«المغنية الصلعاء» تنتظر «غودو»!

جاء العيد هذا العام ببشائره. اللبنانيات واللبنانيون سوف يُعيّدون مع موتهم وبؤسهم. وصار علينا، ابتغاء للدقة، أن نُطلق اسماً جديداً على وطننا الصغير. فلنُسمِه خِربة لبنان، ككثير من القرى الدارسة التي نضع صفة خربة قبل اسمها كي نحتفظ لها بمكان في الذاكرة. في خربة لبنان تتوالى الحكايات كأننا في مسرح العبث. نلعب مع الضجر، ونتمتع […]

«المغنية الصلعاء» تنتظر «غودو»!

[wpcc-script type=”c19e8684695235a847d3d111-text/javascript”]

جاء العيد هذا العام ببشائره. اللبنانيات واللبنانيون سوف يُعيّدون مع موتهم وبؤسهم. وصار علينا، ابتغاء للدقة، أن نُطلق اسماً جديداً على وطننا الصغير. فلنُسمِه خِربة لبنان، ككثير من القرى الدارسة التي نضع صفة خربة قبل اسمها كي نحتفظ لها بمكان في الذاكرة.
في خربة لبنان تتوالى الحكايات كأننا في مسرح العبث. نلعب مع الضجر، ونتمتع بمفاجآته، المتوقعة منها وغير المتوقعة، كي نملأ فراغ الأيام بالفراغ.
أين ايمانويل ماكرون؟ يسأل الناس.
على عكس غودو في مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة، فالرئيس الفرنسي موجود، وقد شاهدناه في زيارتين سابقتين تمتا بعد انفجار 4 آب/أغسطس. وعاش لبنان خلال الأشهر الخمسة الماضية على إيقاع انتظار الماكرون، الذي قيل إنه يحمل حلاً لهذا الحضيض اللبناني.
غودو في مسرحية بيكيت لا يظهر على الإطلاق، وليس من شيء يؤكد وجوده، فانتظار غودو الذي صنع زمن المسرحية كان انتظاراً للانتظار. غودو لم «ينوجد» وإذا وجد فهو لن يأتي. أما ماكرون فموجود، ويملأ الأخبار والشاشات.
ماذ فعل اللبنانيون بماكرون؟
لا علاقة للسياسيين اللبنانيين بإصابة ماكرون بكورونا، هذا مؤكد. لكن المؤكد أيضاً هو أن السياسيين اللبنانيين تفوقوا على صموئيل بيكيت بأشواط إذ مكروا بمكرون وحوّلوا ما هو موجود ومن كان مقرراً له أن يأتي في 22 كانون الأول/ديسمبر الجاري، إلى أشبه بغودو الذي لا وجود له.
ابتلعت الدهاليز اللبنانية الرجل، وحولته من كائن حقيقي إلى كائن خيالي. فالرجل اختفى قبل إصابته بالوباء، ولم يكن الوباء سوى إنقاذ له من الضياع في الركام اللبناني.
وغودو الذي لا يأتي ولن يأتي، هو المسرحية التي تتقنها الطبقة الحاكمة اللبنانية، فبالتزامن مع اختفاء ماكرون تقرر أن يختفي القضاء. أنا لا أقول إن القضاء اللبناني كان بخير قبل أن تبتلع هذه المسرحية فادي صوّان، المحقق العدلي في جريمة ـ مذبحة المرفأ. لكننا رأينا أخيراً قاضياً يجرؤ على اتهام جزء من العصابة الحاكمة. لن أدخل في تفاصيل خيارات الرجل التي لا نعرفها، لكن بروز أسماء حسان دياب وغازي زعيتر وعلي حسن خليل ويوسف فينيانوس وطوني صليبا، مدير أمن الدولة، كمتهمين، جعل كل أطراف الطبقة الحاكمة تتكتل ضد القاضي وتطالب بعزله. واستُخدمت شتى الأساليب في سبيل تهشيم التحقيق، وارتفع السلاح الطائفي في وجه القضاء. وعندما يرتفع هذا السلاح نفهم أن المسألة صارت خطرة، وأن أمراء الطوائف الذين أفلسوا البلاد والعباد ونهبوا كل شيء متاح وغير متاح، هم على استعداد للذهاب إلى الأسوأ وتهديد السلم الأهلي. وعبارة تهديد السلم الأهلي هي مجرد إشارة إلى إمكانية استعادة الحرب الأهلية النائمة.
فجأة اجتمعت كل أطراف الطبقة الحاكمة على القاضي، واجتمعت هيئة مكتب المجلس النيابي وتفصحن نائب رئيس المجلس، وتكتل رؤساء الحكومة السابقون وصدرت بيانات عن الثنائي الشيعي وقرر رئيس الجمهورية حماية مدير أمن الدولة من الاعتقال. «كلن يعني كلن» اجتمعوا من أجل عزل القاضي.
انتظر الناس ماكرون فلم يأت، وفشلت محاولاته تشكيل حكومة يغيب عنها اللصوص مؤقتاً.
ثم انتظر الناس العدالة، فصارت العدالة حاضراً- غائباً، قبل أن تبدأ.
يبدو أنني تسرعت في إطلاقة اسم خربة لبنان على هذا الوطن البائس، الاسم الملائم هو خربة غودو. لكن الفرق شاسع بين المسرحيتين، مسرح بيكيت متقشف وخال من الديكورات، أما مسرح لبنان فمكتظ بالديكورات المهدمة والزجاج المطحون. لكن القاسم المشترك بين المسرجيتين هو الإشارة إلى اختفاء معلن.
المسرح اللبناني لم يلعب مع رموز غير موجودة، كما في مسرح العبث عند بيكيت ويونيسكو. في مسرحية «المغنية الصلعاء» ليونيسكو لا وجود للمغنية إلا كاسم عابر، وإذا وجدت فهي تقوم «بتصفيف شعرها»! كما أنها لم تكن جزءاً من النص المسرحي الذي كتبه المؤلف، فيونسكو تخيّلها معلمة شقراء، لكن زلة لسان أحد الممثلين أطلقت عليها اسم المغنية الصلعاء، فتبنى يونسكو الاسم وجعله عنواناً لمسرحيته.
تخيلوا معي محاولة دمج المسرحيتين في مسرحية واحدة يكون عنوانها: «المغنية الصلعاء تنتظر غودو».
في هذه المسرحية الجديدة سوف نجد أنفسنا في لبنان. سوف تظهر المغنية الصلعاء على شكل غولة لها ستة رؤوس، هي كناية عن زعماء أحزاب السلطة، وتدّعي أنها في انتظار غودو، لكن حين ترى شبح غودو المسكين تقفز عليه وتقوم بافتراسه أو خطفه.
وكما نعلم، فإن أمراء الحرب اللبنانية تفوقوا في خطف المواطنين وقتلهم عن طريق إخفائهم. وهم اليوم يمارسون لعبتهم القديمة بعدما انفضحت لعبة «الإصلاح» التي حاولوا بيعها عبر الخداع والمراوغة.
وعندما ووجهوا بفضيحة رفضهم للتحقيق الجنائي في مصرف لبنان، وانكشفت بعض خيوط جريمتهم الوحشية في المرفأ، لجأوا إلى سلاحهم الأخير: التهديد بالحرب الأهلية الطائفية ورفع شعارات الفدرالية والتقســيم في بلاد مفلسة صارت عاراً على الأمم.
المغنية الصلعاء لا تعلم أو تتجاهل حقيقة أن اللعبة القديمة انتهت ولم تعد تغري أحداً. لبنان ليس على شفير حرب أهلية طائفية بل هو في خضم حرب طبقية مكشوفة.
أمراء الحرب اللصوص وأصحاب المصارف وجميع فروع الطغمة الأوليغارشية الحاكمة تشن حرباً طبقية وحشية على الطبقات المتوسطة والفقيرة، وهدفها هو الوصول إلى فرض سلطتها الأبدية ونهبها الذي لا يزول.
لكن الأقنعة الطائفية لم تعد تنفع، فاللعب صار على المكشوف، وجاء التحول الخطير في الحركة الطلابية، بعد فوز النوادي العلمانية في انتخابات مجالس الطلبة في الجامعتين الأمريكية واليسوعية، ليعطي مؤشراً واضحاً عن ثقافة المرحلة الجديدة التي تأسست في مخاض انتفاضة 17 تشرين.
السبت الماضي احتل الطلاب شارع بلس، وواجهوا وحشية القمع بصدورهم وحناجرهم، معلنين أن الصراع هو على لقمة العيش والأقساط والكرامة المهدورة.
قالوا للمغنية الصلعاء إنهم كشفوا لعبتها، فهي لا تثير سوى اشمئزازهم، كما قالوا لغودو إنهم لا ينتظرونه، فهذا المسرح العبثي يتداعى على رؤوس ممثليه، وساعة تمزيق الستارة اقتربت. فاهربوا أيها اللصوص قبل فوات الأوان.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!