عزيزة علي

عمان- يرى أستاذ النقد الحديث- جامعة اليرموك أ.د.بسام قطوس، أن الشاعر الراحل محمود درويش أسس شعريته بأفق فلسفي، فهو شاعر يشبه الفيلسوف الأصيل الذي يرتبط بالأحداث والمستجدات والظروف الطارئة، ولا يتمسك بالأفكار الأبدية، أو بالتصورات اليقينية. وهذا منوط بالشعر المعاصر، مثلما هو منوط بالفلسفة المعاصرة الداعية إلى عدم التمسك بالأفكار الأبدية والتصورات الشمولية.
ويضيف قطوس أن درويش كان متعدد المشارب المعرفية: أدبية، فلسفية، دينية، وصوفية، ما جعله يتأرجح في شعره بعامة وأسئلته الفلسفية بخاصة، بين الشك واليقين، والوجود والعدم، والحياة والموت، الخفة والثقل، والحضور والغياب، برؤية قلقة متسائلة، ولكنها في الوقت نفسه رؤية مبدعة في تفكيكها تلك الثنائيات، وأصيلة.
هذا ورد في “فاتحة الكتاب”، الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، وهو بعنوان “درويش على تخوم الفلسفة-أسئلة الفلسفة في شعر محمود درويش”، وأهداه المؤلف الى “روح من علمني في حضوره معنى الاختلاف، شيخي وأستاذي د.محمود السمرة: كان السؤال في حضورك صيغة لإعادة بناء الذات! صار السؤال في غيابك توقا للأبدية!”.
في افتتاحية الكتاب الذي يضم أربعة فصول؛ أسئلة الشعر وأسئلة الفلسفة، ودرويش: الذات في متاهة الوجود، من السؤال الهوية إلى هوية الوجود، سؤال الأنا والآخر، أسئلة الماهية وسؤال المعرفة، يقول قطوس، إن كتابه هو عبارة عن محاولة للحفر في مرجعيات درويش المعرفية وهي متعددة المصادر والطبقات، ومنابعه الفلسفية التي استقى منها بذكاء، وكيفيات حضورها في نصه الشعري، دون أن يخفي ملامحه الجمالية والفكرية الذاتية.
يتأمل المؤلف من هذه المحاولة “أن تقربنا من المحاجة الجمالية والفلسفية والأخلاقية الطويلة التي خاضها درويش مع الحياة وتناقضاتها، واللغة ورموزها، والنضال وسقطاته، والأعداء والأصدقاء، وأخيراً مع عدوه اللدود (الموت) الذي، وإن كان قد سلبه هشاشة الجسد، فإنه لم يقوَ على أن يسلبه عبقرية الروح وجمالها الخالد! تلك العبقرية التي حفرها في الكتابة، بوصفها مغامرة الذات في البحث عن ذاتها، مثلما هي مغامرة اللغة في البحث عن كينونتها! أقول مغامرة الذات، وأنا أعي أن ذات درويش التي تموضعت، أو سكنت موضوعاً مهماً هو البحث عن مصير حر على هذه الأرض، وفضاءات جمالية في اللغة، هي ذات متعالية؛ بمعنى أنها أدركت أو وعت موتها الخاص”.
طقوس يلفت الى أن درويش استفاد من المنجز الفلسفي الوجودي، الذي يتقاطع مع أفكار نيتشه في رؤيته أن ماهية الإنسان تبقى رهينة فعله، وعليه أن يتجاوز ويتخلص مما أورثته إياه الطبيعة حتى يكون. يقول نيتشه في هذا السياق: “إنسانيتي هي تجاوز متواصل للذات”، مبينا أن درويش شكل من ذلك كله، ومن خلاصة قراءاته وتطوافه الثقافي العميق فضاء نصيا يذوّب فيه الذاتي والكوني/الإنساني، والواقعي والخيالي، والسردي والدرامي، والغرائبي والفجائعي، عبر أغنيات الذات وهمومها، وهي ذات ممتلئة بالشعر والموهبة والمعرفة. فكان حضوره يقاوم الغياب ويطرده، ليحقق كينونته في إبداعه، ولغته تفسر اعترافه في بعض شعره بأن الإنسان هو لغته، كما جسد ذلك في قصيدته (قافية من أجل المعلقات).
ويتابع المؤلف: “ينفتح في شعرية درويش عقل اللغة التخييلي والإيقاعي والمجازي على تخوم الفلسفة؛ حيث إن الشعر لغة خاصة، وجمالية بامتياز، ما يدعو المتلقي المثقف لقراءة مستويي “فلسفة اللغة” و”فلسفة الجمال”، ولا تثريب عليه في ذلك المنحى من القراءة، وبخاصة أن هناك مبدعين، حين تقرؤهم تحس بأنك تقرأ نفسك أو جزءاً منها على الأقل، ربما يشكلون قناعك، ودرويش واحد من هؤلاء بامتياز”.
ويتحدث المؤلف عن المركز والهامش في شعر درويش، فيقول: “لو كان الشعري والجمالي هو المركز في مدونة درويش الشعرية، فإن الهامش الفلسفي الذي انجدل بالشعر وكان مؤثراً وترك بصمة رؤيوية في شعره لا يخفى على الناقد والقارئ الحصيف. ومثلما كان الشعر مركزاً والفلسفة هامشاً في مدونة درويش، فقد كانت قضية درويش فلسطين مركز المركز، والبوصلة التي لم يخطئها، وهو مركز لم يغادره إلا لينزلق برشاقة إلى حوار الذات ورؤيتها للعالم والآخر، عبر التأمل في انسداد الأفق الإنساني والأخلاقي والسياسي، فكانت تلك اللحظات الغادرة التي انزلق فيها إلى أحضان التأمل، باعتباره شكلاً من أشكال التفلسف! ليسائل “إنسان القضية” بدلاً من القضية، راصداً ما به من ندوب وتعقيدات وأبعاد تاريخية وتراثية وأركيولوجية”.
يبين طقوس “أن درويش تجاوز في أعماله الأخيرة بدءاً من “هي أغنية، هي أغنية”، مروراً بـ”لماذا تركت الحصان وحيداً” فإلى “جدارية محمود درويش”، “لا تعتذر عما فعلت” إلى آخر أعماله، تقديم “القضية” و”قضية الإنسان” و”إنسان القضية” ليحفر بعمق تأملي على “إنسان الإنسان” في لحظات التحقق العالية كلحظات الموت والحلم والمرض والإشراق”.
أما المنفى، فيقول عنه المؤلف إنه عند درويش حاضر سواء المنفى الداخلي الذي عاشه على أرض وطنه، أو الخارجي الذي عاينه ولما يتوقف حتى رحيله وحيداً في مشفى أميركي، فقد سكن في الذات سكناً ليس له حدود مكانية، لأنه يقيم في ذات مختلفة بمنظورها للعالم والوجود والآخرين، وقد حوله درويش بفكره وتأمله إلى تجربة إشكالية، وعدّه انقطاعاً حاداً في السيرة، وشرخاً عميقاً في الإيقاع.
ويخلص طقوس إلى أن درويش ظل يتنقل بين ما يُظن أنه مركز إلى ما يُظن أنه هامش أو العكس، فحين يقف مدهوشاً أمام قسوة الحرب المتكررة على الفلسطينيين، وما تسببه من استمرار الرحيل والمنافي، تجده يعوض ذلك بالعودة إلى حضن اللغة، فكم تحول الهامش في شعره إلى مركز، والمركز إلى هامش ولو مؤقتاً! وهي لحظات انتقال نفسي تحدث شرخاً حاداً في الذات لا يبرئه إلا التأمل وطرح الأسئلة المتفلسفة!.