عالقون وعابرون

عالقون وعابرون يستحق الإسرائيليون منا شكرا خاصا لا ينتقص قطرة من بحر كراهيتنا لهم ؛ لأن حماقة إظلام غزة كشفت بشاعة جريمتهم وأحرجت أصدقاءهم وألجمت أبواقهم «1» حين سمعت أحد زملائنا يتحدث بحماس شديد عبر شاشة التليفزيون عن حق الفلسطينيين في العيش ومستنكرا الحملة الإسرائيلية لتجويعهم وتدمير حياتهم تذكرت قصة..

عالقون وعابرون

يستحق الإسرائيليون منا شكراً خاصاً، لا ينتقص قطرة من بحر كراهيتنا لهم ؛ لأن حماقة إظلام غزة كشفت بشاعة جريمتهم. وأحرجت أصدقاءهم، وألجمت أبواقهم.
«1»
حين سمعت أحد زملائنا يتحدث بحماس شديد عبر شاشة التليفزيون عن حق الفلسطينيين في العيش ومستنكراً الحملة الإسرائيلية لتجويعهم وتدمير حياتهم، تذكرت قصة الرجل الذي هرول غاضباً باتجاه الحدود الإسرائيلية، وحين سئل في التحقيق عن السبب في ذلك، كان رده أنه سمع بأن اليهود صلبوا السيد المسيح فلم يستطع أن يكتم غضبه وقرر الانتقام منهم.
زميلنا الهمام -وبعض أقرانه ونظرائه- بلغهم مؤخراً، بعد اقتحام معبر رفح، أن إسرائيل قررت تجويع الفلسطينيين وخنقهم، ولم يسمع بالخبر إلا يوم الثلاثاء الماضي 1/24، بعد48 ساعة من القرار الإسرائيلي بقطع الكهرباء ومنع الوقود والمياه عن غزة. في حين أن الحصار مضروب منذ ثمانية أشهر، حين تسلمت حركة حماس السلطة في غزة في منتصف يونيو من العام الماضي.
إذ منذ 2007/6/14 وطوال الأشهر التي خلت، كانت الأدوية والأغذية ومختلف مقومات الحياة قد شحت ووسائل الإنتاج في غزة قد تعطلت حتى تحول القطاع بمضي الوقت إلى جحيم تستحيل في ظله الحياة على مليون ونصف مليون مواطن.
خلال تلك الأشهر كان خنق غزة يتم ببطء وفي هدوء، وكان العالم العربي فضلاً عن العالم الخارجي، جميعهم ذاهلين عن حجم الجريمة وعمقها، ومن أسف أن بعض العرب كانوا شركاء في الحصار والتجويع. ولكن قرار الإظلام الأخير أيقظهم من سباتهم. بحيث لم يعد لدى أحد عذر لكي يدعي أنه لم يسمع بما جرى.
«2»
قرار الإظلام لم يكن مفاجئاً للفلسطينيين، الذين اعتبروا الحصار وحملة العقاب الجماعي فصلاً في سجل إسرائيل الأسود، الذي عانوا من عذاباته منذ ستين عاماً على الأقل. المفاجأة كانت في إسرائيل، لأن الاستهتار والغرور أعمياهم عن إدراك حقيقة معدن الشعب الفلسطيني ووعيه. ذلك أنهم في تل أبيب ظنوا أنهم حين يخنقون القطاع ويعذبون أهله فإنهم سيثورون على السلطة القائمة ويسقطون حكومة حماس. ولكن الذي حدث أدهشهم، لأن أهل غزة لم ينتفضوا ضد الحكومة، ولكنهم كانوا واعين جيداً إلى أن الذي يحاول تدمير حياتهم هو الاحتلال وأعوانه. حتى ذكرت دراسة خاصة لقياس الرأي العام أن شعبية حماس ارتفعت في القطاع بعد الإظلام من39% إلى 41%، بالتالي فإن الانتفاضة وجهت ضد الاحتلال، واندفع الناس صوب معبر رفح.
تحدثت الصحف الإسرائيلية في الأسبوع الماضي عن أن موظفي وزارة الدفاع المسؤولين عن متابعة الأوضاع في غزة ظلوا في مكاتبهم حتى ساعة متأخرة في ليلتي الأحد والاثنين الماضيين «22 و23 يناير»، وهم يتابعون على شاشات التليفزيون المشهد في القطاع بعد قرار قطع التيار الكهربائي عنه. وفي الوقت ذاته كانوا يتابعون التقارير المقدمة من أجهزة المخابرات التي قدمت لوزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، وتحدثت عن إمكانية خروج الفلسطينيين في مظاهرات عارمة ضد حكومة حماس بعد قطع إمدادات الوقود الذي يستخدم في تشغيل محطة الكهرباء الرئيسية. إذ افترضت تلك الأجهزة أن الجمهور الفلسطيني سوف يحمل حكومة حماس المسؤولية عن ذلك الواقع. عبر عن ذلك بشكل صريح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في كلمته التي ألقاها أمام حزبه «كاديما» يوم الإثنين 1/14، عندما قال: إن الضغوط الاقتصادية على الفلسطينيين في القطاع تهدف إلى دفعهم للتخلص من «نظام حماس الإجرامي»، على حد تعبيره. لكن وكما نقل التليفزيون الإسرائيلي مساء اليوم ذاته فإن أولمرت وكبار موظفي وزارة الدفاع أصيبوا بخيبة أمل كبرى، عندما تبين أن مظاهرات ضخمة عمت غزة وجميع أرجاء العالم العربي، ليس ضد حماس ولكن ضد إسرائيل. وكما قال المعلق الإسرائيلي يارون لندن فإن إسرائيل أدركت- إثر ذلك- أنه كلما مارست الضغط على الفلسطينيين، وبررت ذلك الضغط بسيطرة حماس على القطاع، أبدى الفلسطينيون المزيد من التضامن مع حماس وحكمها.
«3»
لقد تعاملت مصر الرسمية بواقعية وحكمة مع ما جرى، ولخصت موقفها في أمرين: أولهما السماح مؤقتاً بفتح معبر رفح، وثانيهما دعت فتح وحماس إلى حوار يعالج الموقف ويحتويه. ومن حيث المبدأ فإنني لست قلقاً من الموقف الرسمي المعلن، ولكن أخشى من محاولات البعض إفساد الأجواء الإيجابية التي عبر عنها ذلك الموقف، عن طريق الإيقاع بين السلطة في القطاع وبين مصر، أو لي حقائق المشهد والترويج لمعلومات خاطئة تحقيقاً لأهداف مشبوهة. فالقول بأن اقتحام الجماهير الفلسطينية للمعبر اعتداء على السيادة المصرية، والزعم بأن السلطة في القطاع تحاول لي ذراع مصر، واتهام الفلسطينيين بأنهم اعتدوا على قوات الأمن المصرية وجرحوا منهم 36 شخصاً بعد إطلاق النار عليهم، ونسبة ذلك إلى «مسلحي حماس»، مثل هذه الادعاءات إما أن تكون تعبيراً عن قصر النظر، أو عن محاولة الدس والوقيعة، لا تختلف كثيراً عن إدعاء إسرائيل بأن من شأن فتح المعبر أن يسرب «الإرهابيين» إلى دلتا مصر، وأن يفتح الباب واسعاً لتهريب السلاح إلى غزة.
هذه الادعاءات تتجاهل تماماً أن ثمة كارثة إنسانية في القطاع، الذي أغلقت منافذ الحياة فيه منذ سبعة أشهر، في حين أنه اعتاد في السابق أن يستقبل يومياً 800 شاحنة من خارجه، توفر له احتياجاته المختلفة. وإذا كنا نتحدث عن مليون ونصف مليون مواطن عاشوا في ظل تلك الأوضاع بالغة القسوة خلال الأشهر الثمانية، فإن هذه الخلفية تفسر لنا الانتفاضة التي كسرت الحاجز، لتوفير الحاجات التي حرم منها الناس طوال الوقت.
لست أنفي ما حدث من اشتباكات، لكنى أدعو إلى الشك في دوافعها والعناصر المحركة لها. كما أدعو إلى أن تأخذ حجمها الطبيعي، بحيث لا تحجب الحقائق الأساسية التي حركت الجماهير صوب الحدود المصرية.
لقد سمعت أحد المثقفين المصريين يقول: إن حماس مسؤولة عن إقدام إسرائيل على حصار القطاع، لأنها ومعها حركة الجهاد الإسلامي دأبتا على إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية. وهذا كلام يروج له الإسرائيليون في كل مكان، ولم ينطل على الشعب الفلسطيني. صحيح أن عناصر حماس والجهاد تطلق الصواريخ بين الحين والآخر على إسرائيل. لكن كثيرين ينسون أن ذلك لا يتم إلا رداً على الغارات الإسرائيلية اليومية التي تقتل الفلسطينيين، وينسون أن حماس والجهاد التزمتا بالتهدئة في السابق، ولكن إسرائيل لم توقف عدوانها طول الوقت. وينسون أيضاً أن حماس طرحت إقامة هدنة متبادلة لعدة سنوات، تكون ملزمة للجانبين، ولكن الاقتراح رفض. والسبب في ذلك أن الإسرائيليين يريدون هدنة تلزم المقاومة الفلسطينية وحدها، في حين تطلق اليد لإسرائيل لكي تعربد في الأرض المحتلة كيفما شاءت. وهو مطلب لا يمكن لعاقل لديه ذرة من الكرامة الإنسانية أن يقبل به.
ثمة حجة أخيرة تتحدث عن إحراج مصر، بسبب تعارض الموقف الراهن مع اتفاقية المعابر التي وقعت في عام2005 بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمقتضاها أصبح الاتحاد الأوروبي طرفاً في مراقبة المعابر. وهذه الاتفاقية التي مثل الطرف الفلسطيني فيها السيد محمد دحلان -وهو ما هو- سلمت الإسرائيليين مفاتيح خنق الفلسطينيين، على النحو الذي تجلى في حصار القطاع وخنقه.
ولست أرى سبباً وجيهاً للحرج المصري، فمصر ليست طرفاً في اتفاقية المعابر، ثم أن إسرائيل آخر من له الحق في الحديث عن الالتزام بالاتفاقيات، لأنها لم تلتزم بأي اتفاق وقعته بخصوص الشأن الفلسطيني «واستمرار التوسع في الاستيطان بعد مؤتمر أنابوليس ليس ببعيد». كما أنها لم تلتزم بأي قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة باستثناء قرار تقسيم فلسطين وتأسيس الدولة في عام 1948، ثم إن مصر بوسعها أن تقول إن قطاع غزة جزء من أمنها القومي، وإنها لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أمام الكارثة الإنسانية التي فرضتها إسرائيل على أهله. أما مطالبة مصر بالمشاركة في خنق القطاع وإماتته فتلك هي الجريمة الحقيقية التي تريد إسرائيل من الدول الأخرى أن تتواطأ معها لأجل تنفيذها.
«4»
ما العمل إذن؟ لقد دعت مصر إلى حوار بين حركتي فتح وحماس لحل الإشكال، وهو ما رحبت به حماس. ولكن قيادات السلطة في رام الله رفضت الدعوة بطريقة غير مباشرة، حين اشترطت أن تعيد حماس الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل منتصف يونيو 2007، وتتراجع عما أسماه أبومازن بـ «الانقلاب» الذي وقع في القطاع «لاحظ أن أبو مازن في مفاوضاته مع الإسرائيليين لا يضع أي شروط رغم كل ما ترتكبه من جرائم». وفكرة الانقلاب هذه أكذوبة روجت لها مختلف الأبواق الإعلامية لتبرير الطلاق بين فتح وحماس، وإفشال تجربة حكومة الوحدة الوطنية. وقد تمسكت بها بعض عناصر السلطة للتحلل من الشراكة مع حماس، والانطلاق في مسار التسوية التي فرضتها إسرائيل. وكنت أحد الذين طالبوا من البداية بتشكيل لجنة لتقصي حقائق الانقلاب المزعوم، الذي قامت به حكومة منتخبة لوقف تمرد الأجهزة الأمنية التي عملت منذ إعلان نتائج الانتخابات في عام2006 على شل حركتها وإشاعة الفوضى في القطاع. ثم بعد ذلك أبقت على كل المؤسسات الباقية كما هي، بما فيها مؤسسة الرئاسة، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن حقيقة السلطة التي وجه ضدها الانقلاب. ولو أن اللجنة تحرت جيداً ما جرى، لاكتشفت أن عناصر السلطة هي التي قامت بالانقلاب على الشرعية وعلى التاريخ والجغرافيا في فلسطين.
معلوماتي أن أبومازن لن يدخل في حوار مع حماس، وأن حكاية التراجع عن الانقلاب ليست سوى غطاء لأمر آخر يعرفه جيداً المتابعون للملف الفلسطيني. ذلك أن استمرار القطيعة مع حماس شرط أمريكي وإسرائيلي لاستمرار دعم جماعة السلطة في رام الله. وهذا الكلام قاله صراحة توني بلير قبل ثلاثة أسابيع في لقاء خاص لصديق أعرفه. وربما أتيح لي أن أنشر تفاصيل ذلك اللقاء المثير في وقت لاحق.
إزاء ذلك فلست أرى حلاً في الوقت الراهن سوى أن يتم التفاهم بين مصر وحكومة حماس. وليكن هدف التفاهم هو كيفية معالجة الكارثة الإنسانية في غزة، عن طريق فتح الباب لدخول البضائع والاحتياجات الحياتية المختلفة، مع السماح بخروج المرضى وذوي الحالات الخاصة. شريطة أن يخضع الدخول والخروج لرقابة السلطات الأمنية المصرية من جانب ولشرطة القطاع الفلسطينية من جانب آخر.
لقد صغرت القضية وجرى تفتيتها، فلم يعد التحرير هدفاً ولا العودة حلماً، حتى تراجع الشعار عائدون عائدون، ووجدنا أنفسنا أمام عنوان آخر هو عالقون وعابرون- إننا نتقهقر إلى الوراء بسرعة ، وبأكثر مما ينبغي.
size=3>
size=3>

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــsize=3>size=3>

الشرق القطريةsize=3>size=3>

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!