خوفاً من هزائم المنتصرين مأزق الرؤيا في قضية «قناة رؤيا»

من الأفلام التي أحببتها كثيرًا مؤخرًا، فيلم «ريتشارد جويل» للمخرج المخضرم كلينت إيستوود، الذي يتمُّ التسعين من عمره هذا العام، مُقدِّمًا واحدًا من النماذج الكبيرة التي تؤكد عبقرية الشيخوخة. فيلم إيستوود الأخير هذا، يتحدث عن رجل أمن خاص يحلم أن يكون شرطيًا رسميًا في يوم من الأيام، إنه لمّاح، صادق، مُحبٌّ لوالدته العجوز التي يعيش […]

خوفاً من هزائم المنتصرين مأزق الرؤيا في قضية «قناة رؤيا»

[wpcc-script type=”b258385d7551228e1ea4ae86-text/javascript”]

من الأفلام التي أحببتها كثيرًا مؤخرًا، فيلم «ريتشارد جويل» للمخرج المخضرم كلينت إيستوود، الذي يتمُّ التسعين من عمره هذا العام، مُقدِّمًا واحدًا من النماذج الكبيرة التي تؤكد عبقرية الشيخوخة.
فيلم إيستوود الأخير هذا، يتحدث عن رجل أمن خاص يحلم أن يكون شرطيًا رسميًا في يوم من الأيام، إنه لمّاح، صادق، مُحبٌّ لوالدته العجوز التي يعيش معها، وفيه من براءة الوجه وذكاء الأطفال الكثير.
بصعوبة تسير حياة جويل، لكنه لا يبدو غاضبًا على أحد، إنه يريد أن يُقدِّم أفضل ما لديه، أيًا كان الموقع الذي هو فيه، وطموحه أن يكون شرطيًا ليس سوى جزء من براءته، فهو باختصار غير مُتَطلِّب.
في واحدة من نوبات حراسته، والقصة حقيقية، يكتشف جويل حقيبة مشبوهة في ملعب رياضي خلال البطولة الأولمبية الصيفية عام 1996. كما على كلّ رجل أمن مخلص، يتصرّف جويل، وهو النَّبيه: يُبلغ الشرطة، ويعمل ما في استطاعته على إبعاد الناس عن موقع الخطر، وهذا يتسبب في وقوع فوضى بالطبع، لكنه يساهم في إنقاذ أرواح، إن صدقَ ظنّه، الذي يصدق بتفجُّر الطرد، لكن الخسائر تكون أقل بكثير مما لو أنه لم يُنذر الناس.
بدل أن يتحوّل جويل إلى بطل يتحوّل إلى متّهم، وهنا يبدأ مشوار سحقه وانتهاك حياته البسيطة وتحويل صدقه الصافي إلى هدف سهل. لن أتطرق إلى مَن أدى الدَّور ولا للسيناريو ولا للإخراج ولا…، جويل، بالنسبة لي، هنا هو كل شيء..
سأوقف الحديث مؤقتًا عن الفيلم، وأنتقل إلى مساحة أخرى، زمنيًا هي زمن كورونا، ومكانيًا هي العالم كله، وقد قامت كل دولة باعتماد الطريقة الأنسب لمواجهة الوباء. بعضها واجهه مباشرة مُغلقًا الطريق عليه، وبعضها سخِر منه، وبعضها قيّده الخوف، وبعضها انتظر ما سيحدث، وبعضها كان حازمًا بطريقة تدعو للإعجاب، ومن الصنف الأخير الدولة الأردنية التي أثبتت الأيام صحّة إجراءاتها، ولذا التفّ الناس حولها بطريق غير مسبوقة!
هذا أمر في الحقيقة هو أقصى ما يمكن أن يحلم به نظام، أي نظام بكل طبقاته، لأنه اللحظة الكبرى التي يمكن أن يُبنى عليها الكثير؛ لقد تقبّل الناس «أوامر الدفاع» برحابة صدر، تلك التي فهموها، وتلك التي لم يفهموها، وتلك التي يعرفون أنها تطال حريّتهم، وغضّوا النظر عنها، وغفروا للدولة ذلك، فلماذا لا تريد الدولة أن تغفر للناس؟ هذا على افتراض أنهم أخطأوا، وبخاصة إذا وعينا أن المستقبل سيشهد الكثير جدًا من التحوّلات، وأن الأنظمة التي ستعيش هي التي لن تظل مصابة بالفيروس الذي شفيت منه شعوبها! فالمستقبل تغيّر، ولن تستطيع مواجهته إلا شعوب متعافية تحت أنظمة متعافية، بعيدًا عن هذه اللحظة التي يوحّد فيها الخوفُ، أو المصالح، الجميع!
ما سبق أرقني كثيرًا، لأن كلمة «دفاع» هي ما يعْلق في ذهني حين أسمع «قانون الدفاع»، أكثر من الكلمة التي تسبقها، أي قانون، فلولا أهمية الدفاع الذي هو الغاية لما وضعت كلمة قانون التي هي الوسيلة لكي يتحقق الدفاع في أفضل صوره.
كلمة الدفاع اليوم لا تعني لي، في جوهرها، الدفاع عن بحر أو أرض أو سماء في جائحة كهذه، بل الدفاع عن البشر، ولأن البشر غير قاصرين فالدفاع لا تحتكره الدولة، لأنه ملك للناس أولًا، فهم إلى جانب كل مؤسسات الدولة، في كل بقاع العالم، مَن يملكون حقّ الدفاع عن وطنهم، وهذه جدواهم وقيمتهم الكبرى في وقت كهذا وفي كل وقت، أكان العدو القادم مدججًا بالأسلحة، أو كان غامضًا كفيروس كورونا.
دفاع الناس عن أوطانهم كان وسيبقى أكبر قيمة، لأنه الدفاع عن الحياة. والكتّاب والصحافيون والفنانون وسواهم، كرس كثير منهم حياتهم لهذا الهدف، رغم التباين بين قوة دفاع هذا وهذا، لكنهم غالبًا دفعوا أثمانًا باهظة: تهميشًا ومحاصرة وتجويعًا وسجنًا في أحيان كثيرة، لأن كثيرًا من الأنظمة أرادت إجبارنا أن نصدّق أن الشخص الذي يحبُّ وطنه هو ذلك الذي يتلقّى راتبًا من خزينتها أو ينعم بمنصب فيها، وهذا جوهر الدمار الذي أصاب أوطاننا العربية منذ ارتفاع رايات استقلالها!
كنت أريد القول إن توقيف مدير عام قناة «رؤيا» الفضائية، ومدير أخبارها، دفعة واحدة! بسبب تقرير أبدى فيه عدد من الناس غضبهم من نتائج حظر التّجوال عليهم، وهو يندرج ضمن قضايا الرأي وحرية التعبير التي باتت تؤرق الناس في بلادٍ كثيرة اليوم، كان يمكن (التوقيف) ألا يكون، وذلك لأربعة أسباب مهمة في ظنّي، أُوْرِدُها وأنا على يقين من أن (الدفاع) وجِد قبل كل شيء للدفاع عن بشر أحرار، فلا قيمة لبشر بلا رأي: الأول: إن التقرير الذي لم ترضَ عنه الأجهزة المختصة كان يمكن أن لا يتكرّر بثّه لو أن مكالمة وصلت للقناة تطلب منها ذلك، فقد كانت هذه المكالمات دائمًا كافية لحسم مواضيع أكثر خطورة من هذا! و«رؤيا» ليست خارجة عن التعليمات الرّسمية، إعلاميًّا، رغم كونها قناة خاصة. أما ثاني هذه الأسباب، فإن ما حدث يتعلّق بمؤسسة تحظى بمتابعة كبيرة، وطوال الجائحة كانت محطّ احترام واسع. ثالث الأسباب هو أن «رؤيا» قدّمت تقريرًا كان من شأن انتباهِ الدولةِ إليه وأخذه على محمل الجدّ، أن يفيد الدولة في اتخاذ إجراءات لتلافي نتائج الحظر، وهذا واجب الصحافة. ورابع الأسباب، الذي أُنهي به مقالي هذا، هو ما يقوله بطل فيلم إيستوود، ذلك الحارس، في مرافعته الأخيرة أثناء استجوابه:
«لقد قُمتُ بعملي في تلك الليلة، وبعض الناس على قيد الحياة بسبب ذلك، أتظنون أنه في المرة المقبلة حين يرى رجالُ أمنٍ طرْدًا مشبوهًا سيذهبون للتبليغ عنه؟ أشكُّ في ذلك. سينظرون إلى الطّرد ويفكِّرون: لا نريد أن نكون ريتشارد جويل آخر، لذا سنهرب من هنا! يمكنكم أن تلاحقوني.. ويمكنني التحمّل، ولكنني أعرف أن كل ثانية تقضونها في ملاحقتي هي جزء من الوقت الذي عليكم أن تقضوه في ملاحقة ذلك الذي زرع القنبلة».
وبعــــد:
قناة «رؤيا» ليست هي المقصودة وحسب.. بل الرؤيا نفسها، فما يحدث اليوم فرصة كبيرة لكي نتعافى، لا أن نخرج من الوباء مرضى أكثر، بحيث ننتمي بعد حين إلى تلك الفئة التي كرَّستُ لها كتابًا ذات يوم، أسميته «هزائم المنتصرين».

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!