فوتوغرافيا العراقية شيلان عبد الرحمن… الإمساك بما وراء الصورة

تداول القراءة للصورة تدعو للانتباه إلى تشخيص المحتوى اللافت للنظر في الصورة، الذي ينتجه فعل ــ تطّور الرؤى والنظرة الأكثر إبداعاً ووظيفة ــ إنها جنس ينتمي باقتدار إلى كل الأجناس الإبداعية. كما يمكن التأكيد على أن الصورة مكتفية بذاتها مرة، وتحاور الأجناس في أُخرى. ويمكن أيضاً القول إنها فن يفوق بخصائصه الذاتية والموضوعية الوظيفة الإبداعية، […]

فوتوغرافيا العراقية شيلان عبد الرحمن… الإمساك بما وراء الصورة

[wpcc-script type=”2b59e20c3327106024ba9f35-text/javascript”]

تداول القراءة للصورة تدعو للانتباه إلى تشخيص المحتوى اللافت للنظر في الصورة، الذي ينتجه فعل ــ تطّور الرؤى والنظرة الأكثر إبداعاً ووظيفة ــ إنها جنس ينتمي باقتدار إلى كل الأجناس الإبداعية. كما يمكن التأكيد على أن الصورة مكتفية بذاتها مرة، وتحاور الأجناس في أُخرى. ويمكن أيضاً القول إنها فن يفوق بخصائصه الذاتية والموضوعية الوظيفة الإبداعية، لأنه يرتبط بالذاكرة، وبالتالي بالتاريخ، فوظيفتها مزدوجة. كما أن للصورة، حسب رولان بارت، وظيفة الإبلاغ والتمثيل والمفاجأة والتدليل. وهذا مرتبط أساساً في كون الصورة حاملة للحس الأنثروبولوجي. فهي تُدوّن بالمرئي ما حدث ويحدث، للتدليل على العلاقات المتشعبة. فهي إذن وبهذه المقاييس، لا تعمل على أن تكون بفعلها خارج الحركة، وإنما مندمجة فيها ومعها، خالقة لرموز المشهد الذي تتناوله. صحيح أنها ليست نتاجا متخيّلا، لكنها تترك المخيلة تؤدي دورها في التقاط الاستثنائي، الذي يشكّل صورة لرموزها وإشاراتها، فالعين الناقلة للمشهد، ونعني بها عين المصوّر لا تستقبل الضوء والألوان وتشكيلات الطبيعة، بحس خارجي ميكانيكي، بل تمنح الوجود هذا وجوداً مرئياً، يستلهم خفايا المرئي، ليحوّله إلى مرئي استثنائي على حد قول موريس ميرلو بونتي.
من هذا نرى في صور الفنانة الفوتوغرافية شيلان عبد الرحمن استثناءات، على الرغم من محدودية النماذج المتوفرة لدينا. غير أن هذه القلة توحي بمدى الاهتمام الذي توليه الفنانة لمصادر صوّرها، هي حصراً الطبيعة وما تقدم من سحر وجمال، تتأنى الكاميرا إزاءها، كي تخلق عالماً مضافاً لما هو مرئي بالعين المجردة. إن عين الكاميرا لديها تتظافر مع العين الفنية من أجل تقديم صورة يلعب فيها الخيال دوراً من باب رؤيوي خالص، أي أن العين ترى ما لا نراه نحن. وهو فعل الغوص في اللامرئي ليكون مرئياً، يُحقق وجوداً جدلياً، لذا ستكون قراءتنا شاملة لثلاثة مناح من التصوير هي (الطبيعة، البورتريه، مشاهد يومية):

سحر الطبيعة

مشاهد الطبيعة متيسرة للجميع، والمتعة المتحققة منها تختلف من شخص لآخر. غير أنها بالنسبة للفنان الفوتوغرافي على حساب آخر مختلف. فهو يمتلك عينا ثالثة، فنية خالصة، إضافة إلى عينه المجردة وعين الكاميرا. هذا الثالوث يمتلك القدرة على صياغة مشهد لا يتعامل مع المرئي من باب نقله كوثيقة فقط، وإنما وثيقة تبلورت خلالها النظرة والرؤية الفنية. أي الارتقاء بالمشهد إلى مصاف الإبداع الجمالي، لذا نجدها تنظر إلى تفاصيل المشهد بحساسية مفرطة، إذ تحوّله إلى منطقة تتشاكل خلالها الرؤية التشكيلية والرؤية الفوتوغرافية، لاسيّما تعاملها مع الألوان، بشعور من يريد العبور إلى منطقة خارج منطق المرئي، أي التلاعب بتقنية عالية بالألوان، وجعل التحكم بالضوء والظِلْ حاضراً. وبهذا تتغيّر حركة المشهد من ساكن إلى حيوي الانبعاث والولادة. ومن النظرة الفاحصة أكثر؛ تتحوّل الأشكال إلى رموز على حراك أُسطوري، خاصة التأكيد على اللون الأحمر، وتحويلة من الدلالة الدموية إلى دلالة الإخصاب والانبعاث، كما هو ثوب (راحيل) وقميص (يوسف). كما أن توزع أوراق الأشجار مثلاً، ليس دليلا على الموت والفناء، بقدر ما يكون الخريف ممهدا لربيع مقبل، وتجددا مستمرا في الطبيعة والحياة العامّة. هذه الحركة في الطبيعة حاولت الفنانة أن تنقلها خلال الصورة، استجابة لما هو مضمر في ذاتها كمبدعة. فهي لا تمسك بجسد الكاميرا، إلا باعتبارها الوسيلة التي تعبّر من خلالها عن جوّانيتها الفذة.
تبرز خلال مشاهد الطبيعة بانوراما، تحتفي فيها الألوان وتحتشد لا لشيء سوى التعبير عن فعل الطبيعة الدائم، لكن الاختيار لزوايا اللقطات هو المحقق لفنية الصورة وعبورها نحو تخوم التعبير الاستثنائي، فالصورة لديها حشد من أوراق أشجار متساقطة، وأُخرى متشبثة بأغصانها؛ صخور صلدة رمادية، مساقط مياه تنسكب من الأعلى، جذوع وجذور أشجار تمتد بحرية مطلقة، إنها تلقائية الطبيعة منظور إليها بعين الكاميرا، وعين ثالثة أكثر حساسية في فحص المشهد. إن التأني في اختيار زاوية اللقطة، يُحقق عنصر الإبداع ونجاح الصورة في أداء رسالتها. وهذا ما لاحظناه عند معظم فناني الفوتو، الذين درسنا أعمالهم، فهم شديدو الاهتمام باختيار زاوية اللقطة، لأنها محققة لرؤيتهم الفنية.

لعل فن البورتريه فيه من الخصائص الدالة على قدرة الفنان على استعمال مخيلته، ذلك لتعامله مع الضوء والظِلْ بمهارة وإبداع. فالبورتريه نقل وانطباع يتطلب مهارة فنية ورؤية واسعة متشبعة بمعرفة النفس البشرية، ودراسة مزاجها.

تبقى اللقطة المأخوذة من الجو، أو من الأعلى؛ فقد حققت بانوراما لوّنية للمدينة، إذ تظافرت في تشكيلها الإنارة، فكانت العتمة سبيلاً لعكس جمالية المدينة وامتداد مشهدها، فالضوء والإنارة الموظفة على قلتها، إلا أنها كشفت عن اللامرئي في المرئي، أي عكست الجمال الذي ينتظم الأمكنة فيها ضمن وحدة بانورامية، فغدت قطعة واحدة متظافرة الأجزاء، هذا المتحقق لعبت عين الكاميرا وعينها الحساسة، وعين المصوّرة دوراً جدلياً في تعادل وتوازن المكوّنات. أرى أن هذه الصورة ستبقى خالدة، كما هي اللوّحات الكبرى، لأنها اختزنت كل ما من شأنه تحقيق رؤى الإبداع، وهو ينظر إلى الأمكنة بحساسية العينين. ما يمكن تلخيصه بشأن تعامل الفنانة مع الطبيعة نذكر؛ إنها فعّلت حساسية النظرة الجمالية للمشهد، ونشّطت ممتلكات الكاميرا كي تتعامل مع المشهد برؤية فنية، محققة الجمالية المطلوبة التي تحققها الصورة.

البورتريه

لعل فن البورتريه فيه من الخصائص الدالة على قدرة الفنان على استعمال مخيلته، ذلك لتعامله مع الضوء والظِلْ بمهارة وإبداع. فالبورتريه نقل وانطباع يتطلب مهارة فنية ورؤية واسعة متشبعة بمعرفة النفس البشرية، ودراسة مزاجها. فالوجه يعكس دواخل الإنسان، لذا يكون التعامل معها فيه شيء من الدراسة والتأمل في النموذج لكشف جوّانيته، هذه الدراسة النفسية تؤدي إلى تدوين بالصورة ما عليه الشخصية عبر ملامحها وإرهاصاتها الذاتية. فالتعامل مع وجه طفل غيرها مع شاب أو كهل. فالمصوّر يبحث عن وقع الزمن وتأثيراته، من هنا نجد في هذا النمط من التصوير استظهار القدرة على التقصّي الدائم والدقيق. والفنانة شيلان، تميل إلى التقاط الصورة وفق عفوية، أو لنقل تلقائية تؤدي وظائفها. فالطفل مثلاً في مصوراتها لا تظهر عليه سوى البهجة والفرح الطفولي ممزوجة بالأناقة. والصبية وهي تواجه عين الكاميرا تستقبلها باطمئنان، لأنها ستسجل معالمها، سواء في ما تتطلع إليه، أو ما هو محمول على مناسبة فرح، فالكاميرا تلاحق ذلك بعفوية، لكنها لا تخلو من ترك الأثر على كادر الصورة الملتقطة. فالجمال ديدنها، والبهجة رائدها.
إن الصورة لديها تتصف بجملة خصائص منها:
دلالة النظرة للنموذج وعمقها.
جمال اللقطة ورهافة صيرورتها.
التجاوب مع جو الاحتفاء الذي يظهر على الملامح.
توازن مكوّنات المحتوى من نِسَبْ الضوء والظِلْ.
براءة الطفولة والنظرات الدالة على العفوية والاسترخاء الجسدي.
الفرح والأناقة والاعتزاز بالنفس.
تأكيد جمالية اللقطة، لاسيّما وجه الفتاة وإشراقته، ووشم الساعد.
وثمة استثناء مدروس للقطة، جمعت كل خصائص الصورة الفنية، ابتداء من اختيار الزاوية التي أظهر جزء من وجه الصبية في لقطة (كلوز) حشدت الفنانة إمكانياتها الفنية، وقدرات الكاميرا في تقصّي ما يجب تقصيه في هذا الضرب من التصوير. جمعت فيها النظرة العفوية والمستقرة للنموذج، ثم إظهار جماليات المكوّنات لهذا الجزء الذي ظهر على استقلالية تامّة في التعبير، خاصة استقرار العينين على نقطة ومركز فيه معنى بعيد الدلالة. إطار النقاب ساهم في تعميق الظِلْ، واكساب الهيئة جمالاً وعفة وعفوية وتلقائية. لقد اجتمعت هذه الخصائص لتُظهر مدى اهتمام الفنانة بصياغة لقطتها الفنية.

مشاهد يومية

لم يكن في متناولنا سوى لقطة واحدة تعكس الحياة اليومية، وهي لقطة لطفلتين تقتعدان الرصيف، قرب محل معرض فاره المظهر. المكان غير نظيف، يبدو أن الطفلتين تمتهنان جمع المتروك من الأشياء التالفة، أو ليست ذات أهمية. وهو نوع من التشرد اليومي للأطفال الذي تشهده الحياة العراقية، تطلعات بريئة لواجهات برّاقة، حرمان واضح. الصورة طغى عليها اللوّن الأحمر الدموي، وهو نوع من تصاعد الصراع والاحتجاج. الصورة عكست التفاوت الطبقي وتشرد الأطفال جزء من هذا التناقض.
عموماً نرى في ما قدمته الفنانة شيلان عبد الرحمن من نماذج اللقطات، يُنبئ بولادة فنانة فوتوغرافية، تستقبل تطورها بجدية وعمق، ذلك لأن نماذجها تؤشر لمثل هذا المنحى، الذي رائده الاحتراف، واستعمال الموهبة من أجل تحويل حرفة التصوير إلى فن إبداعي، شأنه شأن الفنون والأجناس الأُخرى.

٭ كاتب عراقي

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!