غازي انعـيم*

يمتاز معرض الفنان جهاد العامري “ظل مفقود” المقام حالياً في جاليري “المشرق” الذي يستمر حتى نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2020، بالرقة والعذوبة وقوة الشحنة الانفعالية، وقد كان لبلاغة تعبيره الفني أكبر الأثر في نفس المتلقي الذي يقف أمام لوحته ليتحاور مع عناصرها، وكأنه يشاهد سيمفونية لونية عزف بها العامري على أوتار خطوطه لينقل المتلقي من خلالها إلى عالم هادئ رقيق مليء بالأحاسيس الجياشة الصادقة، لا سيما أن الإحساس هو أساس إبداع الفنان الحقيقي، لأنهما قلبه وعقله معاً.
والمتابع للفنان العامري يلاحظ أن هذا المعرض جاء امتداداً طبيعياً لمجموعة من التجارب التي سبق وأن قدمها قبل ذلك؛ حيث جمع فيها بين التقنيات، والمضمون الفكري، والفلسفي في إطار واحد، وقد جاء هذا المعرض كما المعارض السابقة ليعبر عن قيم إنسانية باقية، فكانت الأندلس التي استظل بظلها أيام دراسته في اسبانيا هي ثيمته الرئيسية التي يخاطب بها الإنسان، لذلك اختار أن يجادل فينا من خلال أعماله الفنية الروح الإنسانية، وهذا ما تعكسه أعماله الفنية التي جسدت تاريخ حضارته العربية.
والمدقق في أعمال معرضه الفني يلاحظ أن العامري قد تجاوز كل الأحاسيس من فرح وحزن في غمرة عاطفية تستعيد ظل المكان، الذي يعكس تراث الحضارة الأندلسية التي انطبعت آثارها في صفحة الخيال بشفافية ووضوح لكل مسحة من أشكال التلقائية التي ينثرها فوق مسطحات لوحاته، لا سيما أنه مزج فيها الخيالي والواقعي ليعطيا مساحات لونية، تتحلل إلى علامات، وأمواج ثرية تتكون من البنفسجي، والليلك، والأزرق، والرمادي، والأخضر والفيروزي، ويزداد اللون احمراراً بالتقاء الأصفر والبرتقالي.. ويدخل الأسود كمارد يقتحم اللوحة من أجل أن يضبط لوناً ويعترض لوناً آخر.
هذه الألوان تنتقل من هارمونية فاتحة إلى أخرى داكنة محدثة الظلال بسهولة ومحققة التآلف والانسجام بين الهارمونيتين، كما أنها متفاعلة ومتناسبة مع موضوع اللوحة التي تضمنت مسطحاتها حروفا وزخارف، كعناصر تشغل مساحات لها طبيعة نغمية تسهم في خلق وحدة النسيج العضوي للوحة، وقد وفق الفنان في تحقيق الانسجام بين عناصر الشكل وبين المضمون في اللوحة.
هذه الألوان والخطوط التي تأخذ مسارات مختلفة في لوحاته بعضها يشرق على عناصر اللوحة، وبعضها الآخر يغيب في انحناء انسيابي، تنسج تفاصيل حركتها المتبدلة، منظر لا يوصف، منظر يدفع بحدود المنظر إلى ما وراء حدود اللوحة المتمثلة في الشام والمتوسط وجبال الأندلس التي تشتهر بأشجار الرمان والجمال.
كما نلاحظ من خلال عناصره المنثورة على مسطحات لوحاته التي تمثل: “حبات الرمان وأغصانه، والمرأة، والحروفيات، والمقاعد، والكراسي، والطربيزات، والزخارف، والورود…”. بأن لها أسرارها الخاصة ومعانيها الخفية، وعلى الرغم من أنها محدودة بإطار، إلا أن سطوحها وخطوطها وتكويناتها قابلة للامتداد إلى ما لا نهاية حيث يفقد الفضاء خاصيته ويصير شيئاً يتعذر فصله عن عناصر اللوحة التي قام بتوزيعها العامري في الفراغ بما يخدم التكوين لدرجة أن لا فراغ، خاصة أن المرأة التي تزينت بالزخارف النباتية والهندسية التي تعكس خاصية المكان، والتي يتغير مكانها حسب الموضوع، حاضرة وتتسيد كل اللوحات، بل إنها قادرة على تشكيل مركز ثقل مهما كان موقعها، وهي تعني لفناننا الحب والأمومة والعطاء واستمرار الحياة… وهكذا تتسع آفاق أحلامه باستمرار بين الأندلس والشام.
وهذا يطرح السؤال الآتي: هل يمكن القول إننا إزاء فنان ذي حنين يفكك خبرته ويعيد إنتاجها ليعلي من شأن الذاكرة المنسية والمتعلقة بتراث الأسلاف كونه وريثاً لثقافة حضارته العظيمة؟
هذه العناصر التي أشرنا إليها والتي جاءت في تكوين محكم وراسخ من الناحية البنائية تحتاج إلى تقنية عالية في إتقانها وقد تمثلت بالمزج ما بين تقنية الجرافيك والتصوير؛ حيث استطاع العامري من خلاهما وبكل اقتدار ترويض وجدانه وتطويع أدواته التشكيلية ليعبر عما تجيش به روحه من أحاسيس صافية تجاه المكان وظله، وهذا لا يتأتى إلا لقلة قليلة من أساتذة الفن.
جهاد العامري الذي تتآلف العين مع شاعرية لوحاته وغنائيتها قام بتوظيف أدواته الفنية بشكل جيد وبتكنيك فني خاص تترابط فيه العناصر كلها في وحدة واحدة بفضل شخصيته المسيطرة تماماً على أدواته الفنية، هذه الشخصية التي استوعبت روح أمته وجسّدها في أعماله الفنية وحياً من تاريخ حضارته الثرية هي العنصر الخفي وراء نجاح العمل الفني وتحقيق تفرد التجربة من أجل حاضر مشع.
بقي أن نشير إلى أن الفنان جهاد العامري الحاصل على الدكتوراه من اسبانيا هو أستاذ مشارك، نائب العميد ورئيس لقسم الفنون البصرية في كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية، وشارك في أكثر من خمسين معرضاً داخل وخارج الأردن وأقام أكثر من 8 معارض فردية وحاصل على العديد من الجوائز.

*فنان تشكيلي