قال إن الصراع الشعري بدأ إبداعيا في التسعينيات… محمد عرش: أكتب لتكتمل صورة أمي وأعوض العزلة والفقد

محمد عرش شاعر مغربي من شعراء جيل الثمانينيات، الذي يقول عنه بأنه «جيل مُوزع حسب ثقافة كل واحد، وبما تأثر به». أصدر باكورته الشعرية «أحوال الطقس الآتية» سنة 1988 على نفقته الخاصة، ثم توالت أعماله الشعرية، مثل: «أنثى المسافات» 1996 و«مغارة هرقل» 2009 و«كأس ديك الجن» 2012، وآخرها «مخبزة أونغاريتي» 2018. تقرأ له فيلفتك صوته […]

Share your love

قال إن الصراع الشعري بدأ إبداعيا في التسعينيات… محمد عرش: أكتب لتكتمل صورة أمي وأعوض العزلة والفقد

[wpcc-script type=”fd2e3616bb86915742a928b5-text/javascript”]

محمد عرش شاعر مغربي من شعراء جيل الثمانينيات، الذي يقول عنه بأنه «جيل مُوزع حسب ثقافة كل واحد، وبما تأثر به». أصدر باكورته الشعرية «أحوال الطقس الآتية» سنة 1988 على نفقته الخاصة، ثم توالت أعماله الشعرية، مثل: «أنثى المسافات» 1996 و«مغارة هرقل» 2009 و«كأس ديك الجن» 2012، وآخرها «مخبزة أونغاريتي» 2018. تقرأ له فيلفتك صوته الفردي المتشظي من خلال قصيدة بصرية ومتقشفة تمزج بين قصائد التفعيلة والنثر والومضة. يستدعي سيرته الذاتية شعرًا، فاشتهر بقناع ديك الجن الذي أحرق معشوقته ورد ولَوْلب رمادها، ثم اتخذ من قناع أونغاريتي تجربة حوار وغيرية؛ وهو من قناع إلى آخر، يكتب ليمحو، ويخط ليغمس أصابعه في جروح عميقة.

■ كيف جاء محمد عرش إلى الشعر، وعقد عليه زمام كينونته؟
□ يصعب تحديد كيفية المجيء إلى عالم الشعر، وبالضبط وقت القدوم، ثم الظروف التي قادت إلى ذلك؛ كل ما أعرف أنني أتيت بسبب اليتم والحرمان من حنان الأم، وأنا لم أتجاوز ستة أشهر. لا أعرف وجه أمي لحد إجراء هذا الحوار، وما يترتب عن ذلك من حرمان، حسب كل مرحلة عمرية. لهذا، قادني هذا الفقد إلى إكسير يخلق التوازن النفسي هو الشعر، ففيه وجدت مسالك للعثور على وجه الأم داخل أحواض القصيدة. من هنا، وجدت البيت الذي أقطنه حسب منظور هايدغر الشعري، بحيث تم عقد القران مع القصيدة وخلق الغواية بين الكتابة والأنثى.
■ في عقد السبعينيات بدأت الكتابة، إلا أن دارسي الشعر المغربي يضعون اسمك ضمن جيل الثمانينيات. ألا يُشعرك هذا بالغبن؟ أم أنها – بكل بساطة- مسألة وقت للمحاولة وجس الأرض؟
□ حين بدأت أفك الحرف، وأخطه، شعرت بما لهذه الخطوط من سحر ومتعة إذا تم ضبطها، وضبط علاقاتها، على حد رصد الناقد الألمعي في نظري عبد القاهر الجرجاني. أحسست بالفقر والعزلة التي ترافقني، فقد ضاع المخطوط الأول «الليالي»، وكله قصائد عمودية، أضيفه إلى وجه أمي، ثم استمر الهطول الشعري، مرة بغزارة، ومرة ببطء، يصل حد الخوف من جفاف جب الشعر. أواصل الكتابة، ولا يهمني التحقيب، بل – كما أشرت- الحساسية المتفردة. بالعكس لا يضايقني وضعي مع جيل الثمانينيات أو حاليا. يمكن أن نجد شاعرا الآن، شابا، لكن كتابته تنتمي إلى القرون الوسطى، بالإضافة إلى هذا؛ لضمان الاستمرارية، لا بد من المحاولات، وجس النبض لانتعاش القصيدة.

حين بدأت أفك الحرف، وأخطه، شعرت بما لهذه الخطوط من سحر ومتعة إذا تم ضبطها، وضبط علاقاتها، على حد رصد الناقد الألمعي في نظري عبد القاهر الجرجاني.

■ أصدرتَ باكورتك الشعرية «أحوال الطقس الآتية» سنة 1988. ولهذا صار من الدارج أن ترتبط، بيولوجيا، بجيل الثمانينيات الذي حقق طفرة أساسية في سياق تحديث الشعر المغربي. في نظرك، ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له، والتي ما زالت تفعل فعلها المؤسس؟
□ فعلا، هذا العمل الشعري «أحوال الطقس الآتية» الصادر بين سنتي 1987 و1988، لم ير النور إلا بعد مشاق، فقد اقترضت مبلغا ماليا من أحد البنوك لطبعه، وأنا أستاذ التعليم الثانوي في مدينة ورزازات. هذا العمل يغلب عليه طابع التسرع، ومحاولة الخروج من القوقعة إلى الفضاء، ويغلب عليه الطابع السياسي الأيديولوجي؛ إنه نسخة لما كان يمور في الساحة الطلابية. فنحن جيل تأثر بالاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وقد طالنا الحظر والمنع أيام أم الوزارات. تأثرنا بأساتذتنا محمد برادة، ومحمد بنيس، ومحمد اليابوري، وأحمد المجاطي، ومحمد مفتاح، وأحمد بوزفور وغيرهم. بعد هذا، انفتحنا على الشعر المشرقي من خلال جيل الرواد: السياب، وأدونيس، وحسب الشيخ جعفر، وأنسي الحاج، وجان دمو، الذي كان أقربهم إليّ، ثم ما تلاه من جيل متماسك من حيث الثقافة والاطلاع على الشعر الغربي: مالارميه، بودلير، رامبو، فرانسيس بونج، هولدرلين؛ والشعر الأمريكي والإنكليزي: إليوت، وإدغار ألان بو…
أما نحن فجيل موزع حسب ثقافة كل واحد، وبما تأثر به. لهذا لم نفلـــح في خلق رؤية موحدة، وهذه مهمة النقد لتشكيل هذه الأحواض الإبداعية، ووضع اليد على الأسباب، وتبيان الطفرة الشعرية، ونفض الغبار عن القصيدة. ومن هذا المسرب انتعشت القصيدة في التسعينيات، وبدأ الصراع إبداعيا حسب رأيي.

■ من خلال أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور بعد ذلك التاريخ، مثل «أنثى المسافات» 1996 و«مغارة هرقل» 2009 و«كأس ديك الجـــــن» 2012، انحزْتَ إلى صوتك الفردي من خلال قصيدة بصرية ومتقشفة تمزج بين قصائدة التفعيلة والنثر والومضة. ما هي أبرز المصادر ومرجعيات الكتابة التي استلهمتَ منها سبل إبداعك، وسعيتَ إلى الاغتناء منها وتجاوزها (ثيمات، رموز، أساطير، وقائع)؟
□ سؤال مهم ومتشابك، يتطلب الحذر، لأن داخله مفقود، وخارجه مولود، عطفًا على تعابير ألف ليلة وليلة. فعلا، دواويني تخضع لمشروع شعري متعاقب، فكل منجز شعري يخضع في تنسيقه وترتيبه إلى ثيمة معينة؛ فعمل «أنثى المسافات» يتوزع ما بين غواية الكتابة والغواية الأنثى، بين الروح والجسد، واللغة خيط رابط من آدم إلى اليوم؛ ويأتي عمل «مغارة هرقل»، الذي يمزج بين الرمز والأسطورة والواقع من خلال الفلسفة، أي اتكاء الشعرية بالمعنى الأرسطي على العقل؛ أما «كأس ديك الجن» فيتصالح من جديد مع التراث وفق رؤية حداثية. من الانفعال الخادع – بتعبير صلاح عبد الصبور- إلى اختمار القصيدة والتوجس، بدأت القصيدة تتمرد على أثوابها، وتتعرى من الزوائد؛ الشاعر يرعى رشاقتها ويختار لباسها. بعد الأطروحة حول شعرية القصيدة عند محمد بنطلحة، بدأ البحث عن إيقاع الألم، أو مطرقة نيتشه، والدخول إلى قصيدة النثر بحذر، لأن الإفراط في الحرية يعمي العين (كثرة المراويد تعمي العين). ذاك ما أحلم به في «مخبزة أونغاريتي» الصادر عن بيت الشعر في المغرب قبل أيام.

من الانفعال الخادع – بتعبير صلاح عبد الصبور- إلى اختمار القصيدة والتوجس، بدأت القصيدة تتمرد على أثوابها، وتتعرى من الزوائد؛ الشاعر يرعى رشاقتها ويختار لباسها.

■ إذا ركزنا على ديوانك الجديد «مخبزة أونغاريتي» يظهر كأنك تستدعي حياة هذا الشاعر الإيطالي الذي عاش في الإسكندرية، أو بالأحرى تستدعي قناعه وتتناص مع شعره، وهو الذي اعتبر تجربته مع الشعر «محاولة غرس الأصابع في جروح عميقة» إلى أي حد يصح هذا التأويل؟
□ فعلا، كنت قلقًا في هذا المشروع الجديد من حيث كيفية توظيف اللغة، بعيدا عن الزوائد والمساحيق البلاغية، على أساس أن تكتفي التجربة الشعرية بالإشارات، أو ما يسمى كتابة المحو، والاقتصار على الصمت؛ وبمعنى أوضح، الاقتراب من تلميح الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا، حيث الشكل والمعنى يشبه جسدًا فُصل عليه الثوب بقياس خياط ماهر، لا تمييز بين الثوب والجسد، وبين الشكل والمعنى في هذا الانشغال القلق. تقودني الصدف إلى قراءة الشاعر الإيطالي جوسيبيه أونغاريتي، وإحساسه بالزمن وكتابة الصمت، فتم التأثر على عدة مستويات. من حيث الطفولة: شظف العيش ومرارته، وموت أبيه، وتكفل أمه به، حيث المخبزة في الإسكندرية لضمان عيش ابنها، ومواصلة تعليمه. بالنسبة لي، تكفل والدي بتربيتي، وفيه الأم تعويضًا عن أمي التي ماتت، وأنا لم أتجاوز ستة أشهر، فكان الأب والصديق والأم. لذلك لم أحس بالتنافس مع الأب، وقتله بالمعنى النيتشوي.
المخبزة تنتج رغيفا، ما بين الطاجز والنابت، وكذلك القصائد تبعا لاختيار التجربة الشعرية، واللغة هنا تلعب دورا، فهي عجين تتشكل منه كل الأشكال، ثم الإحساس بالألم والشعور الإنساني؛ لأن أونغاريتي ينشد الحرية، ولو أدى به الأمر إلى المنفى. الأمر نفسه بالنسبة لي، أفضل العيش في الظل على أن تُمس كرامتي وحريتي، وحرية الإنسان. لا يكتفي أونغاريتي بوصف الألم، بل يغرس أصابعه في جروح عميقة، ولا يكتفي بترك العبد ناعسا ليحلم بالحرية، بل يوقظه ويفسر له كيفية المطالبة بها، عطفًا على جبران خليل جبران. طبعًا، هذا التأثر في صالح القصيدة،لأنها تخففت من الثياب الزائدة، وبدأت تبوح بالقليل.
■ عطفًا على ما سبق، هل نصدق أن محمد عرش قد كتب سيرته الذاتية شعراً؟ وماذا يبقى من هذه السيرة في حضرة الشعر كخطاب واستعارات؟
□ أجمل سيرة ذاتية شعرًا حين تبوح القصيدة بمكنونات صاحبها، بدون عراقيل أو حواجز شائكة؛ فنحن نعرف حياة السياب ومعاناته من شعره، ونعرف سيرة محمود درويش ومعاناة شعبه من خلال شعره، ونعرف عسل ورماد محمد بنطلحة من دواوينه، ومعاناة سركون بولص من شعره. نعرف شقاء شارل بودلير من شعره. نعرف الشاعر الأمريكي بوكوفسكي، وارتباطه بالهامش، واللامفكر فيه من شعره. لكن إذا أردت كتابة السيرة الذاتية الشعرية، وهيأت نفسي، سأمسك السراب، وأتيه بين التقديم والتأخير على مستوى أعماق الطفولة، فتتسرب الخيوط. سيرة الشاعر شعره، تبعا لمرجعياته الثقافية والفكرية والسياسية، وارتباطه بواقعه، وكل ذلك يخضع لكيمياء اللغة، وكيفية عجنها، لاستخراج الخبز على درجات من حرارة المجاز، وحرارة الاستعارة، ويمكن أن تصادف بقايا الجمر في استعارة قصيرة، وتهيئ ريش الجناحين على مهل في انتظار سماء زرقاء، تسمح بالرفرفة بدون قيد أو شرط لهذه الحرية.

أكتب إلى قارئ يتواصل معي. أقرأ كثيرا في كل الحقول المعرفية لأكتب قليلا.

■ بوصفك معنيا بسؤال الشعر المغربي، كيف تنظر إلى حاله اليوم، وإلى مستقبله بالنظر إلى الإكراهات الثقافية المتراصة؟
□ من خلال بحثي في الإجازة حول عمل الشاعر سليم بركات «الجمهرات»، ودبلوم الدراسات العليا حول أعمال الشاعر سعدي يوسف، ثم بحث الدكتوراه حول أعمال الشاعر محمد بنطلحة، وحيث عقدت مقارنة بينه وبين الشاعر سركون بولص في أحد فصوله، وصلت ـ للإنصاف – إلى تفوق الشعر المغربي. ومن ناحية الإكراهات السياسية، فإذا لم تكن بوقا فلا يعتد بك، والتفوق أكبر عائق في هذا البلد السعيد، ثم محاولة رمي الغبار في وجه الشعر، وإفساح المجال للسرديات وتحقيق الرحلات، لأن الأساتذة الأكفاء في مجال الشعر يعدون على رؤوس الأصابع، وما تبقى عبارة عن إخراج العيون من محاجرها، وهذا صحيح ومجرب. ينبغي ارتباط المثقفين الحقيقيين برباط النبل والإخلاص لتحقيق مدارس شعرية، وانتباه النقاد إلى ما يصدر، وفرز الغث من السمين، لأن بوصلة الطريق يحققها النقد الجاد، وليس النقاد الذين يبيضون في أعشاش الغير ويعيدون ما في الهامش من جراحات البجع!
■ ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة؟ وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟
□ حين تلح القصيدة، أو الكتابة كما يحلو لي الآن تسميتها، أستيقظ من النوم، وأكون في حالة قلق وجودي، وتكون الأقلام والأوراق جاهزة فأنا من جيل يعشق الخط، ثم أهيئ الشاي بنفسي؛ عند الولادة أترك العمل ولا أعود إليه إلا بعد أن يخف توتر الشاعر.. عندها أقوم بالتعديل والتنقيح.
■ في نهاية المطاف، لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟
□ أكتـب لتكتمل صورة أمي، وأعوض العزلة والفقد، وأخلق التوازن النفسي، وأكتب إلى قارئ يتواصل معي. أقرأ كثيرا في كل الحقول المعرفية لأكتب قليلا.

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!