عطرُ الغريبة

محطة القطار- منطقة حدودية ( سويسرا – ألمانية ) مدينة الشاف هاوزن-2.11.2019 البردُ يرسلُ سلاماته القاسية للمدينة، علّها تُغيّر من طباعها الحادّة، لا تمتثل لتنبيهه المتواري وتصرّ على سحنتها الأرستقراطية وأنفها المرفوع، فينفخُ عليها بريحٍ محمّلة برسالة ثلجيّة، تخبرها بأن الغد لن يحصل فيه طيّب. الريحُ تُطيّرُ الشالَ من على عنق الجميلةِ الواقفةِ في محطة […]

عطرُ الغريبة

[wpcc-script type=”22962553a1c91a557b6a2b1e-text/javascript”]

محطة القطار- منطقة حدودية ( سويسرا – ألمانية ) مدينة الشاف هاوزن-2.11.2019
البردُ يرسلُ سلاماته القاسية للمدينة، علّها تُغيّر من طباعها الحادّة، لا تمتثل لتنبيهه المتواري وتصرّ على سحنتها الأرستقراطية وأنفها المرفوع، فينفخُ عليها بريحٍ محمّلة برسالة ثلجيّة، تخبرها بأن الغد لن يحصل فيه طيّب.
الريحُ تُطيّرُ الشالَ من على عنق الجميلةِ الواقفةِ في محطة القطار (2) لكنّ يدَ جارها المؤقّت في المكان، الشاب الأشقر ذي الطول الفارع والسّحنة المنتمية إلى الطبقة المرموقة، تمسك بالشال الغارق حتى رأسه بعطر المسك… فيغرق الوسيم معه أيضاً بحكاية المسك العربيّة، يمسكُهُ بكلتي يديه آملاً الغوص أكثر، لكنّ نظراتها لشالها تنبّههُ.. فيعيدهُ إليها مع ابتسامة حالمة، تردّه بابتسامة مع كلمة شكراً، وتعيدُ الشالَ ليكتبَ سيرةَ الدفء على عنقها الطويل… بينما أفكارها تقولُ لها: ما أوسمهُ! لكأنّ الوسامة احتلّتهُ بكلّه. أما هو فخطواتُه تحثّهُ على تقليل المسافة الفاصلة بينهما، عيناه تسترقان النظرَ إلى حكاية السّمار التي يرويها وجهها المدوّر، عيناه الزرقاوان تبحثان عن سرّ الهدوء في عينيها الشبيهة إلى حدّ كبير بعيني الفهد…. كيفَ يسكُنُ كلّ هذا الهدوء في كلّ هذه الشراسة!
يصلُ طلبُ صمتِه إليها بسؤاله: زيديني بنظرة أرجوكِ. تستجيبُ، تلتقي نظراتهما معاً…. فيفيضُ العسلُ على البحر ليقلب ملحَهُ سُكّراً… يهيجُ الأزرقُ على الرمل، فيخلخلُ تراصّه. نستْ هنا المسافةُ الزمنيّةُ ذاكرتها، لربما لدقيقة.. دقيقتين من غوص عسل عينيها بأزرق عينيه. الخجلُ دعاها لأن تقطع حبلَ الجذب الذي امتدّ كخرافة وتنشغل بإشعال سيجارتها بينما يمرّ أمامها هو كالحلم الذي يرفضُ النومَ في غير مقلتيها.
آه.. لأول مرة أرى أنثى تُشعلُ سيجارتها بهذا الفن، تقول الفكرةُ في رأس الشاب، وهي مستمتعةُ بمراقبة الصبية، السيجارة معلّقة على جنب الشفتين وليس في وسطهما كعادة الأكثريّة.. اليدُ كأنها تلقي تحيّةَ احترام للسيجارة قبل إشعالها… السيجارة تشتعلُ عن طيب خاطر، وتشعر بالأنفة، وهي بيد شاعريّة تتعاملُ معها بهذه الرشاقة المحبّبةِ إلى قلبها.. لا ينزلُ رأس السيجارة إلى الأسفل أبداً، بل يبقى بمستوى مسافة السّلام، أو يرتفع إلى مستوى الكتفين، ريثما تأتي قبلة الشفتين الدافئة… اللونُ الزهريّ الفاتح يطبعُ بصمتهُ بحرفيّة على فلتر السيجارةِ، وعلى فؤاد الشابِ المفتون بالشفتين والعينين، ومَشقّةِ القدّ الذاهب في الصّمتِ الظاهر والضجّةِ المتخفيّةِ بين سطورِ المكان. الريحُ هنا آثرتْ أن تُهدّأ من روعها وتدخل كالوسيطة في جوّ الانجذاب اللاإرادي هذا، بين الشرق والغرب… تحولتْ إلى نسمات تنقلُ أفكارهما بينهما بصمتٍ فصيحِ اللسان. اقتربَ الشّابُ من الفتاة، وجعلَ المسافةَ بينهما تنكمش بحيث يصبح طولها مع عرضها خطوتين قادرتين على شمّ العطر مرةً أخرى… خطوتين قادرتين على التعرّف أكثر على هذه السطوة الغامضة.. الواضحة.. للسّمار الذي لا يعلنُ عن نفسه بصفة خالصة، وإنما بتحايل مدروس.
جلسَ على المقعدِ وبنظرةٍ، كما لو دعا فاتنتهُ إلى أن تقاسمهُ المساحةَ الصّغيرة. ردّتْ نظرةُ الأنثى: لم أعتد على السّكينة… ولدتُ هكذا مع قلقِ الهجرة، ثمّ أني أخافُ أن أعلقَ في عالم الغرب الذي لا يشبهني.
استغنى الشّابُ عن وداعته، واقتربَ منها بعينينٍ تقدحُ من عنفوان القوّة الكثير… لحظةٌ واحدة أوقفت قدمهُ من الدوس على قدمها: «أريدُ أن ألغي المسافةً»، وصلَ هذا الخاطِرُ بوضوح للجميلةِ العربيّة، فتفسيرُ ما لا يُقال يعودُ بأصولهِ للفراسة العربية.
هل لي بسيجارةٍ… استفتحت شفتاهُ الحديثَ بابتسامة مليئةٍ بالرقي والتحدّي في الوقت نفسه.
بكلّ سرور… جاوبتهُ الفتاة بلغته وهي تناولهُ سيجارة (Kent)
آه… أحبّ هذه النوعيّةَ من السجائر، إنها راقية وجميلة كصاحبتها… جاوبها.
أشكر لطفكَ، إنها كذلك فهي من بلادكم، التي تطبعُ طَبْعها على كلّ ما تُنتج.
مجاملة لطيفة منكِ، أأنت عربيّة على ما أعتقد.. كثيراً ما تلتصق كلمات مثلُ (أعتقد كذا وكذا… أظنّ هذا وذاكَ أو هل لي بكذا إن أمكن) في جمل السويسريين والألمان، إنها نوع من فنّ الحديث، بحيث أنهم حريصون على عدم فرض آرائهم أو رؤيتهم على الآخر بشكل واضح ومباشر، بل يميلون إلى الدبلوماسية في التعامل معه.
نعم أنا عربيةٌ جاوبه فمها الفاتر عن ابتسامة بسيطة.
و كيف تجدين الحياة هنا، هل تعوّدتِ على البلد الجديد.
الحياةُ هنا رائعة، حيثُ أني أعيش في بلدة فيها الكثيرُ من الهدوء الذي أميلُ إليه، ثمّ إن الطبيعة هنا لها تأثير خاص على من يريدُ التمتّع بجمالها، أشتاقُ بالطبع لبلادي وأهلي… لكنّ الإنسان لا يحظى بكلّ شيء عادةً. و بوجه متنعّم بالسعادة جاوبها: نعم هذا شيء جيد، يسعدني أنك تشعرين بالراحة معنا هنا – معنا هنا- هاتان الكلمتان تخبّئان وراءهما الكثير.
ابتسمتْ ونظرتْ إلى ساعتها…
القطارُ كأهلِ مدينته السويسريّة ينصاعُ لدقّة مواعيده، يأتي في الوقت المناسب للجميلة، وفي الوقت غير المناسب أبداً للوسيم، الذي يبادرها بسؤالٍ فيه الكثير من التمنّي: «أو لستِ مسافرة إلى زيوريخ»؟
لا إلى زنغن وجهتي، ومشتْ باتجاه قطارها.
على فكرة أنا لا أدخّن سيّدتي» قالها كمن يرمي طُعماً أو إشارةً إلى غامض جميلٍ، لم تشأ الصدفةُ السريعةُ أن تمنحهُ حقّهُ.
وبالتفاتةِ وداع لن تتكرّر جاوبته عيناها: نعم أعلمُ ذلك، لطالما عادتي أن أهبَ القليلَ القليلَ مني ثم أختفي».
حزنتْ الريحُ على خيبة أمل وسيم المحطّةِ بلقاءٍ كان يظنّ أنه سيستمر لمدة ساعة، في قطار واحد، لو أن الفاتنة كانتْ وجهتها كوجهته مدينة (زيوريخ) ولربما سيمتدّ مع الزمن لأكثر وأكثر، واختُصرَ بعدّة دقائق. فطيّرتْ الشالَ مرّةً أخرى حتى يلتقطهُ بيده البيضاء، ويبقى معه ليذكّره بأنّ عطر الشرق الذي سحبهُ من ياقته، ولم يعرف اسمه سيبقى ليذكّره بأن للشرقِ طابعٌ خاص سيحبونه على الرغم من أنهم لربما لن يفهموه.
وداعاً سيبقى معي شالُكِ دائماً، ثمّ سحبها القطارُ من أمام عينيه… آخر ما تبّقى في باله صورة لنجمةٍ من جهة الشرق ظهرتْ في سمائهِ لمدّة يومٍ واحد ولم تكرّر نفسها.

٭ كاتبة من سوريا

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!