المدارس التاريخية الحديثة

مع تطوُّر الحياة البشريّة تطوَّرت المعارف الإنسانيّة، والتاريخ بمفهومه كغيره من هذه المعارف قد مرَّ بمراحل كبرى من التطوُّر والتغيُّر. فقد حدثت في أوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر طفرة في الدراسات التاريخيّة في العصر الحديث، وكان ذلك كنتيجة لانتشار الوعي في أوروبا، وكذلك بسبب سيادة النظرة المسيحية في تفسير التاريخ ووقائعه، التي اعتبرت أنَّ التاريخ هو تحقُّق للمشيئة الإلهية.

Share your love

وبناء على ذلك اندفع الكثير من المؤرِّخين والفلاسفة الى التفكير في مفهوم التاريخ، وعليه فقد ظهرت تفسيرات جديدة للتاريخ تُوَسِّع مفهومه ليصبح أكثر شموليّة بعدما كان محدود النظرة و المنهج جلَّ اهتمامه  فقط سرد الوقائع والأحداث الماضية.

لمحة عن علم التاريخ:

ينتمي علم التاريخ إلى العلوم الاجتماعيّة أو الانسانيّة، وهذه العلوم كثيرة مثل: الأنثروبولوجيا، علم النفس، الاقتصاد، علم الاجتماع، الجغرافيا، الديمغرافيا، العلوم السياسيّة…

وتنطوي كلمة «تاريخ» لدى أغلب الشعوب على ثلاثة معان، فهي تعني أولاً ماوقع في الماضي، وتعني ثانياً سَرْد ما وقع في الماضي فعلاً أو مايتصوّر الراوي أنّه وقع فعلاً، وتعني ثالثاً دراسة الماضي (رواية الأحداث وتأويلها)، فالتاريخ هو إذن معرفة لمادّة معيّنة، لكنّه أيضاً مادّة لتلك المعرفة، على أَلاَّ يُفهم من ذلك وجود تطابق بين الماضي ومعرفة الإنسان لذلك الماضي، فالتطابق رهينُ ما يتوفّر للمؤرخ من وثائق وشواهد عن ذلك الماضي، ومن قُدرة على الإلمام بذلك الماضي وسَبْر أغواره، على أنَّ التطابق التام صعب جدّاً إن لم نَقُل مستحيلاً، ويُوجد من المؤرِّخين من يذهب إلى حدّ القول إنَّ أقصى وأحسن ما يمكن أن يبلغه المؤرِّخ هو «ذاتية غير منفعيّة» أو«لاَ انحياز نزيه»، أمَّا الموضوعيّة، فأمرٌ صعب المنال إن لم نَقُل شيئاً آخر.

إنّ المعنى المزدوج لكلمة «تاريخ» موجود في كلّ اللّغات تقريبًا، ولعلّ ذلك ناشئ عن شعور دفين لدى الإنسان بالارتباط الوثيق بين معرفة الماضي والماضي ذاته، وقد يبرِّر هذا المعنى المزدوج لكلمة «تاريخ» كون الإنسان –موضوع المعرفة التّاريخيّة- هو أيضاً كائن تاريخي، وهذه المعاينة جعلت المهتمّين بالشّأن التّاريخي يواصلون طرح نفس الأسئلة، وذلك منذ العصر الإغريقي القديم إلى اليوم.

المدارس التاريخية الحديثة:

مع تباين تفسيرات التاريخ وتطوُّر مناهج البحث التاريخي وتقدُّمها نحو مزيد من العلميّة والمنهجيّة، نشأت عدد من المدارس الحديثة لتفسير التاريخ. حيث تقوم هذه المدارس بالاعتماد على أنماط جديدة من حيث اختيار المواضيع أو المنهج أو الأدوات، متجاوزة بذلك النمط الكلاسيكي في كتابة التاريخ.

1- المدرسة الإنسانوية:

ومحور هذه المدرسة هو الإنسان، فقد أصبح الإنسان هو عماد إيديولوجيّة نخبة عصر النهضة، وكان للميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) قبل ذلك التاريخ القول الفصل، ووُجِدت مركزيّة جديدة هي مركزيّة الإنسان نفسه. وهذا لا يعني أنَّ المؤرِّخ الإنسانوي قد تنكَّر لوجود الله إنّما أصبح الشأن الإنساني هو مركز الثقل.

ويرى المؤرخ الإنسانوي أنَّ:

  • دور الإنسان لا يقتصر على العيش من أجل الله والآخرة، وإنما يتجاوزه إلى العيش من أجل نفسه والبحث عن السعادة الدنيويّة.
  • إنَّ قيمة الإنسان لم تعد في كرم أصوله وأمجاده الحربيّة، وإنَّما في نشاطه الخلَّاق وقدرته على العمل والإنتاج.
  • على الإنسان أن يكون مستقلَّاً فكريّاً حتّى و لو أدَّى به ذلك للوقوف ضدّ القناعات التي روّجتها الكنيسة لقرون.
  • على الإنسان أن يقتنع بأنَّ الفردانيّة هي القيمة الحقيقيّة، فالإنسان ليس كائن اجتماعي كما قيل بل هو كائن أناني تحرِّكه مصالحه الشخصيّة وتحقيق منافعه مهما كان الثمن.
  • الخضوع للدولة لا علاقة له بالدين، لأنَّ الدولة تستمدُّ سلطانها من البشر لا من الله، وأنَّ السياسة لاتحمل إي قداسة دينيّة، لأنَّها فعل إنساني خالص. إنَّ هذه النظرة الجديدة للإنسان صاحبتها ثورة دينيّة هي “البروتستانتية” والتي كانت ملائمة للنظام الاقتصادي الرأسمالي بمفهومها الجديد للإنسان المسيحي وعلاقته بالحياة الدنيا والله والكنيسة.

ويعمل المؤرخ الإنسانوي على دراسة الماضي والإلمام بكل صغيرة وكبيرة تتعلَّق به، وبشكل خاص الآثار القديمة والمخطوطات في خزائن الأديرة والكنائس والعائلات الارستقراطية، وهو شغوف باللغات لأنَّها أداة تمكِّنه من تحليل النصوص الدينيّة القديمة ونتيجة لذلك فقد استطاع أن يستنبط علوم جديدة منها: (علم الآثار وعلم البرديات وعلم المسكوكات وعلم النقائش)، إضافةً لذلك فقد استطاع المؤرِّخ الإنسانوي إرساء علم نقد الوثائق الدبلوماسيّة على أُسس صلبة، إذ بيَّن الصحيح من تلك الوثائق والمدلَّس منها.

وقد تخلَّى المؤرخ الإنسانوي عن فكرة «العصر الذهبي» التي تقول بأنَّ الماضي أحسن من الحاضر، والحاضر أحسن من المستقبل، وهي الفكرة السائدة في كل مجتمعات ما قبل الحداثة، بل إنّه يرى العكس، وقد وابتدأ كتابته باللاتينية ثم عَدَلَ عنها ليكتب باللغات القوميّة.

من أهم روّاد هذه المدرسة: لورانزو فالا، بياتوس رينانوس، هوقو قروتيوس، جان بودان، لا بوبو لينيار.

2- المدرسة العقلانية:

رفعت هذه المدرسة من شأن العقل ونفت ما عداه، وتطوَّرت رؤية التاريخ وتغيَّرت، وقد ظهرت الاختراعات الحديثة، وابتعد الإنسان عن الإيمان بالخرافات وعَمَدَ لإعمال العقل والإيمان به، إضافة  للتصدِّي لهيمنة رجال الدين واستبداد الحكّام، ورفض الحروب مهما كانت دوافعها، وكانت فكرة الحريّة هي الفكرة القوّة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.

وقد عمد مؤرِّخو المدرسة العقلانيّة إلى:

  • الاعتماد في الكتابة على اللغات المحليّة أو اللغات القديمة، ولم يعد يوجد خط فاصل بين التاريخ والفلسفة، فأغلب المؤرِّخين كانوا فلاسفة مثلما كان أغلب الفلاسفة مؤرِّخين.
  • يؤمن المؤرِّخ العقلاني بالتقدُّم، فالتاريخ حسب رأيه يسير وفق خط تصاعدي.
  • تخلّى عن تفسير التاريخ بالاعتماد على العامل السياسي، واتّجه نحو التاريخ الشامل الذي يمسّ كل جوانب حياة الإنسان السياسيّة والماديّة والثقافيّة.
  • كتب المؤرخ العقلاني التاريخ السياسي من وجهة نظر نقديّة لأنَّه كان ينتمي إلى البرجوازيّة الصاعدة شديدة العداء للكنيسة وللأرستقراطيّة الفيوداليّة.
  • وَضَعَ نظام جديد لتحقيب التاريخ من خلال تقسيمه إلى: التاريخ القديم ثمَّ الوسيط ثمَّ الحديث، وانتقد التحقيب الذي كان يستخدمه رجال الدين بتقسيم التاريخ إلى تاريخ وثني وتاريخ مسيحي.

من أشهر مؤرِّخي هذه المدرسة فولتير، إدوارد جيبونن، سان سيمون.

3- المدرسة الرومنطيقية:

ظهرت الرومنطيقيّة في ألمانيا أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وكانت هذه الحركة الفكريّة حركة منظّمة ووثيقة الصلة بالفلسفة. وقد كان الحدث الذي شغل الناس آنذاك هو الثورة الفرنسيّة فاعتبرها البعض البداية الحقيقة للحريّة، واعتبرها البعض الآخر بداية لعصر الحروب والمآسي لما رافقها من خراب، وخلال ذلك تكوَّن الفكر الرومنطيقي والذي انقسم مؤرخوه إلى تيارين:

  • تيار غالب وهو التيار المحافظ ينتمي أغلب أصحابه لطبقة النبلاء أو كانوا من أصحاب المهن الحرة والوظائف العالية. وموقفه رد فعل مُعارض لانتصار الطبقة البرجوازيّة، فهو يرى في المجتمع الفيودالي(عصر السيد الإقطاعي والأقنان) هو الأنموذج المثالي، لذلك كانت مواضيع دراستهم التاريخيّة المحبَّبة هي الحروب الصليبيّة، ومغامرات النبلاء الفرسان..
  • أمَّا التيار الرومنطيقي التقدُّمي، فعدد أتباعه محدود. ورغم تباين كثير من المواقف بين التيارين، إلَّا أنَّهما اتفقا على الوقوف ضدَّ تنكُّر البرجوازيّة لوعودها مثل تحقيق الديمقراطيّة وضمان حريّة الشعوب، ومجَّدوا في كتاباتهم التاريخيّة الضعفاء والمزارعين وأبناء الشعب عامة.

وقد اهتم المؤرِّخون الرومنطيقيون في إطار حملتهم على السيادة المُطْلَقَة للعقل بالحضارات الشرقيّة بجانبها الصوفي الباطني، كما وقفوا ضدَّ الفردانيّة، ودافعوا عن الدولة القوميّة فالقومية بنظرهم أفضل إطار لتنمية وجود الشعوب وتطوير إبداعها. وقد حاول بعض المؤرِّخين الرومنطيقيين كتابة التاريخ الكلّي، أي عدم الاقتصار على ما هو سياسي وذهبوا للإحاطة بكل ما هو اقتصاد وثقافة ودين، وكان أسلوبهم الأدبي سلس وجذّاب ومشوِّق، ولغتهم شعريّة أكثر من كونها علميّة، ما أدّى لإقبال الكثير من الناس على قراءة كتب التاريخ.

من أشهر مؤرِّخيها: شيلنغ، هردر، فيخته، والشاعر غوته، أوغستان تياري، شاتوبريان.

4- المدرسة الوضعية:

خضعَ علم التاريخ لهيمنة الاتجاه الوضعي المتمثِّل بتطبيق قوانين علوم الطبيعة على الإنسان، وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين، وألمانيا هي موطنه الأصلي.

فعمد المؤرِّخ الوضعي إلى:

  • اعتبار العلوم القائمة على الرياضيات والتجربة والمشاهدة هي المصدر الوحيد للمعرفة الحقّة.
  • النفور من الجزئيات والتفاصيل (التاريخ التافه)، والاهتمام بما هو أساسي (التاريخ الشامخ الكلي).
  • الاهتمام البالغ بالوثيقة المكتوبة.
  • الكتابة بلغة مٌحايدة علميّة بعيدة عن المحسّنات البديعيّة التي يعتبرها ضلالة وانحراف.
  • التوثُّق من الحدث التاريخي ويثبته تاريخيّاً متحرِّراً من انتماءاته السياسيّة والثقافيّة والدينيّة والقوميّة وما شابه ذلك.
  • كتابة المؤرخ الوضعي للتاريخ تمر بأربع مراحل هي:
  • تجميع الوثائق.
  • نقدها.
  • ضبط الأحداث.
  • أخيراً تنظيم هذا الحادث ضمن سياق سردي كرونولوجي.
  • يقوم المؤرِّخ بتجميع أكثر ما يمكن من الوثائق والمُعطيات وبإدارج قائمة بالمصادر المستعملة، كما يضع الملاحظات والهوامش أسفل الصفحات أو في نهاية ورقته التاريخيّة التي تُمكِّن القارئ من التثبُّت من صحّة الوثائق المستعملة، ويستخدم الرسم البياني والإحصائي في إثبات تحليلاته.

من أشهر روّاد هذه المدرسة: أوغست كونت، يودور مومسان، إرنست لافيس، ليوبولد فان رانكه، شارل ساينوبوس، هيُبوليت تاين..

5- المدرسة التاريخانية:

يُمثِّل الاتجاه التاريخاني ردّة فعل ضدَّ التاريخ الوضعي، وضدَّ تبنِّي الإنسانيّات لمنهج العلوم الطبيعية، وقد ظهر هذا التيار في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر. وقد ذهب المؤرِّخ التاريخاني إلى اعتبار دور علوم الإنسان مثل التاريخ لا يتمثَّل في اكتشاف طبيعة الظواهر الاجتماعيّة ومنطقها الموضوعي، وإنَّما في اكتشاف معنى الفعل الإنساني كما وقع تصوّره ذاتيّاً (تبيان الحالة الذهنيّة والمفاهيم التي جعلت الإنسان يتصرَّف بطريقة دون أخرى). ويرى أنَّ الحقيقة التاريخيّة تظل دائماً حقيقة نسبيّة، وأنَّ علوم الطبيعة (تُفسِّر)، أمَّا العلوم الاجتماعيّة فهي (تَفْهَم)، ويعتمد المؤرِّخ التاريخاني على الوثائق التي تُمكِّنه من النفاذ مباشرة إلى مقاصد الفاعل التاريخي (مذكّرات، جرائد، شهادات..) لكنّه لا يقدِّسها مثل المؤرِّخ الوضعاني، والأهم بالنسبة له هو ممارسة الهرمنطيقا (التأويل باللغة الإغريقيّة) والبحث عن المعاني الدفينة وإعادة اكتشاف العالم الذي كان يعيش في صلبه الفاعل التاريخي. وقد تمثَّلت أهم إضافات المؤرِّخين التاريخيين في  دراسة سِير المشاهير، والشخصيات (الكاريزماتية) وفي دراسات الذهنيات والمخيال والشعور.

من أشهر روّاد هذه المدرسة: ولهام دلتاي، هنري ريكارت، ماكس فيبر، بينيديو كروتشي، روبين جورج كولينغوود، هنري مارو، بول فاين..

6- المدرسة الماركسية:

الماركسيّة هي أعظم ثورة فكريّة أثَّرت في علم التاريخ منذ الإغريق القدامى، ولعلَّ ذلك لا يرجع فقط لاكتشافاتها في ميدان الإنسانيّات، وإنّما كذلك لجمعها بين العلم والأخلاق، وبين النظريّة والتطبيق، وبين تفسير العالَم وضرورة تغييره. تأسَّست الماركسيّة على يد كل من الألمانيان “كارل ماركس” و “فريدريك إنجلز”. وتعترف هذه النظرية بأنّها نظرية ماديّة أي أنّها تُقِر بأنَّ الوجود المادي هو الذي يحدِّد الوعي، وأنَّ العالم موجود ومستقل عن الوعي، وهو قائم منذ الأزل ولا خالق له ولا حدود له في الزمان والمكان، والواقع المادي هو الأساسي، وأمَّا ما هو روحاني ومثالي فهو في مصافٍ ثاني، والوعي هو نتاج الواقع المادي وانعكاس له، والإنسان هو خالق الأفكار والتصوُّرات، وهو الفاعل الرئيسي في الطبيعة والتاريخ.

وليست الماركسيّة نظريّة ماديّة فحسب، بل هي نظريّة ماديّة جدليّة تعتبر أنَّ كل ظاهرة تحمل في أحشائها الشيء ونقيضه. ومن الإضافات الهامّة للمؤرِّخ الماركسي في علم التاريخ:

  • الاهتمام بالتاريخ الطويل المدى وإدراج أي حدث ضمن المسيرة الإنسانيّة منذ فجر التاريخ.
  • اعتبار عدم وجود اقتصاد سياسي أو تاريخ أو جغرافيا أو علوم قانونيّة مستقلّة، وإنَّما يوجد علم واحد وهو علم التاريخ، وهو علم تاريخي وجدلي ووحيد ومُوَحَّد، يهم المجتمع بصفته (كلّاً).
  • إسناد دور هام للعامل الاقتصادي في صنع الأحداث التاريخيّة، وتحقيب التاريخ الإنساني بالاعتماد على أنماط الإنتاج.
  • الاهتمام بدور الجماهير في صنع التاريخ والذين غيَّبَهُم المؤرِّخون عن قصد أو عن غير قصد من عمال وحرفيين وعبيد ومزارعين ومشرَّدين ومومسات.

من أهم روّاد هذه المدرسة: لينين، تروتسكي، جوزيف ستالين، ماوتسي تونغ، كريستوفر هيل..

7- المدرسة البنيوية:

الاتّجاه البنيوي هو توجُّه منهجي تتولَّى بموجبه العلوم استخراج البنى من الأشياء، فيرى أنَّ كل ظاهرة، إنسانيّة كانت أم أدبيّة، تُشكِّل بنية، ولدراسة هذه البنية يجب علينا أن نحلِّلها (أو نفكِّكها) إلى عناصرها المؤلّفة منها، بدون أن ننظر إلى أيّة عوامل خارجيّة عنها. وقد شهد الاتجاه البنيوي في العلوم الإنسانيّة عصره الذهبي في ستّينات القرن العشرين وسبعيناته، وفرنسا هي موطنه الرئيسي.

وترفض البنيوية بشدَّة فكرة أنَّ الإنسان هو الذي يصنع التاريخ بمحض إرادته، وترى العكس أنَّ البشر صنائع لأفكارهم، وأنَّ أفعالهم لا تتحدَّد بواسطة اختيارات واعية حرّة، وإنّما هي نتيجة للبنى الكامنة في أفكارهم. ولا تهتم البنيويّة إلّا بما هو ثابت لا يتأثَّر بالزمن، أمَّا ما هو تطوُّري فلا تعيره أي أهميّة. فهي تبحث عن الثوابت والأمد الطويل، ويمكن القول أنَّ البنيوية مناهضة لعلم التاريخ، لأنَّ التاريخ هو علم التغيُّر الدائم.

ومن أهم إضافات المؤرِّخ البنيوي لعلم التاريخ:

  • أزال الحدود بين علمه والعلوم الإنسانيّة الأخرى، وقد حاول التقليص من مُعاداة البنيويّة للتاريخ فقال أنَّ التطوُّر الإنساني سيرورة تواصل وانقطاع في نفس الوقت، والبنية وإن بدت ثابتة فهي خاضعة لسيرورة من التطوُّر ولو كانت بطيئة. لذلك فالمؤرِّخ البنيوي يعتبر جميع الشعوب صاحبة تاريخ وإن كانت بدائيّة وليست هناك فوارق بين الشعوب من ناحية التاريخ.
  • أَوْلَى أهميّة لعلاقات القرابة وقواعد الزواج والأساطير والفن حيث لم تكن تحظى قبل بالاهتمام الكافي.
  • أثّرت البنيويّة في مجلة الحوليات الفرنسيّة الشهيرة، وذلك في سبعينات القرن العشرين.

من أشهر روّاد المدرسة: ميشيل فوكو، رولان بارت، جاك لاكان، كلود ليفي شتراوس، جورج ديميزيل..

8- المدرسة الحولية:

اعتصرت أزمة 1929 الاقتصاديّة العالميّة فرنسا وضربتها في العمق، ممّا دفع المفكّرين إلى المزيد من الاهتمام بالمسائل الاقتصاديّة. فظهر أوَّل عدد من مجلّة الحوليات تحت اسم «حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي»، وكان مديرا المجلة هما “لوسيان فافر” و”مارك بلوخ” اللّذان كانا متقدّمين في العمر آنذاك نسبيّاً وتمتَّعا بنضج فكري مُعتَبَر، وقد اختارا أعضاء لجنة تحرير”الحوليات” من بين ألمع ما هو موجود على الساحة آنذاك من علماء اجتماع واقتصاد وسياسة ومؤرِّخين.

وأهم ما جاءت به المجلة:

  • دراسة كل ما له علاقة بالمجتمع والاقتصاد والذهنيات، وطالبت بتاريخ يُعنَى بالبنى المستترة ويقلِّص ما هو سياسي، ويعتني بالناس العاديين وبالمهمّشين والمغيبّين.
  • عارضت التاريخ الوضعي، فاعتبرت أنَّ مهمّة المؤرِّخ ليست البحث عن الموضوعيّة فقط، إنّما الأهم هي شخصيّة المؤرِّخ وما يطرحه من أسئلة وجيهة حول المصادر التاريخيّة التي اكتشفها.
  • لم تحفل بالتاريخ القومي، ولم تجعله همّاً من همومها.
  • تعتبر أنَّ التاريخ يجب أن يشمل ما هو غير مكتوب مثل علم الآثار وعلم الأيقونات.
  • أَوْلَت أهميّة أكثر للعالم المُعاصر، ودَعَت إلى التعاون والشراكة الدائمة بين مختلف العلوم الاجتماعيّة، وركَّزت بشكلٍ خاص على الجغرافيا.

وتأثَّر التاريخ بعلم الاجتماع بشكلٍ كبير لطغيانه على هذه المدرسة، بل إنَّ المؤرِّخ الفرنسي مارك بلوخ درس الأنثروبولوجيا التاريخيّة والفلكلور والعادات ومظاهر السحر وجعلها موضوعات أساسيّة ضمن التاريخ. وأولت المجلة اهتماماً ملحوظاً بالاتجاه الاقتصادي حتّى هيمن عليها في حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، وقد لخّصَ بعض علمائها شعار الحوليات قائلاً: «لا للمسيح، لا لماوتسي، لا لتوينبي، قليلاً من ماركس وأكثر ما يمكن من العلم».

ولكن مع انشغال الرأي العام بالأحداث الكبرى التي عاشتها فرنسا وأوروبا عاد التاريخ السياسي بقوّة إلى واجهة الأحداث، وقد وجّه البعض لوماً شديداً لمجلَّة الحوليات لأنَّها لم تتعَّمق في دراسة الطبيعة الحقيقيّة للفاشية والستالينيّة بدعوى مناهضتها آنذاك للتاريخ السياسي. كما ألقى بعضهم أزمة الحوليات على مفهوم “التاريخ الشامل” الذي يحمِّل المؤرِّخ وزراً ثقيلاً جداً يجعله متخصِّصاً في العديد من الميادين (الأنثروبولوجيا، تاريخ، علم الاجتماع، اقتصاد). فالعالم لم يثق في فكرة المؤرِّخ الشمولي، وللخروج من تلك الأزمة، حدث تغيير في مضمون واسم المجلة، ليعبِّر عن التاريخ كعلم، ويعود لدراسة الأفكار والثقافة، فأصبحت تسمَّى التاريخ والعلوم الاجتماعيّة.

من أشهر روّاد هذه المدرسة: مارك بلوخ، لوسيان فافر، فرنان بردوال.

وأخيراً فإنَّ كل مدرسة تاريخيّة من هذه المدارس قدَّمت إضافة مُعتَبَرَة لعلم التاريخ، والأهم من التعصُّب لمدرسة معيّنة هو الانفتاح على المدارس الأخرى. فالبحث عن الحقيقة في التاريخ أهم في النهاية من الانتماء إلى مدرسة معيّنة بذاتها.

 

المصدر: الهادي التيمومي، المدارس التاريخية الحديثة، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2013م.

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!