ذلك الفلسطيني الواقعي الذي طلبَ المستحيل!

عابرًا للفن الروائي ومقيمًا فيه، يحتفي الدكتور فهمي جدعان، بالسرّد الأدبي مانحًا إياه بلاغة تفوق بلاغة الخطاب الفلسفي، في مقدمة سيرته «طائر التِّمّ» وهو يأخذنا معه عبر صفحاتها، مفكرًا وفيلسوفًا وأديبًا أيضًا، ولاجئًا في المخيم وطالبًا في جامعة دمشق ثم السوربون، وأستاذًا كبيرًا حفرت أعماله الكبيرة -بالفرنسية والعربية- اسمه واحدًا من ألمع وأنبل المفكرين العرب. […]

ذلك الفلسطيني الواقعي الذي طلبَ المستحيل!

[wpcc-script type=”cd3e02a6509f709d67c3f865-text/javascript”]

عابرًا للفن الروائي ومقيمًا فيه، يحتفي الدكتور فهمي جدعان، بالسرّد الأدبي مانحًا إياه بلاغة تفوق بلاغة الخطاب الفلسفي، في مقدمة سيرته «طائر التِّمّ» وهو يأخذنا معه عبر صفحاتها، مفكرًا وفيلسوفًا وأديبًا أيضًا، ولاجئًا في المخيم وطالبًا في جامعة دمشق ثم السوربون، وأستاذًا كبيرًا حفرت أعماله الكبيرة -بالفرنسية والعربية- اسمه واحدًا من ألمع وأنبل المفكرين العرب.
سيرة الدكتور جدعان الصادرة في 469 صفحة، عن الدار الأهلية، عمّان 2021 واحدة من السير الكبيرة التي يعود فيها الفلسطيني إلى جذوره الأولى، عابرًا موات منفاه قاصدًا أفق انبعاثه، وهي سيرة انتظرناها حقًا، واثقين أنها ستكون إضافة نوعية لفن السيرة، وللحياة التي كان على صاحبها أن يبذل الكثير في منافيه لكي تظلّ منتمية لجوهر معناها. وإذا كان هنا، قد بدأ سيرته، بعد المقدمة، متكئًا على فنّ الرواية، مقدمًا لنا شخصيات صادفها أو عرفها، بمنتهى العذوبة، وهو يحتضنها بنثر سرديّ روائي أنيق، إلا أنه في ما تبقى من السيرة يذهب إلى شخصيات محيطه الصغير، ثم إلى شخصيات عامة نعرفها، ويعيد رسم صورها من زوايا كثيرة لا نعرفها: أحيانًا يفاجئنا بما لم نعرف عنها، وأحيانًا يؤكد ما عرفناه، سلبًا أو إيجابًا، وأحيانًا يقطع ظنًّا لم يُتَح لنا البوح به، وهو يؤكد لنا تلك الأحاسيس الغامضة عنها. لكن جوهر هذه السيرة يبقى ماثلاً في صورة إنسان لا يدّعي بطولة، فهو في بوحه يقدّم صورة ذاتية لروحه المحاصرة بالخوف والتردّد والقلق المستمر، ويُتْم المنْفيّ المزدوج الذي سُلِبَ الأب في طفولته والوطن، فلم يجد هذا «المعذب في الأرض» قامة يستند إليها أعلى من قامة أُمّه، في طريقه لأن يكون ابن نفسه، في واقع يطحن الفلسطيني ويهمّشه ويتكالب عليه، منذ النكبة حتى ليل التردّي المريع لأنظمة التطبيع الجديدة.
«طائر التمّ» واحدة من الرحلات الكبيرة، كتابًا، وحياة، وقيمة فنية بالغة الجمال، ففي كل موقع رقّ فيها صاحبها، مضى بعيدًا إلى روح السرد، وفي كل مرّة وجد نفسه في أتون لحظة سياسية أو فكرية أو اجتماعية، مضى إليها محللًا وشاهدًا ومعايشًا ومحترقًا بواقع الانهيار، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى اليومي الذي تنهض فيه شخصيات مؤكدة جمالها، أو تهوي فيه شخصيات مؤكدة انحدارها، دون أن تغيب جماليات الأمكنة أو لعنتها.. وفي كثير من أجزاء السيرة تحسّ أنك تعيش ما يكتبه جدعان لحظة بلحظة؛ ولعل هذا هو السرّ في تلك الحرارة التي تنعم بها الكلمات وننعم ونحن نعدو لبلوغ السطور التالية لنعرف ما تخبئه لنا، وقد ساهمت في اندفاعنا لمعرفة المزيد تلك البنية الفنية، الأفقية الاسترجاعية والمُستَحْضِرة لما لم يأت بعد.
هنا يتاح لنا أن نعرف صاحب الأعمال البديعة: «نظرية التراث» «أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» «المِحنة» «في الخلاص النهائي».. وغيرها من الإنجازات التي حفرت عميقًا في بنية الثقافة العربية، وفاضت لتبلغ ساحات أخرى في هذا العالم، نعرفه طفلًا وتلميذًا وطالبًا جامعيًا وأستاذًا ومفكرًا. ولعل أجمل ما في هذه السيرة أيضًا، إضافة إلى بُعدها الإنساني الشّخصي، أنها تتيح لنا أن نُطلّ ونستعيد المفاصل الكبرى في الحياة السياسية والفكرية العربية، لا كأحداث مرّت، بل كمفاصل يحاورها طارحًا موقفه بشجاعة وعمق، سواء تعلّق الأمر ببلد أو بنظام، أو تيار فكري، أو حزب أو اتجاه ديني، وقد تجاوز أثرُ تلك المفاصل الماضي، بحيث غدت حاضرنا ومستقبلنا.
وإذا كان جدعان يفرد صفحات حميمة عن ذلك الكائن اللامرئي، كما يصف ذاته، فإن هذا الكائن، في الحقيقة، صورة لشعب عملتْ قوى كثيرة، صهيونية وحليفة لها، على أن لا يكون شعبًا وعلى أن لا يكون مرئيًّا. ولذا، لن نبالغ إذا قلنا إن سيرة نهوض جدعان، الإنسان، وسيرَ كل أولئك الذين يشبهونه، في أي حقل وطني أو إبداعي، هي التي استطاعت أن تحرق «طاقية الإخفاء» التي عمل كل أعداء هذا الشعب على إجباره على اعتمارها، لا كمجموعة إنسانية وحسب بل فردًا فردًا.
لا تنتمي قصة نجاح ابن المخيم تلك، إلى فكرة النجاح البسيط، العاري من الظلال، لأنها في الحقيقة قصة صراع شرس مع الموت وأشكاله المتمثلة في التغييب والقتل وسرقة فرصِهِ، لا في إنقاذ نفسه فحسب، بل في منْعه من أن يقدّم أجمل ما لديه لكل مكان حلّ فيه، وحرمانه لا من أن يُحبّ وطنه وحسب، بل حرمانه من أن يُحبّ منفاه بسلْبه «دعائمَ الوجود ومسوغات الحياة» في ظل «غياب المجتمع الموحد الحامي والدولة العادلة، والعائلة الضائعة المضيّعة، والوطن المستلب المسلوب، وفقْد المكان».
في «طائر التمّ» فرصة لتأمل مسارات عاشها العالم العربي، من نهوض الوعي بأهمية الفرد إلى تقهقره: كانت الدولة مستعدة أن تمنح إنسانًا تحتاجه الجامعة، جنسيّتها، مقابل أن يكون جزءًا من نهوضها التعليمي، وصولاً لزمن بتنا فيه نرى الأنظمة مستعدة لسحب الجنسية من بشر مبدعين لأن جريمتهم العطاء! والسيرة فرصة لتأمل وضع التعليم، وأي نمط من الأساتذة المفكرين الذين كانت الدول تتسابق لاستقطابهم في مؤسساتها، وكيف جاء الزمن الذي تطاردهم فيه وتطردهم. لكن ما لم يتغير للأسف، وطوال سنوات ما بعد النكبة، هو شهوة تحويل البشر إلى مخبرين، لكي تستطيع قلوب الأنظمة أن تخفق لهم وهم ينصاعون «للنظام العسكري التسلّطي الذي لا يولِّد إلّا «رعية» فاقدة للوعي والإرادة الفاعلة» ولهم بعد ذلك أن يطلبوا، فتكون للواحد منهم: «رئاسة جامعة، إحدى الوزارات، أو أي مزايا يرغب فيها».
في عالم عربي مُهانٍ، تبدو شهادة صاحب هذه السيرة في حفل تكريمه «شخصية العام في معرض عمّان الدولي للكتاب» لوحة مكثفة للسيرة والمسيرة، وفيها من البوح ما في ذلك الخطاب الذي يوجّهه الكبير إحسان عباس (ابن قرية عين غزال، قرية جدعان أيضًا) في «غربة الرّاعي» لمريم، مُصعِّدًا بوحه بأسى، وهو يستعيد مشوار حياته. وهذا ما فعله جدعان، وهو يعلن: «في جميع الأحوال، سواء أكانت طبيعتنا البشرية ذات نواة صلبة أم ذات تشكيلات وبؤر متحوّلة متقلقلة، فإننا نتشوّف إلى إدراك إحدى حالتين فذتين أو إلى الاثنين معًا: فرح المعرفة، وفرح الوجود».
يعترف جدعان بما حققه من «فرح المعرفة» أما «فرح الوجود» فغير ذلك. لكن تلك الحالة، كانت وستظلّ معضلة النفوس الكبيرة ما دامت هناك نفوس كبيرة.
وبعد:
«كونوا واقعيين: اطلبوا المستحيل» شعار رائع لثورة الطلاب في فرنسا 1968 وبكل المحبة نقول لكَ لقد كنت واقعيًا بحيث منحْتَنا المستحيل في كل ما أنجزت.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!