نادر رنتيسي

لا طعنة غادرة تأتيني من الخلف، لا سيارة متهورة تصعد إلى الرصيف لتجتثني. ليس هنا في هذه المدينة قاتل مأجور يقترب مني، يُبلغني بكلمتين حادتين رسالة من المُرسل، ويسدد إلى جبهتي رصاصة مكتومة.

ليس هنا رجل مضطرب خانته زوجته، يفتح سلاحا أوتوماتيكيا، وأكون واحدا ممن تزحف أسماؤهم بعد قليل في النبأ العاجل. حتى لو تظاهرت بالموت، وسقطت مثل كيس المانجو على الأرض الرطبة، فلن يلتقطني أحد من المارة، وإن تصادف وجود المارة، سيظنون أني أمارس رياضة أو رقصة خاصة بشعبي، وقد تصفق لي امرأة نرويجية، فينهرها زوجها لأن هذه حريتي الشخصية، وطقوسي الغريبة. لا وسيلة إذا لأي موت سينمائي، هنا في هذه المدينة الهادئة، مثل منزل أعزب أصم.

لست طالبا الموت، لكني خرجتُ في هذا المساء لأصادفه، ثمّ أتجنّبه برشاقة راقص شركسيّ، أو ذكاء ضابط مُسَرّح، أو حتى ببركات دعاء أمّي. أريد أن يكون لي في هذه المدينة بطولات أرويها للصِّبية مضخّمة بعد التقاعد في الثانية والستين، أو قصة أضيف لها خطوطاً معقدة وتصدر في طبعة شعبية ويلتقط القرّاء معي صوراً في الحانات.

لا أريد أكثر، وربما أقبل بما هو أقل، أن توقفني سيّارة الشرطة المكيّفة، ويطلب مني شرطي أسمر إثباتاً للشخصية، فأتظاهر أنّي أخرجُ هويّتي من جيب سترتي الجلديّة، ثمّ أفتعلُ النداء على شخص لا يظهر في كادر الصورة، لأخدع الشرطيّ، وأسابقَ الريح.. يختلّ توازني، وأجدني نائماً في نظّارة رماديّة، وأصبح مطلوباً للاشتباه كلما اختفت قطة في المدينة.

أمشي منذ ساعتين على الكورنيش، لم تخترقني رصاصة، لكنّ امرأة تبدو ملامحها مصريّة خالصة، تلتفت، تقترب منّي، ثمّ تمشي بجانبي كأننّا اعتدنا على اللقاء هنا، في العاشرة مساء الخميس، أمام محلّ المخبوزات اللبنانية.

ستقول إنّها شاهدتني في حلمها، وأنّها لا تكذبُ مناماتها، واختارتني لأكمل معها الطريق إلى اليونان. نعم إلى اليونان، في قصة حب سينمائية تصلح لخريف 1984.

حتماً سنختبئ في مطبخ الباخرة، وسنواجه صعوبات باللغة، والبحث عن وجبة واحدة للإفطار، هي ليست شمس البارودي، لكنها بالطبع قد تكون هاربة من زوج قاس، وأنا لست بالتأكيد عادل إمام، لكننا “اثنان على الطريق” نمشي حتى نصطدم بالمستحيلات، ولديّ جنون مدّخر، ويمكن أن أرمي رأسي في سلّة التهلكة، لكنّ المرأة التي تبدو ملامحها مصرية، واصلتْ مسيرها، ولم تلتفت.

أعود إلى البيت.. لا أتوقف عن الخيال، أتمسّك بأمل أن يحدث أمر خارج المكتوب في خطوط الكفّ، كأن أفتح الباب فأجد زوّار الليل بانتظاري، يأخذونني إلى غرفة معتمة، ويسألونني عن تطرفي إلى اليمين أو تهوري نحو اليسار، ويحتارون في أمر لحيتي إنْ كانت تقيّة أو ثوريّة.

كم هو مؤسف أنّي سأفتح الباب، بعد قليل، ولن أجد سارقاً تأخّر ليأكل علبة الفراولة البلجيكية، أو أواجه أي حدث طارئ يؤخّرني عن النوم في الحادية عشرة والربع، أو يمنعني من الاستيقاظ في السابعة والنصف، لأنتظم في طابور الذاهبين في سياراتهم المكيّفة، يعتنون بأصابعهم لختم الدخول والخروج إلى مكاتب العمل.. فقط لو يحدث أمر واحد، لمرّة واحدة: رصاصة، امرأة طائشة، تهمة ملفّقة، أو بُراز عصفور على الشبّاك.

المقال السابق للكاتب

الغابة أجمل من ديوان شعر

[wpcc-iframe class=”wp-embedded-content” sandbox=”allow-scripts” security=”restricted” style=”position: absolute; clip: rect(1px, 1px, 1px, 1px);” title=”“الغابة أجمل من ديوان شعر” — جريدة الغد” src=”https://alghad.com/%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%a9-%d8%a3%d8%ac%d9%85%d9%84-%d9%85%d9%86-%d8%af%d9%8a%d9%88%d8%a7%d9%86-%d8%b4%d8%b9%d8%b1/embed/#?secret=QIPVMUhske” data-secret=”QIPVMUhske” width=”600″ height=”338″ frameborder=”0″ marginwidth=”0″ marginheight=”0″ scrolling=”no”]

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا