كيف كانت حياة الرسول قبل البعثة
Share your love
}
حياة الرَّسول قبل البعثة
أعدَّ الله -سبحانه وتعالى- سيّدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- للنُّبُوَّة منذ نعومة أظفاره؛ فالمُتَتَبِّع لسيرته -عليه الصلاة والسلام- يستطيع أن يُلاحظ ذلك من خلال النظر إلى حياته المليئة بالهدى والنور، والكمال والفضل، والخير والحق، ومن خلال النظر إلى شخصه المُبَرّأ من كل عيبٍ ومن كل نقص، فهو كالنور المُنبعث من وسط الظلمة، والعلم المُنتشر من بين الجهل، وكل هذه العلامات ما كانت إلا لحكمةٍ جليلةٍ وهدفٍ عظيمٍ؛ وهي إعداد نبيٍّ عظيم.[١]
طفولة الرسول عليه الصلاة والسلام ونشأته
عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- يتيماً؛ فقد تُوفّي والده عبد الله وأمّه حاملاً به في يثرب، ولما ولدته أمّه أرسلت إلى جدّه عبد المطلب، فجاءها وأخذ ينظر إليه، وهي تُحدِّثه عما رأت في منامها حين حملت به، فشكر الله وحمده وسمَّاه محمداً، وسيتم فيما يأتي بيان مولده ورضاعه -صلوات الله عليه-:[٢]
‘);
}
مولد الرسول صلى الله عليه وسلم
اتّفق العلماء والرواة على أمورٍ في ولادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنها: أنَّه وُلِّد في مكة المكرمة بعام الفيل في شهر ربيع الأول، وكان ذلك في يوم الاثنين، وتعدّدت آراؤهم فقط في تحديد اليوم من شهر ربيع الأول، وفي تحديد المكان من مكة المكرمة، والسبب في ذلك أنَّه وُلِد في زمنٍ لم يكن فيه تسجيلٌ للمواليد، وإنما كانت المعلومات تعتمد على ذاكرة الرواة التي قد تُصيب وقد تُخطئ، لا سيما أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مبعوثاً في تلك الفترة، لكن أقوى الروايات هي ما يأتي:[٢]
- تاريخ ميلاده: اتّفق العلماء على أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وُلِد في شهر ربيع الأول وفي يوم الاثنين، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ الاثْنَيْنِ؟ قالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)،[٣] لكن تعددت أقوالهم في اليوم الذي وُلِد فيه من شهر ربيع الأول، وذكر منها العالم ابن كثير: إنه في يوم الثاني، أو الثامن، أو العاشر، أو الثاني عشر، أو السابع عشر، أو الثاني والعشرين، والمشهور أنَّ يوم ميلاده هو في الثاني عشر من ربيع الأول في عام الفيل.
- مكان ميلاده: اتّفق العلماء على أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وُلِد في مكة المكرمة، لكن تعدّدت آراءهم في المكان الذي وُلِد فيه بمكّة، فقيل: بعسفان، وقيل: في شِعْب بني هاشم، وقيل: بالردم، وقيل: في الدار التي عند الصفا.
رضاع الرسول صلى الله عليه وسلم
إنّ والدة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هي أوّل من أرضعته، وقد أرضعته فقط ثلاثة أيام، أو سبعة، أو تسعة، ثمَّ أرضعته جاريةٌ لعمّه أبي لهب تُدعى ثويبة مع ابنها مسروح، وعمه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، وأبي سلمة المخزومي ابن عمّته، وقد عُرض على النبيّ فيما بعد الزواج من فاطمة ابنة عمه حمزة، ودرّة بنت أبي سلمة، فرفض الزواج بهنّ لأنّهن بنات إخوانه من الرضاعة، وكان من عادة أشراف العرب أن تُرسل أبناءها للبوادي لتلتمس المراضع هناك، وذلك حرصاً منهم على أن يخرج الولد صافي الذهن، نجيباً، بعيداً عن الكسل، وليكون لسانه فصيحاً، سالماً من اللَّحن، بريئا، وكانت قبيلة بني سعد من القبائل المشهورة بالفصاحة والمرضعات، ومنهنّ حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية التي أرضعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمدّة سنتين.[٤]
وقد أعادت حليمة السعدية النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى والدته بعد أن أرضعته، فاحتضنته والدته وقبّلته وملأت عينيها منه، وكانت قد ظهرت عليه علامات النموّ والنّضارة والصّحة، لكنّ حليمة خافت عليه أن يبقى في مكّة؛ لأنَّ الوباء قد انتشر فيها، فطلبت من أمّه أن تعيده معها، واستمرّت في توسّلها حتى قبلت، ثم أعادته بعد سنتين وهي خائفة قلقة، وعندما سألتها السيدة آمنة عن سبب ذلك، أخبرتها بقصّة المَلَكيْن اللّذان شقّا صدر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعندما كبر قليلاً وأصبح يلعب مع إخوانه في الرضاعة في أرجاء الخيمة، حدث معه أمراً خارجاً عن المألوف، وقد قصّ أحد إخوته من الرضاعة الحدث على حليمة، وقد ثبت عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه قال: (أنَّ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- أتاهُ جِبْرِيلُ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- وهو يَلْعَبُ مع الغِلْمانِ، فأخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عن قَلْبِهِ، فاسْتَخْرَجَ القَلْبَ، فاسْتَخْرَجَ منه عَلَقَةً، فقالَ: هذا حَظُّ الشَّيْطانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ في طَسْتٍ مِن ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأَمَهُ، ثُمَّ أعادَهُ في مَكانِهِ)،[٥] فطمأنتها آمنة بأنّه -عليه الصلاة والسلام- سيكون له شأنٌ، وأنَّه لا سبيل للشيطان عليه.[٤][٦]
وقد حضنته في فترةٍ من الفترات أم أيمن بركة الحبشية، وطلب الصحابة -رضي الله عنهم- في يومٍ من الأيام أن يُحدّثهم النبيّ عن نفسه، فقال: (أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسى عليهما السلامُ، ورأَتْ أمي حين حملتْ بي أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشامن واستُرضِعْتُ في بني سعدِ بنِ بكرٍ).[٧][٢]
وفاة أمّ وجدّ الرسول عليه الصلاة والسلام
تُوفّيت أم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في السنة السادسة من عمره في منطقةٍ تسمّى الأبواء، ودُفنت فيها وهي في طريق عودتها من أهلها من بني النجار القاطنين في يثرب، وقد وقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قبرها بعد بعثته فبكى وأبكى من حوله، وقال: (استأذَنتُ ربِّي في أن أستغفرَ لَها فَلم يأذَن لي، واستأذَنتُ ربِّي في أن أزورَ قبرَها فأذنَ لي)،[٨] وبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمر الثمان سنوات في كفالة جدّه عبد المطّلب الذي كان يُحبّه ويُجلسه على فراشه، ولكنه توفّي بعد ذلك،[٩] وكان عمره اثنين وثمانين سنة، وقيل: خمساً وتسعين سنة، وقيل: مئة وعشر سنوات، وقيل: مئة وأربعون سنة.[١٠]
كفالة أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
كفل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة جدّه عمّه أبو طالب، وكان كثير العيال وقليل المال، لكنَّه أحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- حبّاً شديداً، وكان يُشفِق عليه ويَرفق به،[٩] ونتيجةً لفقر عمّه عَمِل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى سنّ الثانية عشر في رعي الغنم، وفي يومٍ من الأيام أقنع عمّه أبا طالب الذي كان يعمل قائداً للقوافل المكية أن يذهب معه، وقَبِلَ بعد إلحاحٍ كبير، وكانت المرة الأولى التي يتّصل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في العالم الخارجي، حيث مبادلة بضائع بلاد اليمن والهند مع بلاد البحر الأبيض المتوسط التي قد تفتح له باباً لدعوته المستقبليّة، واستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمّه في منطقة البصرى الشامية راهبٌ يُدعى بحيرا، وقَدَّم لهم الضّيافة، وأخبَر أبا طالب بأنَّ النبيّ سيكون له شأناً عظيماً، وأنَّه يجب أن يحذر عليه من اليهود ويرجع به إلى مكة، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعمّه لم يعطوا لهذه الحادثة اهتماماً ومضوا في تجارتهم.[٦]
شباب الرسول عليه الصلاة والسلام
صفات وأخلاق الرسول قبل البعثة
كَرِه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عبادة الأصنام والتمسّح بها منذ نعومة أظفاره، ولم يكن يرضى أن يسجد لصنمٍ، أو يذهب لعرَّافٍ أو كاهنٍ، فكانت عقيدته سليمة، وإيمانه صادق، وتفكيره عميق، ولم يستسلم لتُرّهات الجاهلية، وكان يُبغض اللّات والعزّى، وكان يُلقّب -صلوات الله عليه- بالأمين قبل البعثة؛ لِما كان يتحلّى به من حُسن الخُلُق، والحلم، والصدق، والأمانة، وحُسن الجوار، والبعد عن الفحش، والتّنزّه عن الأخلاق التي تعيب الرجال، وكل ذلك نتيجةً للعناية الإلهية التي كانت تحيط به من كل مكانٍ، وتحفظه من سيّئات الجاهلية ليحيى حياةً فاضلةً كريمةً خاليةً من الزلَّات والهفوات.[١١]
ولم يكن -عليه الصلاة والسلام- يُحبّ الشِّعر، ولم يقُلْه يوماً، ولم ينشد قصيدةً كاملة، لأن الشِّعر شيء، والنبوّة شيءٌ آخر، ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ)،[١٢] لكنَّه كان يتذوّق الشِّعر ويتعلّم منه الحكمة والروعة والجمال، وكان يكره الخمر أيضاً ولم يشربه قطّ، وبالرغم ما كان عليه من الشرف والنسب والفتوّة والكمال والجمال، إلا أنَّه لم ينغمس بما كان يغرق به مجتمعه من اللّهو، والقمار، وغيرها من الأمور، وحتّى الأمور التي يُتسامح بها في الطفوله ككشف العورات قد عصمه الله منها، وكان من توفيق الله له أن وقف مع الناس بعرفاتٍ، وليس كما يفعل قومه الذين يقفون بمزدلفة، ومن ذلك ما رواه جبير بن مطعم: (لقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قبلَ أنْ ينزِلَ عليْه وأنا واقفٌ على بعيرٍ لي، وهو واقفٌ على بعيرٍ له بعرفاتٍ مع ناسٍ من قومِه حتى دفع معهم).[١٣][١١]
وقد تنزّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الفُحش أو القبح في الكلام، وعبادة الأوثان أو الأكل مما يُذبح لها حتى قبل البعثة، فقد عصمه الله -تعالى- من مشاركة شباب جيله في مكة في عَبَثهم ولَهْوهم، حتى عندما همَّ بالذهاب لسماع غناء في حفلة عرس في مكة أنزل الله -تعالى- عليه النوم فلم يستيقظ إلا من حرّ الشمس.[١٤]
أمانة الرسول صلى الله عليه وسلّم
كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- معروفاً بأمانته، وعندما أراد الهجرة كانت أمانات أهل قريشٍ عنده، فجعلها عند عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- ليُعيدها إلى أهلها، وكان صادق الحديث، وشهد له بذلك أعداؤه، ولمّا بعثه الله وأمره أن ينذر عشيرته الأقربين، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا)،[١٥] وكان به من الصّفات الحسنة قبل البعثة ما يدلّ عن نبوّته، وهي ما قالتها عنه السيدة خديجة -رضي الله عنها- في بدء النبوة: (أبْشِرْ فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ).[١٦] وتعتبر هذه الحياة الكريمة الفاضلة قبل البعثة وبعدها من دلائل نبوّته -صلوات الله عليه-.[١١]
واستمرّت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى سن الخامسة والعشرين حياةً بسيطة، وكان لا يزال عازباً في تلك الفترة، لأنَّه لم يكن يملك الصداق الكبير الذي قد تطلبه إحدى شريفات مكة،[٦] مع أنَّه كان محلّ احترام، وموضع ثقةٍ عند أهل قريش، حتى إنهم قالوا عندما رأوه: (هذا الأمينُ رَضِينا، هذا محمَّدٌ)،[١٧] وقد ذكر ابن الأثير أنَّ سبب زواجه بالسيدة خديجة -رضي الله عنها- هو أمانته، واتّصافه بكرم الأخلاق، وصدق الحديث، مما جعلها تطلبه ليخرج في مالها للتجارة في الشام، ورافقه غلامها ميسرة، وعندما عاد ميسرة حدّها عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وعن أخلاقه، فقرّرت الزواج به.[١٨]
وعُرفت أمانة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد البعثة من خلال تأديته للأمانة الكبرى والرسالة العظمى، بالإضافة إلى تَحَمُّل أعظم أنواع المشقّة بسببها،[١٨] وقد كان معلماً حكيماً وقرآناً ناطقاً يمشي على الأرض، ونوراً تُضاء به العقول والقلوب والأرواح، وكان يمتاز بجوده وإيثاره وإطعامه للمساكين من قبل أن يكون رسولاً، لذلك وُصف بأنَّه كالريح المرسلة، وأنه يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كيف لا وقد أدّبه ربه، وفطَره على مكارم الأخلاق.[١٩]
عمل الرسول صلى الله عليه وسلم
ثبت عن السائب -رضي الله عنه- أنّه قال: (أنَّه كان يُشارِكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبلَ الإسلامِ في التِّجارةِ، فلمَّا كان يومُ الفتحِ جاءه فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مرحبًا بأخي وشريكي، كان لا يُدارِي ولا يُمارِي)،[٢٠] ويُستفاد من الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعمل في الجاهليّة بالتجارة، وأنَّ الشركة كانت من العقود الجائزة المعروفة قبل الإسلام وأقرّها بعد ذلك، وقد عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- برعي الغنم،[٢١] تمهيداً له للرعي الأكبر والسياسة العظمى، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا رَعَى الغَنَمَ، فقالَ أصْحابُهُ: وأَنْتَ؟ فقالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أرْعاها علَى قَرارِيطَ لأهْلِ مَكَّةَ)،[٢٢] فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأجر نفسه لأهل مكة ليرعى غنمهم مقابل قراريط يأخذها أجرةً له، وكانت هذه المهنة مهمّة للأنبياء؛ لما فيها من إعدادٍ لهم ليرعوا شؤون أقوامهم، فرعاية الغنم تتطلّب المحافظة عليها، وحراستها، وحلبها، وجلب المنافع لها، وحمايتها من الأمراض بعلاجها، وسياسة البشر تتطلب حمايتهم من كل أمرٍ ضارٍّ، وجلب كل خيرٍ لهم، وتحمّل مسؤوليتهم.[٢٣]
زواج الرسول من خديجة رضي الله عنها
تزوّج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من السيدة خديجة -رضي الله عنها- وهو ابن خمسةٍ وعشرين سنة،[٢٤] وقد كانت امرأةً شريفةً، حازمةً لبيبةً، من أعلى نساء قريش في الفضل، والمال، وأوسطهم في النسب، وكانت تُلَقّب بالعفيفة الطاهرة، وكان يحرص العديد من الرجال من أشراف القوم على الزواج منها، ومع ذلك كان زواجه -صلى الله عليه وسلم- بعرضٍ من خديجة نفسها، وذلك لِما عرفته عنه مما يشاع في مكة من حسن خُلُقه، وصدقه، وأمانته، وتأكّدت من ذلك بنفسها من خلال دعوتها له للمتاجرة بمالها في الشام مع أجرةٍ مضاعفة، وكان يذهب معه غلامها ميسرة الذي كان يرجع ويقصّ لها ما رأى من المعجزات والآيات التي تحدث مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان هذا الزواج من العلامات البارزة في رعاية الله -تعالى- لنبيّه الكريم، وإعداده لهذه المهمّة النبيلة.[٢٥]
وخطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- خديجة من أبيها خويلد بن أسد، فزوّجه منها وسكن في بيتها، وقال ابن إسحاق -رحمها الله- إنها كانت في الثامن والعشرين من عمرها، بينما ذهب الواقدي إلى أنها كانت في الأربعين، وأولاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من خديجة هم: القاسم الذي كان يُكنّى النبيّ باسمه، وعبد الله الملقّب بالطاهر والطيب، وتُوفّيا قبل الإسلام، وأربع بنات هن: زينب، وأم كلثوم، وفاطمة، ورقية، وأسلَمْن -رضي الله عنهنّ- وهاجرن معه -صلوات الله عليه-، ولم يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيته إلا بعد وفاة خديجة بثلاث سنوات، أي عند الهجرة، ومن الجدير بالذكر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوّج على السيدة خديجة حال حياتها، مع العلم أنَّه عندما تزوّجها لم تكن بكراً، بل كانت قد تزوّجت مرّتين قبله، وهذا يدحض كل الافتراءات التي تدّعي أنَّ النبيّ كان يعدّد بداعي الشهوة والمُتَع الزائلة، مع العلم أنَّه كان يستطيع فعل ذلك دون الخروج عن عادات قومه، لأنَّ هذا هو المألوف عندهم.[٢٥]
التحاكم للرسول عند بناء الكعبة
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخامسة والثلاثين من عمره عندما أرادت قريش بناء الكعبة خوفاً عليها من أن تنهدم بسبب السيول، وقد كان لرسول -صلى الله عليه وسلم- أثراً كبيراً في هذه الحادثة،[٢٦] ويتّضح ما للكعبة من أهميةٍ كبيرةٍ؛ لأنها أول بيت بُنيَ لعبادة الله وتوحيده، وبُنيت بأمرٍ من الله لخليل الله إبراهيم -عليه السلام- في قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)،[٢٧] وقد كان تعظيم الكعبة هو الجزء الذي بقي محفوظاً من شريعة إبراهيم عند العرب، فعندما تعرّضت الكعبة لسيلٍ عارمٍ جَرَف مكة قبل البعثة، فضعف بنيان الكعبة، وتصدّعت جدرانها، فلم تجد قريشاً بُداً من إعادة بناء الكعبة.[٢٨]
وقد شارك الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، حيث كان ينقل الحجارة على كتفه، ومن ذلك ما رواه جابر -رضي الله عنه- قال: (لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ، ذَهَبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الحِجَارَةَ، فَقالَ عَبَّاسٌ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اجْعَلْ إزَارَكَ علَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنَ الحِجَارَةِ، فَخَرَّ إلى الأرْضِ وطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إلى السَّمَاءِ، ثُمَّ أفَاقَ، فَقالَ: إزَارِي إزَارِي فَشَدَّ عليه إزَارَهُ)،[٢٩] وقد حلّ النبي بحكمته ورجاحة عقله مشكلة وضع الحجر الأسود بين القبائل في ذلك الوقت.[٢٨] فقد قسَّمت قريش بناء الكعبة بين قبائلها كل جهة لقبيلة، لكن عندما وصلوا لوضع الحجر الأسود اختلفوا لمن سيكون شرف وضع الحجر الأسود، وكادوا أن يقتتلوا، وشاء الله -تعالى- أن ينال نبيّه الكريم هذا الشرف، فهو من وضع الحجر بعد تخاصمهم واختيار الله له ليحلّ المشكله بينهم بدخوله من باب الكعبة عندما قرروا أن يُحَكّموا من يدخل عليهم، فقضى بوضع ردائه ووضع الحجر الأسود عليه، وأمر كلّ قبيلة بأن تُمسك بطرف الثوب وترفعه إلى أن يساوي مستوى الجدار، وعندها أخذه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيديه الشريفتين ووضعه في مكانه، ونال هذا الشرف العظيم كمقدمة للتكريم.[٣٠]
وكان النبيّ يُلَقّب عند أهل قريش بالأمين، لذلك ارتضوا به حكماً بينهم وقالوا: (هذا الأمينُ رَضِينا، هذا محمَّدٌ، فلمَّا انتَهى إليهم وأخبَرُوه، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هَلُمَّ إليَّ ثَوًّبا، فأُتِيَ به، فأخَذَ الرُّكنَ -يعني الحَجَرَ الأسودَ- فوضَعَه فيه بيدِه، ثمَّ قال: لِتَأخُذْ كلُّ قَبيلةٍ بناحِيةٍ مِنَ الثَّوبِ ثمَّ: ارفَعُوه جميعًا، ففَعَلوا، حتَّى إذا بَلَغُوا به موضِعَه وضَعَه هو بيدِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، ثمَّ بَنى عليه)،[١٧][١٨] وعندما اقترب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من سنّ الأربعين كانت تأمّلاته العقلية قد وسَّعت الفجوة بين تفكيره وتفكير قومه من حيث إلحادهم وكفرهم بالآخرة، وإيمانه بأنَّ هناك ربٌ لهذا العالم، حتى أنَّه كان يقضي شهر رمضان في غار حراء الذي يقع في رأس جبلٍ من جبال مكة، ينزوي فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويأخذ زاداً من الليالي الطوال، ويتفكّر فيما خَلَق الله -سبحانه-.[٣١]
مكانة أقوال وأفعال الرسول قبل البعثة
تنقسم أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة بالنسبة لنا إلى قسمين: فالقسم الأول أفعال وأمور فعلها قبل البعثة وبعدها، وجاء الأمر بمشروعيّتها إما من باب الاستحباب أو الوجوب، ومثال ذلك: وفائه بالعهد، وإكرامه للضيف، وإعانته للملهوف، وإعانته على نوائب الحق، فهذه أمور علينا الاقتداء به فيها، ليس لأنَّه فعلها قبل البعثة فحسب، وإنما لأنَّه أقَرّها بعد البعثة وأصبحت تشريعاً لنا، أمّا القسم الثاني: فهي أمورٌ فعلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، لكن لم يثبت تشريعها في حقّنا، لورود ما يعارضها أو ينسخها بعد البعثة.[٣٢]
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الإجماع على أنَّ المفروض على المسلمين اتّباعه والإيمان به والعمل بما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد النبّوة، فإذا قام شخصٌ بترْك صلاة الجمعة والجماعة، وذهب للتعبّد في غار حراء أربعين يوماً؛ لا يعتبر متَّبِع لسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ هذه الأمور من الأفعال التي تركها -صلوات الله عليه- بعد النبوّة، والدليل على ذلك أنه لم يقم أحدٌ من الصحابة بفعل ذلك، ويَعْتبر المحدّثون أن كلّ ما ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل وقتٍ قبل البعثة وبعدها من السُّنة، لذلك هم يروونها في كتبهم،[٣٢] مع أنَّ حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة؛ أي في طفولته وشبابه، تميّزت بالمثالية التامة، وحُسن السلوك، وخير الأخلاق، والرعاية والحفظ الإلهي، لكن لا يصحّ القول إنها مصدراً للتشريع، وذلك لأنَّه لم يكن نبيّاً معصوماً، ولم يوحَ له بعد.[٣٣]
المراجع
- ↑موسى العازمي (2011)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (الطبعة الأولى)، الكويت: المكتبة العامرية، صفحة 150، جزء 1. بتصرّف.
- ^أبتمحمد السلمي (2010)، صَحِيحُ الأثَر وجَمَيلُ العبر من سيرة خير البشر (صلى الله عليه وسلم) (الطبعة الأولى)، جدة: مكتبة روائع المملكة، صفحة 80-82. بتصرّف.
- ↑رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو قتادة الحارث بن ربعي، الصفحة أو الرقم: 1162، صحيح.
- ^أبمحمد أبو شهبة، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة (الطبعة الثامنة)، دمشق: دار القلم، صفحة 191-197، جزء 1. بتصرّف.
- ↑رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 162، صحيح.
- ^أبتمالك بن نبي (2000)، الظاهرة القرآنية (الطبعة الرابعة)، دمشق: دار الفكر، صفحة 110-114. بتصرّف.
- ↑رواه ابن كثير، في البداية والنهاية، عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، الصفحة أو الرقم: 2/256، إسناده جيد قوي.
- ↑رواه الألباني، في صحيح ابن ماجة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 1287، صحيح.
- ^أبمحمد السلمي (2010)، صَحِيحُ الأثَر وجَمَيلُ العبر من سيرة خير البشر (صلى الله عليه وسلم) (الطبعة الأولى)، جدة: مكتبة روائع المملكة، صفحة 83. بتصرّف.
- ↑علاء الدين مغلطاي (1996)، الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا (الطبعة الأولى)، دمشق: دار القلم، صفحة 73-74. بتصرّف.
- ^أبتمحمد أبو شهبه، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة (الطبعة الثامنة)، دمشق: دار القلم، صفحة 235-240، جزء 1. بتصرّف.
- ↑سورة يس، آية: 69.
- ↑رواه البزار، في البحر الزخار، عن جبير بن مطعم، الصفحة أو الرقم: 8/349، صحيح الإسناد.
- ↑مصطفى السباعي (1985)، السيرة النبوية – دروس وعبر (الطبعة الثالثة)، بيروت: المكتب الإسلامي، صفحة 35. بتصرّف.
- ↑رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 4770، صحيح.
- ↑رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 4953، صحيح.
- ^أبرواه أحمد شاكر، في عمدة التفسير، عن -، الصفحة أو الرقم: 1/182، أشار في المقدمة إلى صحته.
- ^أبتمجموعة من المؤلفين، موسوعة الأخلاق الإسلامية، صفحة 92، جزء 1. بتصرّف.
- ↑سعد المرصفي (2009)، الجامع الصحيح للسيرة النبوية (الطبعة الأولى)، الكويت: مكتبة ابن كثير، صفحة 688، جزء 3. بتصرّف.
- ↑رواه الهيثمي، في مجمع الزوائد، عن السائب بن أبي السائب، الصفحة أو الرقم: 1/99، رجاله رجال الصحيح.
- ↑عطية سالم، شرح بلوغ المرام، صفحة 10، جزء 209. بتصرّف.
- ↑رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 2262، صحيح.
- ↑محمد صالح المنجد، دروس للشيخ محمد المنجد، صفحة 13، جزء 255. بتصرّف.
- ↑علاء الدين مغلطاي (1996)، الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا (الطبعة الأولى)، دمشق: دار القلم، صفحة 81. بتصرّف.
- ^أبمحمد الدبيسي (2010)، السيرة النبوية بين الآثار المروية والآيات القرآنية، القاهرة: رسالة دكتوراة، كلية الآداب-جامعة عين شمس، صفحة 208-2010. بتصرّف.
- ↑علاء الدين مغلطاي (1996)، الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا (الطبعة الأولى)، دمشق: دار القلم، صفحة 84. بتصرّف.
- ↑سورة البقرة، آية: 127.
- ^أبرمضان البوطي، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة (الطبعة الخامسة والعشرون)، دمشق: دار الفكر، صفحة 55. بتصرّف.
- ↑رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم: 3829، صحيح.
- ↑عطية سالم، شرح بلوغ المرام، صفحة 3، جزء 179. بتصرّف.
- ↑محمد الغزالي، فقه السيرة، دمشق: دار القلم، صفحة 89. بتصرّف.
- ^أبمحمد صالح المنجد (2009)، القسم العربي من موقع (الإسلام، سؤال وجواب)، صفحة 5، جزء 5. بتصرّف.
- ↑رقية نياز، السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ومكانتها من حيث الاحتجاج والمرتبة والبيان والعمل، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، صفحة 42. بتصرّف.