اللهجات العربية وتباينها إثراءً للنحو واللغة العربيين وتعددا وتنوعا – صحيا – في أساليبهما، وقد يكون التعدد في ظل الظاهرة النحوية الواحدة؛ حيث نجد فيها أكثر من قاعدة نتيجة تباين اللهجات العربية في استخدام التراكيب والأساليب في التعبير عن المعنى الواحد، وجاء هذا الحُكْم العام على اللغة العربية من خلال الدراسات التي أجريت على كتاب: همع الهوامع للإمام السيوطي؛ والذي يعد أكبر موسوعة نحوية ولغوية احتوت في طياتها أكثر من ثلاث وخمسين ومائة (153) لهجة من لهجات القبائل العربية، لتبقى شاهدا حيا على التنوع والتعدد والثراء اللغوي الذي لم تزل تعيشه اللغة العربية منذ عهدها الأول، وتبقى لغة القرآن الكريم بقراءاته المتواترة هي اللغة النموذجية الأدبية المشتركة بين القبائل العربية جميعا، وهي اللغة التي كانوا يفهمونها ويتحدثون بها في المحافل الرسمية، وينظمون بها الشعر العربي الموجه للعرب كافة.

والشعر العربي لما يمتاز به من سلاسة ووقع عند السامعين، ولما يتميز به من نفوذ بياني سيطر بلامنازع على ميدان الاحتجاج في قواعد اللغة العربية؛ فهو فنّ العربية الأول، وأكثر فنون القول هيمنة على التاريخ الأدبي عند العرب، إضافة إلى كونه وثيقة يمكن الاعتماد عليها في التعرُّف على أحوال العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم، فهو المرجع الموثوق به لأساليب العرب البلاغية والبيانية، والمصدر الأصيل لمفرداتهم اللغوية وطرقهم التعبيرية، فضلا عما يحويه من مآثر العرب ومفاخرها، وأحداث أيامها ووقائعها؛ فهو الوثيقة الرسمية الأولى التي دونت تاريخ العرب الوجداني والاجتماعي واللغوي . 
 

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!