ماتيا فيراريسي* – (ذا بوسطن غلوب) 13/3/2020

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

كان الكثير منا أنانيين جداً بحيث لم يتّبعوا الاقتراحات لتغيير سلوكنا. والآن، نحن عالقون في الحجر والناس يموتون بلا داع.

  • * *
    يُظهر ما حدث في إيطاليا أن مناشدات الحكومة -التي كانت أقل من حازمة أو ملحة- لتغيير العادات بشكل طفيف فيما يتعلق بالتفاعلات الاجتماعية، ليست كافية عندما لا تكون النتائج الرهيبة التي صممت من أجل تلافيها ظاهرة بعد؛ والتي عندما تظهر للعيان، يكون الأوان قد فات عموماً للتصرف. لم أر أنا والعديد من الإيطاليين الآخرين الحاجة إلى تغيير روتيننا للتكيف مع تهديد لا نستطيع رؤيته.
    إن إيطاليا تعيش الآن حالة إغلاق منذ 9 آذار (مارس). وقد تطلب الأمر مرور أسابيع بعد ظهور الفيروس هنا لأول مرة لإدراك أن التدابير الصارمة كانت ضرورية بالمطلق.
  • * *
    روما، إيطاليا- “كما هو الحال في أي حرب، علينا أن نختار من هو الذي نعالجه ومن الذي لا نفعل”.
    كان هذا أحد العناوين الرئيسة لطبعة 9 آذار (مارس) في صحيفة “إلكوريير ديللا سيرا” البارزة في إيطاليا، وأبلغتنا القصة بأن المستشفيات في شمال إيطاليا؛ مركز تفشي فيروسات كورونا في بلدنا، تعاني من ضغوط شديدة بعد أن اجتاحتها الأعداد، وبأن نظام الرعاية الصحية على حافة الانهيار.
    وقال أحد أطباء التخدير في مستشفى في بيرغامو، وهي إحدى المدن التي تعاني من معظم حالات الإصابة بـ”كوفيد-19″، المرض الناجم عن فيروس كورونا المستجد، للصحيفة أن وحدة العناية المركزة تعمل مسبقاً بأقصى طاقتها، وأن الأطباء أصبحوا يُجبرون على الشروع في اتخاذات قرارات صعبة بخصوص الفرز، حيث يقبلون الأشخاص الذين في حاجة ماسة إلى تهوية ميكانيكية (تنفس اصطناعي) على أساس العمر، ومتوسط العمر المتوقع وعوامل أخرى -تماماً كما يكون الحال في زمن الحرب. وتم وضع المقالة، بطريقة غير قابلة للتفسير، في الصفحة 15، في حين نقل العنوان الرئيسي على الصفحة الأولى للصحيفة الخلافات والمشاجرات السياسية حول الإجراءات المتعلقة بكبح جماح العدوى.
    ولم يكن المستشفى في برغامو المستشفى الوحيد في المنطقة الذي يعاني من نقص في القدرة ويقوم بتقنين الرعاية المقدمة للمرضى. في اليوم نفسه، سمعت من مدير في نظام الرعاية الصحية في لومباردي، وهو من بين الأنظمة الأكثر تقدماً والأفضل تمويلاً في أوروبا، أنه رأى أطباء التخدير يبكون في أروقة المستشفى بسبب قرارات الاختيار التي يتعين عليهم اتخاذها.
    في الأيام التي تلت منذ ذلك الحين، عمدت المستشفيات المكتظة التي اجتاحتها الأعداد الكبيرة إلى إقامة الخيام كأجنحة مؤقتة للمشافي، وتم وضع حاويات البضائع على مداخل المراكز الطبية لفرز المرضى القادمين بوتيرة متزايدة. ويموت بعض الناس الذين لا يستطيعون الحصول على الرعاية الطبية في المشافي في منازلهم.
    بينما شرع المزيد من المهنيين الطبيين في وصف مواقف مماثلة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي المقابلات، نشر المجتمع الإيطالي لأطباء التخدير إرشادات جديدة غير عادية لمساعدة الأطباء الذين يواجهون معضلات أخلاقية، موضحين أن معيار “من يأتي أولاً يُخدم أولاً” الذي كان يُستخدم بين المرضى الذين يعانون من الأمراض نفسها وتحت مستوى الخطر نفسه في الأوقات العادية، ليس مناسباً للتعامل مع حالة الطوارئ الحالية.
    حتى الأسبوع الماضي، كانت لدى نظام الرعاية الصحية العامة في إيطالية القدرة على رعاية الجميع. فبلدنا يتمتع برعاية صحية شاملة، لذلك لا يتم رفض المرضى في المستشفيات هنا. ولكن، في غضون أيام فقط، تم إسقاط هذا النظام على يد فيروس أخفقنا، أنا والعديد من الإيطاليين الآخرين، في أخذه على محمل الجد.
    ليس عدم قدرة النظام الطبي على التعامل مع تدفق المرضى الذين في حالة حرجة واحداً من مشاكل هذه الحالة الطبية المعقدة. إنه المشكلة في حد ذاته. وما كان ينبغي أن أتفاجأ. كصحفي، كنت قد قرأت، وسمعت، وتحدثت إلى العديد من الخبراء وهم يشرحون أن التهديد الأكثر مباشرة وخطراً لمرض “كوفيد-19″، هو أن يجتاح نظام المستشفيات ويرهقه، ولذلك، كانت الحاجة الأكثر إلحاحاً هي تجنب أن يصبح الكثير جداً من الأشخاص مرضى في نفس الوقت، لأن الموارد محدودة. (ما يسمى “تسوية المنحنى”).
    لكن تلك المعلومات تم تخزينها بطريقة أو بأخرى في ركنٍ ما بعيد في ذهني، والذي طغى عليه تدفق مستمر من شذرات المعلومات والرسوم البيانية حول معدل وفيات كبار السن، وسوء الإدارة السياسية، والخلافات حول الاختبارات غير الكافية والاختبارات المفرطة، وانهيار السوق، والتوقعات حول الأثر الاقتصادي للوباء، وهلم جراً. وكل هذا، بالطبع، وثيق الصلة للغاية -لكنك تشعر، في الوقت نفسه، بأنه غير ذي صلة على الإطلاق عندما توضع أرواح الناس في وضع كان بالوسع تجنبه. وحتى ليلة الجمعة، لقي 1.266 شخصاً حتفهم في إيطاليا بسبب تفشي المرض.
    وإذن، هذا تحذيري للولايات المتحدة: لم يكن ينبغي أن تصل الأمور إلى هنا مطلقاً.
    إننا لم نتمكن، بطبيعة الحال، من وقف ظهور فيروس مميت وغير معروف مسبقاً. ولكن، كان بإمكاننا تخفيف الوضع الذي نحن فيه الآن، حيث يموت أناس كان من الممكن إنقاذهم. كان يمكن أن نتخذ، أنا، والعديد من الآخرين، إجراءً بسيطاً، ولكنه محمّل أخلاقياً: كان بإمكاننا البقاء في المنزل.
    يُظهر ما حدث في إيطاليا أن مناشدات الحكومة -التي كانت أقل من حازمة أو ملحة- لتغيير العادات بشكل طفيف فيما يتعلق بالتفاعلات الاجتماعية، ليست كافية عندما لا تكون النتائج الرهيبة التي صممت من أجل تلافيها ظاهرة بعد؛ والتي عندما تظهر للعيان، يكون الأوان قد فات عموماً للتصرف. لم أر أنا والعديد من الإيطاليين الآخرين الحاجة إلى تغيير روتيننا للتكيف مع تهديد لا نستطيع رؤيته.
    إن إيطاليا تعيش الآن حالة إغلاق منذ 9 آذار (مارس). وقد تطلب الأمر مرور أسابيع بعد ظهور الفيروس هنا لأول مرة لإدراك أن التدابير الصارمة كانت ضرورية بالمطلق.
    وفقاً للعديد من علماء البيانات، تتقدم إيطاليا بنحو 10 أيام على إسبانيا وألمانيا وفرنسا من ناحية تطور الوباء، وتتقدم 13 إلى 16 يوماً أمام المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وهذا يعني أن لدى هذه البلدان الفرصة لاتخاذ تدابير قد تبدو اليوم مفرطة وغير متناسبة، لكنها ستبدو من المستقبل، حيث أنا الآن، عقلانية تماماً لتجنب انهيار نظام الرعاية الصحية. لدى الولايات المتحدة حوالي 45.000 سرير في وحدات العناية المركزة، وسوف يحتاج نحو 200.000 أميركي، حتى في سيناريو تفشٍّ معتدل، إلى عناية حثيثة.
    قبل تفشي المرض، ظننت أنني كنتُ أتصرف بعقلانية عندما قمت بتجميع ومعالجة الكثير من المعلومات والبيانات حول الوباء. لكن كوني جيد الاطلاع لم يجعلني أكثر عقلانية على الإطلاق. لقد افتقرت إلى ما قد تسميه “المعرفة الأخلاقية” للمشكلة. كنت أعرف عن الفيروس، لكن القضية لم تؤثر علي بطريقة شخصية مهمة. وقد تطلب الأمر مواجهة تلك المعضلة الأخلاقية الرهيبة التي يواجهها الأطباء في لومباردي حتى أستيقظ.
    حاولت أن أضع نفسي في مكان هؤلاء الأطباء، وأدركت أنه ينبغي فعل كل شيء لتجنب الاضطرار إلى اتخاذ تلك الخيارات المدمرة أخلاقياً: كيف نقرر من هو الذي يحصل على سرير في وحدة العناية المركزة ومن لا يفعل؟ هل ننظر إلى العمر؟ متوسط العمر المتوقع؟ كم عدد الأولاد لدى المرضى؟ قدراتهم الخاصة؟ وهل تشكل مهنة المريض عاملاً ذا صلة؟ هل من الصواب إنقاذ طبيب في منتصف العمر والذي سينقذ المزيد من الأرواح إذا نجا في مقابل شخص أصغر منه سناً والذي كان عاطلاً عن العمل خلال الاثني عشر شهراً الماضية؟ هذا هو نوع الأسئلة النظرية التي يُطلب منك التعامل معها في فصول القيادة في كلية الأعمال. لكن هذا ليس اختباراً للشخصية. إنها مسألة أرواحٍ حقيقية.
    الطريقة لتجنب -أو التخفيف من- تداعيات كل هذا في الولايات المتحدة والأماكن الأخرى هي فعل شيء مشابه لما تفعله إيطاليا والدنمارك وفنلندا الآن، وإنما من دون إضاعة نفس الأسابيع القليلة الفوضوية التي اعتقدنا فيها أن بعض عمليات الإغلاق المحلية، وإلغاء التجمعات الجماهيرية، والتشجيع المخلص للعمل من المنزل، ستكون كافية لوقف انتشار الفيروس. لقد أصبحنا نعلم الآن أن هذا كله لم يكن قريباً من الكفاية.
    يوم الأربعاء، أعلن رئيس الوزراء، جوزيبي كونتي، الخطوة الأخيرة في عملية حولت إيطاليا تدريجياً إلى دولة معزولة في الحجر الصحي بالكامل. تم فرض إغلاق المتاجر في جميع الأوقات، باستثناء الصيدليات ومخازن المواد الغذائية وأكشاك بيع الصحف؛ حيث تعتبر الحكومة -بحكمة- المعلومات حاجة أساسية. وتم إيقاف جميع الأعمال غير الأساسية مؤقتاً. ويُطلب من الأشخاص الذين يواصلون الذهاب إلى المكتب إثبات الضرورة المطلقة للقيام بذلك عن طريق التوقيع على شهادة يجب أن يتم تقديمها للشرطة التي تقوم بتدقيقها. ويواجه المخالفون ما يصل إلى ثلاثة أشهر من السجن وغرامة. ويُسمح بالخروج لممارسة النشاط البدني، شريطة أن يكون ذلك لوقت قصير وأن يقوم به الشخص منفرداً. وسيتم إغلاق المدارس والجامعات -التي تم إغلاقها مسبقاً منذ 4 آذار (مارس)- حتى 3 نسيان (أبريل) على الأقل، ولكن من المرجح تمديد التاريخ.
    إن الحياة في الإغلاق والحجر صعبة، لكنها أيضاً تمرين في التواضع. إن رفاهيتنا الجماعية تجعل رغباتنا الفردية الصغيرة تبدو غريبة بعض الشيء وصغيرة العقل. ونحن نعمل، زوجتي وأنا، من المنزل، أو نحاول أن نفعل على الأقل. ونقوم بمساعدة الأولاد في واجباتهم المدرسية، باتباع التعليمات التي يرسلها معلموهم كل صباح عبر الرسائل الصوتية والفيديو، في محاولة مؤثرة للإبقاء على علاقاتهم مع طلابهم حية.
    حتى الآن، يشعر ابناي الصغيران بالملل بقدر أقل مما ظننا أنهما سيفعلان، وهما يتأقلمان مع الوضع بشكل جيد. ونحن نحمد الله على وجود سطح مبنانا الصغير المشترك حيث يمكنهم الركض لبعض الوقت في فترة ما بعد الظهر -على الأقل حتى تشكو المرأة في الطابق الخامس من الضجيج أثناء وقت القيلولة. ونخرج، إما أنا أو زوجتي، مرة واحدة في اليوم للمشي مسافة قصيرة زجلب بعض الطعام عندما نحتاج إليه. وعلى الرغم من أن رجال الشرطة يتمركزون في الشارع لثني الجميع عن مغادرة منازلهم، إلا أننا نعتقد أنه ما يزال هناك الكثير من الناس في الخارج. ونحن نقرأ؛ ونصلي؛ ونلعب كرة القدم في الرواق. إنه وقت للتأمل والصمت، ولحظة تظهر فيها بعض الأسئلة الكبيرة -مثل: ما هو السبب بالضبط، الذي جعلنا نقرر عدم امتلاك جهاز تلفاز.
    وهي أيضاً، بطريقة غريبة، لحظة تتضاءل فيها قليلاً نظرتنا الفردانية المتركزة على الذات. ففي نهاية المطاف، يتخلى كل واحد منا عن حريته الفردية من أجل حماية الجميع، وخاصة المرضى وكبار السن. وعندما تكون صحة الجميع على المحك، فإن الحرية الحقيقية تكون في اتباع التعليمات.

*كاتب في صحيفة Il Foglio الإيطالية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: A coronavirus cautionary tale from Italy: Don’t do what we did