فقه النهضة .. هل يُعتبر خيار المرحلة القادمة لعلاج التطرّف؟


وبإجمال مبتسر -يكفي للإشارة حول هذهالقضية الشائكة- ؛ أرى أن الممارسات الفكرية المنافية للموضوعية مهما صغرت لا ينبغيأن يُستهان بها حتى لو كانت آثارها المبدئية ضعيفة, فقد تنمو مع مرور الزمن لتصبحأكثر بعداً عن الوسطيّة والموضوعيّة معلنة نشأة التطرف بكل أطيافه الفكرية.
فالتعصب للأفراد أو المذاهب أو الجماعات يجعله لا يرى الحق إلا من خلالها،ويصادر بالتالي عقله، ويفكر بمنطق غيره، ويرفض كل رأي يخالف ما تعصب عليه من رأي أوطريقة؛ مما يزيد هوّة الافتراق في المجتمع، وربما يؤول الوضع إلى تنازع واقتتال بينأفراد المجتمع الواحد.
إن المبالغات التي أصبحت سمة للفكر المتطرّف تجعله يبالغفي ذم من يخالفه إلى درجة الإسقاط والإقصاء، وفي المقابل المدح والثناء على منيوافقه لدرجة التقديس والتنـزيه عن الأخطاء.
وهذا ما قد يؤدي في المستقبل إلىنشوء عقليات لا تنظر للحقائق إلا من خلال النظر العاطفي المجرد. وهذا ما أورث الأمةالكثير من الفتن والرزايا والثورات المسلحة, أو ساهم في بناء عقليات لا تنظرللقضايا أو الواقع أو حتى الشرع إلا من بُعد واحد، وتصرّ على أن هذا الجزء هوالحقيقة المطلقة. مع أن رؤية نصف الحقيقة شرٌّ من الجهل بها؛ لأنها توجد إنساناًيظن أنه يعرف كل شيء وهو لم يعرف إلا الجزء الذي يجعله مسماراً في آلة كبيرة دون أنيعرف شيئاً عن تلك الآلة.
وأهم ما يساعد على نشوء هذه العقليات ذات البُعدالواحد سواء أكانوا من المتطرفين أو من غيرهم؛ فقر البيئة الطبيعية أو الثقافيةبمعنى ضعف الخلفية العلمية والمنطقية لتحليل المشكلات وعلاج الأزمات؛ فيكون تفكيرهلا يخرج عن ذلك الإطار الضيق الذي يشكّل حصيلته المعرفية وخبراته الحياتية، ولهذاألزم العلماء من يجتهد في أحكام الشريعة أن تتحقق فيه الكثير من الشروط العلميةوالفكرية ليستجمع أدوات النظر الصحيح والمعرفة الشاملة.
إن عقلية البعد الواحديصعب عليها أن تحاور في هدوء، أو تسمع النقد المقابل دون تشنج؛ لأنها اعتادت أنتنظر لنفسها نظرة اعتدال وكمال واحتكار للحق والصواب، وكل من خالفها لن يعدو أنيكون ناقص فقه أو دين.
إن تبسيط الأمور العظيمة والمشكلات المزمنة دون العمق فيالنظر والتحليل المنطقي لها سمّة لأهل التطرّف والغلوّ, بالإضافة إلى الانغلاقالتام نحو الاستفادة من الثقافات أو العلوم الأخرى المعنية في ذلك. وهذا لن يزيدقضايانا إلا إشكالاً ورجعية.
إن هذه الممارسات الفكرية -وإن ظلت في الخفاء أولم تسهم في إثارة عنف أو تدمير في الواقع- لا ينبغي لنا تجاهلها أو الغضّ عنها. فمعظم النار من مستصغر الشرر، والواجب على مؤسسات المجتمع المختلفة أن تعيد صياغةالذهن وتنمية الوعي بالتفكير الموضوعي, وتعميق الحوار وتعليم أدب الاختلاف والإسهامبإيجاد مناهج تعليمية تطوّر هذا النمط من التفكير والتعليم.
فالتطرّف الفكريأصاب الكثير من المجتمعات على مستوى العالم، ولكن آثاره تختلف من مجتمع إلى آخر حسبمستوى الوعي لدى الأفراد والمسؤولين ؛ ولهذا لا ينمو إلا في مناخات العقول ذاتالبعد الواحد.
إن علاج ظاهرة التطرّف في المجتمعات الإسلامية تشكل أولوية لدىصنّاع القرار، وذلك للآثار الخطيرة الناجمة عنها على مستوى الفرد أو الدولة، ولاخلاف في أهمية الاحتياطات الأمنية لتضييق انتشار هذا الفكر والحدّ من خطره، إلا أنعجلة التنمية ودولاب النهضة لا ينبغي أن يتوقف إلى حين القضاء عليها، وإشاعة فقهالنهضة والمدنية يعتبر من الضروريات في المرحلة التي نعيشها هذه الأيام، مما يجعلالكل يسعى للبناء وينظر للمستقبل، ويتنافس مع الآخر في مدارج الحضارة والتقدم.
لقد مرّت كثير من الشعوب بأزمات فكرية وتقاطعات عنيفة في الرؤى والتوجهاتالاجتماعية والسياسية، ولكن خيار التقدم والنهضة لم يكن ضحية لهذه الخلافات، بلنجدهم يسارعون في الانسجام والاتفاق عما يهدّد حضارتهم أو يسلُب تقدمهم. ومنالأمثلة على ذلك في وقتنا المعاصر دولتا الهند والصين فلا أعتقد أن دولاً تزخربالأعراق والأديان والخلافات المذهبية والظروف الاقتصادية الصعبة في ظل انفجارسكاني رهيب ما يوجد في هذين البلدين، ومع ذلك فقد بلغ النمو الاقتصادي في الهند عام 2003م ما نسبته 8% وهو معدل مرتفع وفق المؤشرات الاقتصادية العالمية.
أما فيالصين فقد أنجزت خلال الخمسين عاماً الماضية إنجازات هائلة تجاوزت بذلك كل الظروفالاستثنائية؛ فقد بلغ الناتج القومي عام 2000م ألف مليار دولار، وبلغ احتياطها منالعملات الصعبة 60 مليار دولار، لتحتل المرتبة الثانية في العالم، كما ودّع (200) مليون فرد الفقر خلال العشرين سنة الماضية أي ما يساوي عدد سكان أمريكا مجتمعين.
إن إشاعة فقه النهضة والدخول في خيارات التنمية هو ما ينبغي إثارته في كلأطروحاتنا حول التطرف وأزمته الراهنة، وأعتقد أن هذا هو ميدان العمل والحرثوالإنتاج لنخبنا المثقفة، بدلاً من التمحور في أبراج التنظير العاجيّة, وتسويقالحلول الآنية. فهل نعتبر فقه النهضة مشروعنا القادم للخروج من أزمة التطرّفوإشكالاتها المتعددة؟

.مسفر بن علي القحطاني  

رئيس قسم الدراسات الإسلاميةوالعربية
جامعة الملك فهد للبترول و المعادن

من موقع الإسلام اليوم.

 

Source: Annajah.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *